في ظلمة ما نعيشه من ظلم وفساد وسوء أخلاق لا بد أن يكون هناك شمعة تضيء لتأتي لنا ببصيص من النور يبعث في أنفسنا الأمل، هذا الأمل هو الذي يعطينا القوة والصبر على الثبات والاستمرار في محاولة التغيير.. وبين انشغال الناس بأنفسهم ودورانهم في فلك مصالحهم الشخصية التي يتفاوت الناس في سيعهم لتحقيقها حتى تصل ببعض الناس إلى إمكانية إهمال كل قيمة والخروج عن كل خلق للوصول إلى هذا الهدف المنشود للدخول في هذا السباق المحموم بجمع المال أو اعتلاء المناصب، أقول وبين انشغال الناس بأنفسهم، تجد بعض الناس قد ألقى الله في قلوبهم من الرحمة وهيأ لهم من الأسباب ما جعلهم ينشغلون بقضاء حوائج الناس والسعي في مصالحهم.
في وسط هذا الهرج الذي نعيشه ترى أناسًا أيقظهم الله من غفلتهم وبصرهم بمهمتهم فأدركوا أن هناك غاية من وجودهم أعظم من تلك التي عاشوا لها فترات سابقة من حياتهم.
خرج علينا منذ فترة مشروع بنك الطعام، والحق أنني كما تعودنا للأسف كنت ممن ساوره الشك عند رؤيتي للإعلانات الأولى لهذا المشروع، فقد فقدنا المصداقية بشكل أصبحنا لا نثق في أي عمل لا يظهر من ورائه منفعة للقائمين عليه، فنحجم عن المشاركة، بل وقد نشكك غيرنا في العمل.. لقد وصل بنا الأمر إلى أننا ننظر بعين الاتهام لكل مبادرة للقيام بعمل عام وننتظر قائلين متى يظهر فساد النوايا والمصالح الخاصة من وراء هذا العمل؟ وتوقعت مع غيري ألا يستمر هذا العمل، ولكن والحمد لله، خيب الله ظني، واستمر العمل، وتوسع، ونمت موارده، وتطور أداؤه، فصار شمعة من تلك الشموع التي تظهر لنا بصيص الأمل في أن الأمر ممكن.. نعم، من الممكن أن نتعاون، من الممكن أن نلتف حول شيء ما، وهذه هي القضية، إننا نحتاج إلى قضية، قضية تمس حياة الناس ومستقبلهم نؤمن بها ونتحرك من أجلها، وتذوب فرديتنا فيها من هدف أو غاية سامية..
غاية ترتقي بمهمتنا وتصحح نيتنا لنخرج من الحياة البهيمية إلى حياة تليق بالإنسان الذي كرمه الله سبحانه، فما خلقنا لنعيش مثل البهائم، بل كرمنا المولى عز وجل وجعل لنا مهمة الاستخلاف في هذه الأرض، لنوصل الخير للإنسان والحيوان والطير والنبات.
ثم أعيش تجربة عملية أتأملها وأرى فيها من عجائب تدبير الحق سبحانه وتعالى واستعماله لخلقه فيما أراد، أيات يعجز العقل عن إدراكها.. أعيش سنوات مع صديق مقرب أتاه الله من أسباب الدنيا من مال وجاه وما يتعلق به قلوب الخلق الكثير.. ورأيته دائمًا شاكرًا لأنعم الله، مبادرًا في فعل الخيرات، متواضعًا وعلى هذه الحالة زوجته وهي الصديقة المقربة لزوجتي، ويشاء الله أن يحرما من الإنجاب، وكنت أرى حبهما الشديد للأطفال في تدليلهم لأولادي وشدة حنوهم عليهم.. وبعد سبع سنوات رزقهم الله بطفل وبعده طفلتين عاشا حياتهما في سعادة بالغة، وأصبحت الأم تدور في ملك أطفالها، نسيت معها نفسها وكل شيء حولها، والحق أني رأيت أبناءهم يترعرعون أمامي على أحسن ما يكون الأمر في تنشئة الأولاد أدبًا ودينًا وعلمًا.. وتميز الصبي بكل ما يتمنى إنسان أن يراه في ولده، من حسن تربية وطيبة قلب وخفة ظل وحنان على والدته وشقيقتيه.
وفي عمر العاشرة، ينـزل القضاء الذي لا راد له، فيتوفى هذا الطفل الذي كان أمل والده وقرة عين أمه، ولنا أن نتخيل هذه الصدمة ونتصور هذا الألم، خاصة أن الوفاة كانت بلا مقدمات.. حالة من الذهول يعيشها الأب، فلقد فقد السبب الذي من أجله يحيا من وجهة نظره الخاصة، وحتى لا أطيل في تصوير هذا المشهد الحزين، أعيش معكم لأتأمل الخير الذي يرسله الله مغلفًا بالبلاء، ولنرى كيف أن المحنة تأتي وهي تحمل في باطنها المنة والعطاء من الله.. ما هي إلا أسابيع أو أيام قليلة إلا وقد أخرج المولى بإلهام منه سبحانه وتعالى الوالدين من الضيق إلى السعة، وحملهم على مركب الأحزان إلى غاية عظمى وهدف سامٍ، كسرت هذه المحنة الفلك الخاص الذي كان يدور فيه الوالدان وهو تربية الأولاد، إلى عمل عظيم لا يقدر عليه إلا من خصه الله بإجراء الخير على يديه.. فأنبتت شجرة الحزن على طفل جميل، رأيته كالملاك الطاهر وأنا أضعه في قبره، ثمرة عظيمة وهي مؤسسة خيرية باسمه توجه للأنفاق على أمراض القلب للأطفال وتطوير مجال العناية بصحة الطفل.
وكأن هواتف الحق تنادي على الوالدين فتقول: أردتما أن تعتنيا بطفل واحد إلا أن القدر قد هيأ لكم من الخير ما هو أعظم فجعلكم سببًا يساق به الخير إلى الآلاف بل الملايين من الأطفال، وكأن الحق أراد لهذا الطفل الذي كان سببًا لسعادة كل من حوله، أن تتسع دائرة من يكون سببًا في إسعادهم بل ورفع العناء عنهم، فيصل بسببه الخير لمن لا يعرفه، فيسخر الأب موارده، وتفرغ الأم وقتها بعد العناية بابنتيها لهذه المؤسسة (مؤسسة يحيى عرفة الخيرية).
لقد انطفأت شمعة بموته، ولكنه كان سببًا في إضاءة شموع متوالية على مر السنين، أدام الله هذا العمل وبارك فيه.
ويأتي فضيلة المفتي ليضيء لنا شمعة أخرى في هذا الظلام الدامس بإعلان تأسيس صندوق استثمار للإنفاق على مجال الصحة، هذا القطاع الذي صار يؤرق قطاعًا كبيرًا من هذا الشعب. فالذي يحاول أن يقوم بأي عمل خيري أو تطوعي سيرى كم المعاناة التي يعانيها الناس تحت وطأة المرض، فالأسر التي بها فرد مريض تـئن من شدة المعاناة للوفاء بمصروفات العلاج، بل والأصعب من ذلك أن المشكلة ليست مادية فقط، فإن وجد المال اصطدم المريض بمشكلة نوعية، فنادرًا ما يتلقى العلاج المناسب، حيث تدهور مستوى الأطباء العلمي وخاصة في الريف، ناهيك عن غياب الضمير عن قطاع كبير، فهم جزء من هذا المجتمع الذي يعاني من أزمة حقيقية في أخلاقه.
تأتي هذه المبادرة لتطرق هذا الباب، والحق أن القطاع يحتاج إلى مجاهدين ليقتحموا حصونه، فقد وصل الفساد فيه إلى صورة قاتمة، من آخر مشاهدها ما رأيته منذ أسبوعين في أحد أقسام الشرطة، وهو شاب في مقتبل العمر جاء يشتكي من الاعتداء عليه، فإذا بالتحقيق يتبين أنه قد باع كليته، وقد اتفق معه المشترون على مبلغ من المال قدره خمسون ألفًا، وبعد إجراء الاستئصال دفعوا له تسعة آلاف جنيه فقط، حصل السمسار منها على ألف جنيه.. (شعرت أني أمام فيلم سنيمائي، يبالغ فيه المخرج في تصوير الفساد).
ومع وجود هذه العصابات وأمثالها يصير هذا القطاع في حاجة إلى رجال من نوعيه المجاهدين حقيقية ليدكوا حصون هذه العصابات من المنتفعين.. والصور كثيرة ومتعددة ومنتشرة في كل بؤرة.. تأتي هذه المبادرة للنهوض بقطاع يمس حياة الشعب، فهل من مساندة ودعم حقيقى للنهوض بهذا المشروع؟
والعجيب أن الإعلان والصحافة أقامت الدنيا ولم تقعدها في مسألة شرب أحد الجاريات لبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذت تشهر بفضيلة المفتي، ولست هنا بصدد الكلام في هذه المسألة، ولكن الشاهد أننا لم نر شيئًا من هذا الضجيج لمساندته في هذه المبادرة التي تمس حياة هذا الشعب وصحة وسلامة كل فرد من أفراده.
فمن الواضح أن الأولويات قد اختلت في عقول الناس فأصبحوا لا يفرقون بين القضايا الحقيقية والمسائل الفرعية، وأصبح كل من أراد أن يكون له مكان أو أن يسمع به الناس، عليه أن يحدث ضجيجًا من أي نوع.. ويا ليت الواحد بنا يفتش في قلبه ليصحح نيته قبل أن يكتب أو أن يتكلم..
في هذا الليل البهيم هناك بعض المشاعل فهل من الممكن أن نحاول حملها بدلا من إطفائها..