لقد أصبح من المعتاد الآن ونحن نقرأ مقالا من تلك المقالات التي تتكلم عن تجديد الخطاب الديني، أو تناقش قضية من القضايا الدينية.
إما الحقيقية منها التي تحتاج لحوار ومناقشة، أو تلك القضايا المفتعله التي تثار لمجرد الإثارة والتشكيك وشغل الناس، فينجرف وراءها الكتاب للأسف وبدون وعي في تعليقات ومناقشات وتطاولات، أقول: لقد أصبح من المعتاد أن تجد في معظم هذه المقالات شيئًا عن تأثير مثل هذه القضايا على رأي أعداء الإسلام، وماذا سيقولون فيها، وكيف أنهم سيجعلونها ذريعة يهاجمون بها الدين.
هل أصبح النقاش في قضايا الدين، وهل أصبح ما نقوله أو نفعله من أمر الدين يجب أن يبنى على استرضاء أعداء الدين؟
وهل صار همنا ماذا سيقول الغرب عن الإسلام والمسلمين؟ وكأن عزتنا بالله وبرسوله وبدينه تحتاج إلى مباركة بوش وكونداليزا رايس.. فإذا تكلم بوش بكلمتين يمتدح بهما الإسلام تصدرت وسائل الإعلام وكأننا كنا ننتظر هذه المباركة من رئيس أمريكا لدين الله.
ما هذه المهانة التي نشعر بها؟ إنا قوم أعزنا الله برسوله وبدينه وبعبادته، فلماذا نطلب العزة في غير ذلك؟ ألا نرى بالتجارب والتاريخ أن طلبنا العزة في غير الصلة بالله ورسوله هو سبب الهوان كل الهوان.
نعم إن كان هناك انحراف عن الفهم الصحيح للدين أدى بجماعات بين الانجراف في تيارات متشددة أو اعتناق أفكار أدت إلى عزلتهم عن المجتمع فكريًّا وثقافيًّا، فلا بد من التصدي لهذا بنشر المفاهيم الصحيحة، وكذلك بالبحث عن الظروف التي أدت إلى ترك هؤلاء الشباب عرضة لهذا الانحراف والانجراف.. ولكن ليس لإرضاء أعداء الدين، ولكن لأننا موكلون بمهام الإصلاح في الأرض، والإصلاح الخارجي يحتاج إلى إصلاح داخلي أولا.
فمواجهة الإرجاف والانحراف واجب شرعي وديني لا بد أن تكون نيتنا فيه خالصة (فإنما الأعمال بالنيات) كما قال الرسول الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وسلم.
فليس الأمر إذن استرضاءً للغرب، ولكن الأمر هو نشر الحق وحماية شبابنا من الانحراف عن المنهج القويم.. إن الأمر هو أمر إصلاح أمة وتصحيح مسار بعد أن تصدى للحديث في العلم ولإصدار الفتاوى غير المتخصصين، فأثاروا تلك البلبلة التي نراها كل يوم نتيجة تحويل المسائل إلى قضايا، وبنقل الفروع إلى كتب الأصول بفهم وبغير فهم.. والأخطر من ذلك أدى هذا إلى تهميش العقل المسلم وتغييبه عن مقاصد الشرع، فترى من يرتش ويسأل عن حكم حلق اللحية، ومن تقطع الرحم وتسأل عن حكم تنظيف الحواجب، وترى عندنا في الريف من يقتطع من طريق المسلمين ويضم إلى أرضه فيزرع ويأكل هو وأولاده حرامًا ويأتي ليعرف هل تركيب (الدش) حرام أم حلال.
نحن في حالة تحتاج حقيقة إلى وقفة تتكاتف فيها السلطة السياسية والشعبية والدينية لبحث حالة أمة اختلت مفاهيمها وانقلبت معاييرها، وهو واجب شرعي؛ لأن الفساد ينخر في عظام هذه الأمة، نعم إن هناك من الشرفاء والصادقين والمخلصين من يرغبون في الصلاح والإصلاح، ولكنهم في مواجهة تيار عاتٍ من الفساد، جرتنا إليه سيطرة القيم المادية على مجتمعنا، وغياب القيم الروحية أو على الأقل تراجعها وتواريها وراء حجاب.. فإن ظهرت وأطلت برأسها وجدت المعاول تتهاوى عليها محاولة قطع هذه الرأس بتهمة الخرافة والشعوذة.
نعم لقد سيطر الفكر المادي على العقول بحيث أصبحت الجوانب الروحية التي لا تخضع لعقول هؤلاء الماديين شعوذة وخرافة.. ومرة ثانية نراهم يستدعون مقولة (ماذا يقول الغرب عنا) إذا أثير أو ظهر شيء يحتاج منا إلى التسليم والإيمان وإن لم تستوعب عقولنا هذا الأمر. إن الدين أساسه إيمان بالغيب، وتسليم مطلق بما لم نراه، بل أخبرنا به عن طريق الوحي، وجاءت المعجزات وخوارق العادات على أيدي الأنبياء لتكون برهانًا على صدق ما أخبروا به عليهم صلاة الله وسلامه أجمعين. فمن استغرق في فكره المادي، وسيطر عليه استكباره وعناده، استمر على كفره وإنكاره وأرجع هذه المعجزات إلى السحر أو الكهانه أو غيرها.
نعم، إن الرسالة منهج وأحكام وحياة، ولكنها كذلك طريق للصلة بالسماء عن طريق من له صلة بالسماء وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إن كثيرًا من أهل الديانة الملتزمين بوظائف العبادات وأوامر الرسالة، غابوا عن الصلة بالرسول واكتفوا بالصلة بالرسالة، فالرسالة أوامره ونواهيه، أقواله وأفعاله، والرسول ذاته وأحواله. ولا شك أن الغياب عن الصلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أدى إلى قصور في الاتباع وإلى غياب الجانب الروحاني عن كثير من الناس.
لقد غاب كثير منا عما فهمه أعداء الإسلام الذين نحاول أن نسترضيهم، وقد فهموا وأدركوا أن الطعن في هذا الدين، بل وهدمه الذي يظنون أنهم عليه قادرون وهم واهمون، يكون بتوجيه الحراب إلى ذات الرسول والتشكيك فيه، ليسقطوا سياج الحرمة من حوله لأنه هو محور هذه الرسالة، فإن استطاعوا التشكيك في الرسول هدموا الرسالة بلا شك، فلا تراهم يتكلمون عن الصلاة أو الصيام أو العبادات ولكنهم يحومون حول حرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحاولون انتهاكه، ولكن الحق قال في كتابه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [سورة الحجر: 95]، وقال عز من قائل: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [سورة المائدة: 67].. فإذن من ضل منهم قد ضل، ومن سبقت له من الله الحسنى منهم ساقته هذه الدعاية إلى البحث عن هذا الرسول والتفتيش في سيرته فيكتشف جوانب العظمة التي لم ولن يكون لها مثيل في البشر فيدخل في هذا الدين من باب عظمة هذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن صلتنا الظاهرية والحسية بالرسالة وبالعبادات والنسك، لم تخلصنا من ماديتنا، فنحن نتوقف لنصلي، ثم ننطلق بعدها إلى السياق المحموم في هذه الحياة المادية الرهيبة التي من شراستها أورثتنا هذه الشراسة في أخلاقنا ومعاملاتنا.
نصوم، فما أن ينقضي نهار رمضان حتى نملأ بطوننا، وكأننا نحاول تعويض ما فاتنا في نهار رمضان فنضاعف الكميات من الطعام والشراب في الليل.
نحن نقوم بوظائف الرسالة، ولكننا في غياب تام عن صلتنا بمظهر هذه الرسالة وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن غيابنا عن روح الرسالة وحاملها ومظهرها في هذا الوجود هو الذي ساقنا إلى هذه الحياة المادية، وهو الذي أخضعنا لأصحاب هذه القيم المادية الذين فرضوها على العالم بالقوة تارة، وبتسويقها وتجميلها تارة أخرى.
لقد حاولوا ذلك مع مظهر الرسالة الأعظم، ولكنه أعلنها مدوية خالدة في كلمة هي منهج، ولكننا في سبات عميق (والله ياعم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، روحي لك الفداء، لقد تركنا هذا الأمر يا حبيبي.. تركناه دون أن يضعوا الشمس والقمر في أيدينا، تركناه بمتاع زائل، يعطونه لنا باليمين ويأخذون ثمنه مضاعفًا باليسار من أعمارنا وكرامتنا.
تركناه لنركب سيارات هم صنعوها، ونرى فضائيات هم بثوها، تركناه، فاستعبدونا وأذلونا وأهانونا، فتعودنا على ذلك حتى صرنا لا نتأثر حتى بهذه الإهانة.
غيبنا عنك يا رسول الله، نسينا أنك ملكت فزهدت، وأنك أعطيت من ربك الغنائم فأنفقت، وأن الطعام كان يكثر ببركتك ولكنك جعت، وأنك كفيت بخدمة أصحابك لك ولكنك جمعت الحطب.
أما أن نسمع خطاب ربنا في كتابه قال تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 62]، أما أن نقول ونعمل ونصلح ونتحاور ونتناقش لله ولرسوله دون أن يكون همنا أهل الشرق أو أهل الغرب، أما أن نعي أننا أمة عزها في دينها، وأن نصرتها في اتباع نبيها، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة الحديد: 16].
إن ارتباطنا بالرسالة ارتباط ظاهري عقلي حسي لن يكفي في خروجنا من هذه الدائرة وهذا الاستعباد، ولكن استحضارنا لمن كان مظهرًا حقيقيًّا لهذه الرسالة هو الدواء.. ولما علموا ذلك دسوا لنا من بيننا أناسًا لهم ظاهر ينخدع به الناس في الاستمساك بالطاعات والاجتهاد في العبادات، ولكنهم يجتهدون كل الجهد في قطعنا عن ذات نبينا وقرة عيننا.. وفي هذا نكتب إن شاء الله تحت عنوان (الرسالة والرسول).