قامت الدنيا ولم تقعد، وتكالبت القوى المتنافرة، واتفقت التيارات الفكرية المتغايرة على هجوم شرس على الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية.. وأدلى كل بدلوه، البعض بإبداء رأي موضوعي له قيمته، ومن ورائه عقلية تنظر إلى الأمور بعين الإنصاف، والأكثرية علت منه أصوات إثارة حملت من سوء الأدب والتطاول والاستخفاف والتهكم ما لا يليق عند الحديث عن العلماء، ولا سيما إن كان العالم على هذا النحو من الرقي فهمًا وعلمًا وخلقًا..
كل من هب ودب كتب وتكلم، وأنا على يقين أن السواد الأعظم منهم لم يقرءوا ما كتب الشيخ، ولكن نقلا عن نقل عن نقل.. إلخ
لماذا يتكلم إنسان فيما لا يفهم؟ هل الأقلام التي في أيديهم والمساحات التي مكنهم الله منها سبب كافٍ ليخوضوا فيما شاءوا ويتكلموا فيما لا يعوا؟
(فتوى د. علي جمعة)، وهذا الكلام ليس من الفتوى، وهل لأن الشيخ في منصب الإفتاء، أن كل ما يصدر منه يسمى فتوى؟
إن الفساد يضرب بكل جزء من أجزاء الوطن، والأخلاق في تدنٍ متواصل، واستغلال السلطة (على عينك يا تاجر)،
والأغنياء ثرواتهم تتضخم، والفقراء يأكلون من المزابل.. ومع ذلك فإن إجابة الشيخ عن سؤال عن صحة واقعة شرب الجارية لبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإجابته بأنها صحيحة، وهي بالفعل صحيحة، هذه الإجابة هي التحريف للدين، وهي التدمير لعقول المسلمين، وهي، وهي، وهي.. !!
وهل سمع المسلمون بهذا الكلام إلا بعد الإثارة والتشويش الذي قامت به الصحف.. واقعة حدثت وهي صحيحة، فلماذا يقول الشيخ إن سؤل عنها؟ يكذب ويقول لم يحدث..
أما هذا التصوير الكاريكاتيري والسخرية والتهويل الذي قام به أصحاب الأقلام لا يصح في أمر الدين، وخاصة عند الكلام عن سيد المرسلين وهو أقدس مقدساتنا صلى الله عليه وآله وسلم.. الصحابة لم يكونوا يتبركون بشرب بوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل أحد بذلك، ولم يقل الشيخ حفظه الله ذلك، إذ إن لفظ (كانوا يتبركون) يوحي بأن الفعل كان متكررًا ومقصودًا وهذا غير صحيح، فهي واقعة لم تتكرر ولها ظروفها، ولم يأت في الخبر أنها أي الجارية قصدت شرب البول، بل وجدت إناءً بليل فشربته، ولم يذكر الراوي هل كانت تعلم أصلا أنه بول أم أن الأمر قد التبس عليها.
وكذلك فإن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما شرب دم المصطفى، شربه وقد أمره الرسول أن يدفنه أو يتخلص منه، فغاب عن النبي وشربه، فلا نقول كان الصحابة رضي الله عنهم يشربون دمه الشريف، وما أمرهم بذلك صلى الله عليه وآله وسلم.
اتقوا الله عباد الله، اتقوا الله في مصرنا، اتقوا الله في أبنائنا، أم أن المحبة التي وضعها الله في القلوب لفضيلة الشيخ علي جمعة حفظه الله تثير الحسد في النفوس الضعيفة، فتأكل نار الحسد قلوبهم، وينتظروا مثل هذه الفرص لإخراج سمومهم.
أم أن هناك من يريد أن ينسلخ من الدين، ويجد الفرصة في التطاول على أهل العلم ليشوش على الناس دينها، ويجد الذريعة للخروج والانسلاخ من الدين بالكلية.. من أراد أن ينسلخ فليفعل، فقد قال ربنا: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف: 29] ولكن ليدعنا وعلماءنا فقد ارتضيناهم لديننا، وله أن يرتضي من يشاء، والمرء مع من أحب.
كل ما ترونه في هذا البلد الطيب، وكل ما يجري على أرض الكنانة حفظها الله وبارك فيها لا يثيركم منه شيء، فلم تنتفضوا إلى فتوى الشيخ علي جمعة.. ويا ليتها كانت فتوى.
اتقوا الله في أقلامكم، إن الله لم يعطكم هذه الأقلام إلا وسوف يحاسبكم على ما مكنكم فيه، إن هذه الأقلام ليست من أجل تملق حاكم، أو مجاملة رجل أعمال.. إنها من أجل إصلاح ما استطعنا.
أو ليس أولى بأصحاب الأقلام أن يكونوا عين الحاكم وأن ينقلوا له حالة البلاد وحاجة العباد.. والله لئن فعلوا لكانوا له أعوانًا لا عليه. فلقد ملئت الدنيا صراخًا وعويلا لمسألة شرب البول، وقضايا الأمة ومقدرات الشعب وما يمس حياته،
أين هي من هذا الضجيج؟ لماذا تريدون أن تفقدوا مفتي الديار ودار الإفتاء هيبتها؟
إن الشعب المصري محب لدينه متمسك به، فلئن شككنا الناس في مرجعيتهم الأولى في الإفتاء فلا بد لهم من بديل، فيلجئون إلى هذا وذاك، وتتلاعب بهم الفتاوى الشاذة، ويذهبون لمثل قناة الالتباس والوسواس الشهيرة بقناة الناس.. فإذا ظهر أمراء الجماعات ومرشدوها ليحلوا محل المفتي بل ومحل الحاكم في قلوب أتباعهم وعقولهم، وظهر القتل والإرهاب عدنا لنبكي ونحن نجني ثمار ما فعلنا.
الحاكم ليس في حاجة إلى كل هذا التملق، فهو حاكم البلاد، ولن يتسع حكمه، ولن يمتد سلطانه بهذا التملق، ولكنه بحاجة إلى قلوب مخلصة تكون عينًا له تنقل له آلام الرعية وآمالها.. يحتاج إلى قلب صادق يعينه على ما كلفه الله به، وليس بحاجة إلى من يهلكه بتملقه ونفاقه ومداهنته. أم أننا الذين نحتاج إلى هذا التملق وهذه المداهنة لنتسلق ونعلو في المناصب؟ فوالله لا خير فينا إن لم نعن الحاكم على أمره، حرصًا عليه، فهو مسئول عن رعيته أمام الله، وحرصًا على الرعية التي لا يصل صوتها إليه.
ولنسمع ما جرى بين هارون الرشيد وبين الفضيل بن عياض مختصرًا لنعرف كيف تكون أحوال أهل الصدق مع الحاكم حرصًا عليه وعلى الرعية وعلى أنفسهم؛ (حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فذهب إلى الفضل بن الربيع يطلب منه أن يبحث له عن رجل يسأله، فأخذه إلى سفيان بن عيينة ثم إلى عبد الرزاق بن همام، فلم يجد أمير المؤمنين حاجته عندهم، وقضى لهم ديونيهم بعد سؤالهم عنها، ثم وصل به الأمر إلى الفضيل بن عياض رحمه الله، فلما وصل إلى داره يقول الفضل بن ربيع : فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من القرآن، يرددها، فقال : اقرع الباب.., فقرعت، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين.. قال: مالي ولأمير المؤمنين، فقلت: سبحان الله! أوما عليك طاعة؟ قال : فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة.. قال: فجعلنا نجول عليه بأيدينا، قال: فسبقت كف هارون إليه فقال: أوه من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله.. فقال العزيز: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا علي. فعد عمر الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.. فقال له سالم: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فصم الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت.
وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ولدًا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.. وإني لأقول لك هذا وإني لأخاف عليك أشد الخوف في يوم تذل فيه الأقدام. فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء من يشير عليك أو يأمرك بمثل هذا؟
قال: فبكى هارون بكاءً شديدًا حتى أغشي عليه.
فقال الفضل بن الربيع: ارفق بأمير المؤمنين.
قال الفضيل: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟!
وأخذ الفضيل يعظ هارون وهو يقول له زدني حتى قال له: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل).
يا أهل العلم، يا أصحاب الأقلام، يا أهل الصدق والإخلاص، فرقوا بين القضايا والمسائل، فرقوا بين العالم الرباني وبين أدعياء العلم، فرقوا بين نصح الحاكم للبناء وبين المعارضة لمجرد الهدم، وفرقوا بين إعانة الحاكم على أمره وبين تملقه لإرضائه.
أمرنا رسول الله أن نكون عباد الله إخوانًا!!