هل هناك فرق بين الارتباط بالرسالة والارتباط بالرسول؟ من الطبيعي والمنطقي أن يكون الارتباط واحدًا غير أن الواقع يبين لنا بما لم يدع للشك مجالًا أن هناك مَن أراد أن يفرق بينهما، فيجعل الاستمساك بالرسول هو فقط في الاستمساك بما بلغنا من أوامر الرسالة ونواهيها دون أن يكون لشخصه وذاته الشريفة وجود في حياة المسلم. هذا القصور في الفهم هو الذي حملني على أن أكتب في هذا الأمر.
دعنا أولًا نبين مظهر هذا التفريق بين الرسالة والرسول، وهو الذي يظهر في صور مختلفة، بل يظهر في توجيهات تيارات فكرية قد تكون متباينة إلى حد التناقض أحيانًا.
أود أن أوضح أولاً أن هذا القصور في الفهم في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس جديدًا، فعندما بدأ عبد الله بن عمرو بن العاص في كتابة حديث رسول الله، نهاه بعض الناس عن ذلك بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الرضا كما يتكلم في الغضب، فذهب عبد الله إلى رسول الله وأخبره بذلك، فعرف الغضب في وجه النبي صلوات ربي وسلامه عليه وقال له اكتب فوالله لا ينطق هذا إلا حقًّا (وأشار إلى فمه الشريف).. وفي هذا يذكرنا النبي بقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ) [سورة النجم: 3]، وأن كل ما يأتي به إنما هو من السماء (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [سورة النجم: 4].
وفي زمننا، يخرج علينا العلمانيون من جهة، والقرآنيون من جهة أخرى يريدون أن يقطعونا عن السنة وعن صاحبها صلوات ربي وسلامه عليه.. إلا أن أخطر ما في الأمر أقوام تسموا باسم السنة ورفعوا شعارها إلا أنهم انقطعوا عن صاحب السنة، فأرادوا أن يفرقوا بين الرسالة والرسول. فتراهم يتمسكون بأفعاله أيما تمسك، ويقطعوننا عنه من جهة أخرى، بحجة الدفاع عن التوحيد تارة، وبحجة التمسك بفعل السلف تارة أخرى، وأخيرًا قد يكون بحجة عدم المغالاة في مدحه أو تعظيمه، وكلها حجج واهية مردود عليها..
وهنا نود أن نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو مظهر الرسالة الأكمل ونورها الأتم، وأن هذا الرسول الذي هُيِّئَ لحمل الرسالة له من الخصائص الذاتية التي حباه الله بها سبحانه ليكون نبيًّا ورسولًا وإمامًا وبشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فأعده الحق سبحانه ليكون مظهرًا للكمال الإنسانى جسدًا وقلبًا وروحًا.
وكذلك لا بد أن نفهم أن الخصوصية ارتبطت بذات الرسول من قبل الرسالة.. فكل قارئ للسيرة يعرف ما رأت أمه السيدة آمنة بنت وهب من بركات حمله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ظهر النور في أبيه عبد الله بن عبد المطلب السيد الكريم بن الأكرمين حتى راودته امرأة من قريش عن نفسه لما رأت هذا النور الذي يسطع من جبينه فقال لها:
أما الحرام فالحمام دونه وأما الحل فلا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
فلما دخل بآمنة لقي هذه المرأة فقال لها: ما لك لا تعرضين عليَّ اليوم ما كنت عرضت بالأمس؟
قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
أما عن السيدة آمنة، فلما حملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعوذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا... وقد رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى، من أرض الشام.. (سيرة ابن هشام).
وقد رأت كذلك السيدة حليمة من بركات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسها فدر ثديها اللبن له صلى الله عليه وآله وسلم ولأخيه في الرضاعة في أول ليلة أخذته إلى رحلها، وكان ولدها لا ينام من الجوع قبلها.
ورأت بركاته في دوابها فحلبت من شارفها (ناقتها) بعد أن كانت جافة من اللبن ونشطت أتانها (أنثى الحمار) في رحلة عودتها بعد أن كانت تتأخر عن الركب في رحلة الذهاب من البادية إلى مكة، ثم تقول السيدة حليمة:
(ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به (أي الرسول) شباعًا لُبنا (بضم اللام أى مليئه باللبن) فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبى رؤيب.. إلى آخر حديثها.. ).
أين كانت الرسالة في هذا الوقت؟ إن البركة والخير مرتبطه بهذه الذات الكريمة الشريفة عند الله من قبل الرسالة، وهذه الأخبار التي نرويها معروفة للجميع، ولكننا نتوقف عندها متأملين لنبين بركة هذا الحبيب ذاتًا مشرفة تنـزل بها الرحمة من عند الله، ويعم به الخير والفضل حتى من قبل أن يكون رسولًا.
وأين كانت الرسالة حين كانت تظله الغمامة وهو في صحبة عمه أبي طالب؟ كما كانت تميل إليه أغصان الشجر لتظلل عليه.
أين كانت وهو يحفظ من قبل الله ويربى حتى أنه تعرى مع الغلمان يومًا وكل منهم يضع إزاره على كتفه يحمل عليه الأحجار فيقول صلوات ربي وسلامه عليه : إذ لكمني لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال : شد عليك إزارك..
وما أود الإطالة في ذكر هذه الأخبار، ولكن نود أن نفهم أن اختيار الحق لهذا النبي ليكون حبيبًا ونبيًّا ورسولًا قد صاحبه تهيئة لهذا الحبيب وتكملة له، تصفان الكمال البشري خَلْقًا (بفتح الخاء) وخُلُقًا (بضمها وضم اللام).
كما نود أن نفهم أن بركته ليست قاصرة على بركة دعوته ورسالته المباركة، ولكنها بركة مرتبطة بذاته الشريفة أينما كان وأينما حل.
فإذا انتقلنا إلى نقطة أخرى دقيقة، وهي هل الرسالة التي بلغنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي كل ما أوحي إليه وكل ما بث له من علم؟
ولنفهم هذا الأمر نقف متدبرين لكلمات لها معانى ودلالات.. يقول الحق سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة المائدة: 3].
دينكم؟ نعم، إن الذي بلغنا به هو ديننا، والتكليف والرسالة إنما جاءت على قدر وسعنا، لأنها تكليفات والله لم يكلفنا ما لا نطيق، ولما أمرنا بالصلاة سبحانه وأراد النبي أن يعلمنا الكيفية التي تجب علينا قال: (صلوا كما رأيتمونى أصلي) ولم يقل صلوا كما أصلي؟
إذا الملزم لنا الهيئة التي نراها، أما حقيقة صلاته وتمام صلته بربه في صلاته فهو وحده القادر عليه المكلف به؛ لأنه ليس مما في طاقتنا..
ومن هنا نفهم أن هذا القرآن الذي كان قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهبطًا له، امتزجت علومه وأسراره بقلب الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنه لم يعلم الأمة ويبلغها إلا ما أمر ببلاغه وتعليمه.. وخص حضرته بعلوم خاصة تليق بذاته المطهرة المشرفة، ورث من هذه العلوم الأولياء والعارفون من هذه الأمة كل على قدره ولا سيما الأئمة من آل بيت رسول الله الذي كان لهم الميراث الأكمل من نور وعلم جدهم صلى الله عليه وآله وسلم.
فالذي يقف مع ظاهر الأمر والنهي من أوامر الرسالة وينقطع عن هذا الرسول فإنه يعبد عبادة ظاهرة حسية انفصلت عن سرها وروحها ونورها وحقيقتها.
وقد يستثير هذا الكلام بعض العقول فتظن خطأً أننا نقول أن الرسول كتم شيئًا مما أمر ببلاغه، وهذا لا نقوله ولا نعنيه، وحاشاه أن يفعل وهو رسول الله والأمين على وحيه، ولكن نقول أن علم الرسول أوسع من الرسالة التي بلغتنا.
ولنفهم هذا الأمر ببساطة نقول، هذا هو القرآن بين أيدينا، هل فهمنا أسراره وحقائقه كاملة؟ الإجابة لا بالإجماع.
السؤال التالي: هل للرسول فيه فهم ووعي بأنوار هذا القرآن وبركاته وأسراره، كيف لا وقد كان هو قرآنًا يمشي على الأرض.. مما سبق نفهم ببساطة أن الرسول أوسع من الرسالة الخاصة بنا، وأن علمه أشمل وأكبر من هذه التكليفات.. وأن روحه وقلبه هما خزينة هذه العلوم وهذه الأسرار. كل هذا يبين لنا بعضًا من المفاهيم التي تساعدنا على إدراك خصوصية هذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن شاء الله قد يكون للحديث بقية...