نسخة تجريبيـــــــة
الأزهر والدولة معا في مواجهة التطرف والإرهاب

من المضحك وأحيانًا يكون مما يبكي حقًّا ما نسمعه ونراه في هذه الأيام عند تعامل الناس مع العلم الشرعي ولا أقول مع الدين، فالدين يخص كل من يدين به، أما العلم فهو تخصص له أهله شأنه في ذلك شأن سائر العلوم..
فكلما جلست مع مجموعة من الأصدقاء أو الأقارب أو المعارف تجد من يقول إيه رأيك في فتوى المفتي بكذا وكذا؟ وهذا السؤال في ذاته يظهر مدى الجهل الذي نعيش فيه.. إن الفتوى من متخصص فضلا عن كونه ولي أمر الإفتاء في الديار المصرية، ليس مسلسلا أو فيلما أو مجالا عامًّا حتى يصير محل استفتاء من العوام من أمثالي.. فلم أسمع من قبل عن أحد يسأل في أحد هذه الصالونات،
ما رأيك في الأسلوب الذي اتبعه الطبيب الفلاني في إجراء عملية القلب المفتوح لفلان؟
نعم، أقول يظهر مدى الجهل لأن المتكلم لا يعرف ما هي الشروط التي يجب أن تتحق في العالم لكي يتصدر الإفتاء.. فليس كل من له دراية بالعلم الشرعي يصلح للإفتاء، ناهيك عن أن يكون طالب علم، فما بالك إن كان صاحب ثقافة دينية؟ وما ظنك إن كان من العوام لا يعرف الحلال من الحرام؟ بل وصل الأمر إلى أن يصبح حق التقييم لفتوى دار الإفتاء المصرية التي على رأسها المفتي لأناس لا يعرفون فرائض الوضوء من سننه.
وأنا هنا لا أعيب على أحد أو أنتقص من شخص أو طائفة بعينها، ولكن أريد فقط أن أدق ناقوس الخطر لما يجري.. فلمصلحة من هذا الهدم وهذا التشكيك في المرجعية الأولى للإفتاء في أرض الكنانة حفظها الله؟
إن المتأمل لما حدث منذ تولى الشيخ علي جمعة حفظه الله يجد أن دار الإفتاء المصرية قد استعادت الكثير من مصداقيتها لدى عامة الشعب، كما أن للمفتي رصيدًا عظيمًا من المحبة والتقدير في قلوب الناس مع اختلاف توجهاتهم، حتى من يختلف معه، فلا يقدر إلا أن يحترمه ويوقره.. والحق أننا في أمس الحاجة إلى بناء هذه الثقة وربط هذا الشعب بمرجعيته في أمر الدين ألا وهو الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية.
فالمتأمل لتجربتنا مع التطرف والإرهاب في هذا الوطن سوف يتبين بسهولة أن من أول أسباب هاتين الظاهرتين خلو الساحة الدينية من مرجعية ينظر إليها الناس ويتطلعون إلى رأيها وفتواها، فبحث الناس عن بديل يتلقون عنه دينهم ويرجعون إليه في شئونهم، فتصدر لذلك أمراء الجماعات من أنصاف المتعلمين فصالوا وجالوا، وحرموا وكفروا من شاءوا من خلق الله، وأصدروا أحكامهم بإهدار الدماء واستحلال الأموال، بل وقاموا بدور الجلاد بعد ما انتهوا من دور القاضي، فقتلوا وخربوا ودمروا وسعوا في الأرض مفسدين
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [سورة البقرة: 11]، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [سورة البقرة :204-205].
كل هذا في غيبة المرجعية التي ينظر إليها الناس بعين الثقة والاحترام، وتقاعس من المؤسسة الدينية عن أداء دورها، مع تخاذل الدولة عن دعم هذه السلطة الدينية، وفي حين أنها أي الدولة تنفق الملايين بل المليارات في البنية الأساسية وتشجيع الاستثمار، فقد كان أولى بها أن تنفق على التوازي على تنمية العقول التي ستخرج لتـبين للناس أمر دينها وتقود شبابًا ورجالا ونساءً إلى ما يرضي الله ورسوله.
لقد فطن السلاطين في القرون السالفة إلى أهمية هذا الأمر، فأنشأوا المدارس داخل المساجد، وكانت هذه المدارس بمثابة جامعات، يتخرج فيها طلاب العلم الشرعي وغيره، حيث يتلقون العلم الشرعي بإسناده عن شيوخ ثقات، يبثون في طلابهم – مع ما يعطونهم من العلم – يبثون روح الشرع ومقاصده، والأدب والسعة للخلق والرحمة بهم، فينشرون فيما بينهم ميراث النبوة الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.
فالمسئولية المشتركة بين المؤسسة الدينية والسلطة المدنية عن غياب المرجعية وترك الناس يتخبطون فيسمعون هذا ويتبعون ذاك، فيأتي هذا ويكفر الحاكم، ويأتي آخر فيكفر الشيوخ الذين لا يكفرون الحاكم، ويأتي ثالث فيجعل الناس تفطر في رمضان لأن السعودية قد أفطرت، ويأتي رابع يقول نحن لا نأخذ فتوانا عن دار الإفتاء.
فإذا كان الله قد هيأ لهذا البلد أن يتقلد منصب الإفتاء رجل من أهل العلم والتقوى، رجل جمع بين تلقي العلم أكاديميًّا، وبين الجلوس تحت أقدام عشرات من الشيوخ الأكابر في شتى الفنون من فنون العلم الشرعي، ورجل إذا جلست في حلقة درسه تشعر أنك أمام بحر من العلم تتلاطم أمواجه، فما تحضر درسًا من دروس أصول الفقه إلا وتخرج وقد دونت مسائل في الفقه واللغة والبلاغة، وما تقرأ في كتاب من كتب الحديث في مجلسه المبارك، إلا وقد تزودت بعجائب في المنطق وأخبار الرجال والشعر وغيره.. فإذا كان الله قد هيأ هذا الأمر الذي جعل الناس كما قلت تستعيد ثقتها في هذه المؤسسة، فقد آن الأوان للدولة أن ترجع إلى ما كان عليه السلاطين الذين أدركوا أهمية العناية بطلاب العلم الشرعي الذين يصوغون بعد ذلك كدعاة ووعاظ جانبًا من فكر وعقول الشعب، فتدعم وتكفل هؤلاء الطلاب وتوقف الأوقاف للإنفاق عليهم ليتلقوا العلم بإسناده تلقيًا تتسع به مداركهم، وتستقيم به سلوكهم وتكمل به آدابهم بعيدًا عن هذا النظام الأكاديمي الذي يجعل الطلاب كل همهم النجاح والحصول على شهادات ما هي إلا أوراق لم يحملوا معها في قلوبهم فهم مقاصد الشرع وميراث النبوة.
إن شعب مصر في رباط إلى يوم القيامة كما أخبر عنه المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يستطيع أحد مهما كان سلطانه ومهما علا صوته أن يقلع جذور التمسك بالدين في قلوب أهل مصر؛ ولذا فلا بد أن نعمل على حسن توجيه هذه الفطرة الدينية لهذا الشعب لما فيه مصالح البلاد والعباد.
ولن يأتي هذا إلا بإعداد علماء حقيقيين يحملون مشاعل هذا الدين بفهمه الصحيح وسعته ورحمته بالعباد بل بالخلائق من إنسان وحيوان وطير ونبات، وهذا يحتاج إلى دعم الدولة لهذا المشروع العظيم الذي إن تحقق فسوف يكون له أثر في تغيير وجه الزمان والمكان.
إن مواجهة التطرف والإرهاب بالقمع والصدام قد يكفي هذا البلد الأمن – أدام الله علينا أمنه – الآثار المحسوسة لهذا الفكر من اعتداء أو إرجاف، ولكنه قطعًا لا يقتلع الفكر من جذوره، فالفكر لا يواجه إلا بالفكر.. ولذا كان لا بد من بناء عقول واعية وقلوب نقية تحمل كما قلت روح الشريعة ومقاصدها مع حملها لنصوصها لتواجه هذه العقول العقيمة والقلوب السقيمة التي تبث روح الفرقة والشقاق بين الناس.
نحتاج إلى علماء ربانيين، يواجهون أقوامًا أخبر عنهم المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، وحذر منهم، ووصفهم بأنهم يتكلمون بكلام خير البرية، أي يحتجون بكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيظن السامع أنهم على دين، وما هم على شيء؛ لأنه قال في وصفهم صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجاوز دينهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه.
ومن كان له حظ في مجالسة فضيلة المفتي قبل توليه هذا المنصب، من خلال دروسه وحوزته العلمية في رواق الأتراك بالأزهر الشريف، فلا شك أنه رأى كيف تصنع وتربى العلماء، ومن مجالس العلماء من طلبة الشيخ حفظه الله، فلا شك قد عرف أنه أي الشيخ مؤهل ومهيأ لتربية الرجال.
وقد أسعدنى الحظ بتوفيق من الله وعناية أن يكون لي نصيب من التعلم في حوزته المباركة.. وكنت وما زلت متتلمذًا على شيوخ من طلابه، نرى فيهم ببركة الله علمًا وسلوكًا وأدبًا قل أن تراه في زمن ندر فيه العلماء.
ومع هذا نجد أن مسألة لا يستسيغها بعض الناس في التبرك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقيم الدنيا ولا تقعدها، وكأن المفتي قد اخترعها أو وضعها وضعا في كتب التراث..
فيتكلم هذا تطاولا، وآخر يخوض جهلا، والثالث ينكر على الشيخ حسدًا على ما آتاه الله من فضله..
إن الرجال لا يطعن في مصداقيتهم بمسائل فرعية، ويا ليت الذين خاضوا سألوا علماء الحديث قبل الخوض بغير علم..

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 50 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث