دخلت إلى المطار مستوحشًا يساورني بعض القلق عندما هبطت الطائرة بنا في مطار حلب في أول زيارة لي إلى سوريا بعد طول انتظار، قلق تسبب فيه ضابط الجوازات المصري الذي أنهى لي ولرفيقي إجراءات السفر بمطار القاهرة عندما سألني عن سبب الزيارة فقلت له تقديم واجب العزاء، فتحدث بنبرة فيها قليل من الاستخفاف وهو يراني وأحد الرفيقين نلبس الجلباب فقال:
(لو الوظايف في جواز السفر أي كلام، الجلاليب دي حترجع)..
فتبسمت ومضيت، وعندما ركبت الطائرة قلت لرفيقي ذي الجلباب ضاحكًا: (مفيش مشكلة الجلاليب ترجع ترجع المهم احنا ندخل).
والحق أن كلام الضابط مع علمي أن رجوعنا من المطار أمر غير وارد إلا أنه أعطاني انطباعًا أننا غير مرحب بنا في سوريا مع العلم أننا كمصريين ندخل إليها دون حاجة إلى تأشيرات. وقد زاد هذا الانطباع من خلال أسئلة ضابط الجوازات السوري وكثرة نظره في جواز سفري، ولا شك أن هيئتي مرتديًا الجلباب والعمامة قد زاد من تدقيقه في هذا الأمر، وقد علمت لاحقًا من الأصدقاء السوريين سبب هذا الأمر.. ومع هذا لا أستطيع الإنكار أن الضباط السوريين كانوا في منتهى الأدب خلال الدقائق التي قضيتها في إنهاء الإجراءات. وما أن خرجنا من المطار حتى أذهبت عنا حرارة الاستقبال والترحاب من الأصدقاء السوريين الوحشة.. ثلاث سيارات في استقبالنا في حين أننا ثلاثة أفراد، على رأسهم سيارة الدكتور صهيب الشامي الذي حضرنا لتقديم واجب العزاء له وهو مدير إدارة أوقاف حلب سابقًا، جاء بها سائقه الخاص، وكان في استقبالنا الشيخ الصالح السيد/ محمد الناصر الشريف القادري يمتد نسبه إلى القطب الرباني السيد عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، وكان في رفقته بعض إخوانه.
وما أن تحرك الركب حتى طلبنا منهم التوجه إلى فندق شيراتون حلب، حيث محل إقامتنا، فنظر إلينا الشيخ محمد الناصر متعجبًا ومتسائلا وقال: بل نذهب إلى مزرعة الدكتور صهيب ثم ننظر ماذا نفعل، ومن هنا بدأ مسلسل الضيافة الذي لا يصدر حقيقة إلا عن قوم كرام.
وصلنا إلى هذه المزرعة، فوجدنا أن فضيلة الدكتور صهيب الشامي حفظه الله قد أعد لنا مكانًا فاخرًا للإقامة، مع ما هو فيه من ظروف العزاء على فقد أخيه الكريم الشيخ/ عبد العزيز الشامي رحمه الله عضو مجلس الشعب السوري، إلا أنه قد هيأ لنا كل شيء، وكأننا جئنا زائرين بناءً على دعوة لقضاء إجازة وليس للعزاء.. فاسترحنا قليلا وتناولنا غداءنا وصلينا صلاة المغرب ثم توجهنا إلى مسجد السلطانية لتقديم واجب العزاء، بعد أن تقرر إلغاء حجز الفندق والبقاء في ضيافة الدكتور صهيب والشيخ محمد الناصر.
ودخلنا إلى قلب مدينة حلب قادمين من المزرعة على أطرافها، وبدأت أجول بنظري، الشوارع هي الشوارع، الناس هم الناس، اللافتات هي اللافتات، هل أنا في مصر؟ لأول مرة أسافر خارج مصر ولا يساورني أي إحساس بالغربة..
حقيقة إن في التفاصيل مع التدقيق ترى اختلافات في أسلوب البناء وفي أشياء أخرى، ولكن الروح واحدة، هناك شيء ما يسري بداخلي أشعر معه أنني في بلدي، أسير على أرضي، أتعامل مع أهلي، إن هذه الدماء التي تسري في هؤلاء الناس دمائي.
توجهنا إلى مسجد السلطانية مارين بقلب مدينة حلب قبيل أذان العشاء، وإذا بالصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتعالى من منائر بجميع المساجد بأصوات جميلة تستشعر معها المحبة والشوق إلى هذا الحبيب (الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله، الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا حبيب الله...) إلى آخر هذه الصلوات الجميلة، فتذكرت أيام الصبا عندما كانت تتعالى هذه الصلوات من منائر مساجد مصر المحروسة قبل ظهور المبتدعة والمتنطعين في الدين الذين منعوا هذه العادة الجميلة التي بدأت منذ عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وفي طريقنا إلى مسجد السلطانية مررنا بمسجد كبير يعج بالزائرين، عرفنا من رفيقنا الشيخ محمد الناصر أنه مسجد سيدنا زكريا عليه السلام، وبه مقامه ومزاره، وعزمنا على زيارته في اليوم التالي.
وصلنا إلى مسجد السلطانية أمام القلعة المحروسة بمدينة حلب، وعلمنا بعد ذلك أن هذا المسجد قد أنشئ منذ ثمانمائة عام، أنشأه غازي بن السلطان صلاح الدين الأيوبي، وبه قبره في حجرة ملحقة بالمسجد، وإلى جواره قبر الشيخ/ محمد الشامي رحمه الله الذي استشهد على باب المسجد في عام 1980م، حيث أطلق عليه الرصاص بعض الجماعات السياسية التي تلبس عباءة الإسلام.
دخلنا إلى قاعة أنيقة مع بساطتها لنجد الدكتور صهيب الشامي في استقبالنا، فقدمنا عزاءنا وجلسنا معه ومع جموع المعزين له، ثم ما لبثنا إلا قليلا ثم دخلنا لزيارة قبر والده وارتفعت إقامة الصلاة فدخلنا إلى المسجد لأداء صلاة العشاء.
وما أن انتهينا من صلاة العشاء حتى بدأ ختام الصلاة جماعيًّا وهذه عادة أخرى من العادات التي تشعرك بروحانية عظيمة، كانت في مصر إلى عهد قريب، وما زالت في قليل من المساجد، وخرج علينا كالعادة المتنطعون يبدعون ويضللون فأوقفوها اللهم إلا في بعض مساجد أهل البيت عليهم رضوان الله في مصر المحروسة.
فلما عدنا إلى القاعة همست في أذن الشيخ صهيب الشامي قائلا: إنني طوال الطريق أتلفت متعجبًا وأشعر أنني أغادر مصر، فضحك مصدقًا لكلامي وقائلا (نعم، لعل هذا سر ارتباط روحي بيننا وبينكم).
في اليوم التالي ذهبنا لأداء صلاة الجمعة في المسجد الكبير، مسجد الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عباس، ومن السهل أن تلحظ أن مساجد حلب كلها تسمى بأسماء الصحابة والصالحين، وصلنا إلى المسجد وأدينا الصلاة مع فضيلة الدكتور صهيب حيث كان هو الخطيب في هذا المسجد الرائع.. هدوء وسكينة وأدب ووقار تلحظهم سريعًا بين جموع المصلين، توقير للشيخ من الكبير والصغير تستشعر معها أنك بين أناس يعرفون قدر العلماء وحقهم، فتستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه).
وأخذت الساعات ومعها الأيام تمر سريعًا، ما بين زيارات مباركة، فزرنا نبي الله زكريا عليه السلام، وزرنا ضريح السيد/ أحمد عز الدين الصياد الرفاعي حفيد السيد القطب أحمد الرفاعي وخليفته من بعده ووارث حاله، كما زرنا قبر الخليفة الأموي العادل سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكذلك مشهد الإمام الحسين عليه السلام، وهو موضع باتت فيه الرأس الشريفة على صخرة موضوعة بهذا المشهد قبل وصولها إلى دمشق حيث مقر الخلافة الأموية، وما بين مجالس ذكر، فحضرنا مجلسًا للذكر بمسجد الفردوس وهو مسجد بأحد أحياء حلب القديمة، وكذلك مجلس ذكر بمسجد السلطانية مع فضيلة الدكتور صهيب بعد عشاء يوم الجمعة وهو مجلس أسبوعي يقيمه فضيلته ويحضره العلماء والعوام.
وكلما سرت في الطرقات والتقيت بالناس وتحدثت معهم أستشعر محبة زائدة لهذا البلد الكريم المضياف، وأخذت أتساءل كيف أننا كمصريين لم نتوجه إلى سوريا لقضاء إجازات في هذه الطبيعة الجميلة في الجبال أو السهول أو الشواطئ، ناهيك عن المساجد التاريخية والزيارات المباركة.
كيف نترك بلدًا يفتح لنا بابه وشعبًا يفتح لنا قلبه، لنقف على أبواب السفارات الأوروبية نستجدي تأشيرات الدخول مع كثرة وسخافة الاشتراطات وطول الإجراءات وكثرة النفقات.
عدت من زيارة قصيرة تركت في نفسي أثرًا كبيرًا من جراء المحبة والضيافة والكرم الذي استشعرناه في هذا البلد، ومن جراء ما استشعرته من تقارب روحي حقيقي بيننا وبينهم، فالهواء الذي يدخل صدري هو هواء بلدي، نعم أنا لست غريبًا في هذا البلد.