حاولت على استحياء على مدار مقالين الاقتراب من الجناب المحمدي لالتماس بعض معاني الخصوصية في هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم دون خوف من غلو أو إفراط، فنحن بعيدون عن إدراك حقيقته، أو الإحاطة بقدره، إذ تسلطنا الدنيا على قلوبنا فحجبتنا عن الاتصال بهذا النور اتصالًا ينير قلوبنا ويزكي أنفسنا وفي ذلك يقول البوصيري صاحب البردة المباركة :
أعيا الورى فهم معناه فليس يُرى في القرب والبعد فيه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد صغيرة وتكل الطرف من أمم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم
وهذا الشطر الأخير كما جاء عن الإمام البوصيري أكمله النبي له في منامه عندما كتب رضي الله عنه (فمبلغ العلم فيه أنه بشر) وتوقف عند هذا الحد ولم يعرف ما يكتب، فقام وأخلد للنوم فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له في منامه:
(أكمل يا بوصيري وقل، , أنه خير خلق الله كلهم) .. ولعل هذا الشطر في هذه القصيدة هو سبب هذه البركة التى أصابتها، فالبركة هي الزيادة والنماء، وقد مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم عددًا غير محصور من الشعراء والعلماء، إلا أن هذه البردة مما لا شك فيه قد انتشرت انتشارًا غير مسبوق حتى عرفت مجالس خاصة تعقد في جميع الأمصار والأقطار تعرف (بمجالس البردة)، وتغنى بها المداح هنا وهناك، فهذا كله يظهر بركة خاصة لهذه القصيدة.
ومن خلال بعض أبيات البردة نعيش مع خصوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موضحين المعاني التى توقف عندها البعض لقصور فهمهم، فيقول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
بيتان واضحان جليان يشيران إلى موقف المشهد العظيم، يوم الحشر، يوم يجمع الله الناس ويوقفهم في انتظار الحساب .. وحديث الشفاعة هذا معروف عند جميع المسلمين، إلا أنه يحلو في بعض الأحيان للعقول أن تتغابى، فتشعر أن أصحابها يستكثرون فضل الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحلو لهم استخدام لفظ الغلو أو المبالغة في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم.
والمقام لا يسع لنقل هذا الحديث بنصه، فننقله بمعناه فهو أشهر من أن ينكر.. وفيه أن الناس في المحشر يروعهم هذا الموقف فيستغيثون بآدم عليه السلام طالبين منه الشفاعة عند الله ليبدأ في الحساب، فيتأخر سيدنا آدم عليه السلام ويحيل الخلق إلى سيدنا نوح الذى يقول مثل مقال سيدنا آدم ويحيل إلى الخليل إبراهيم الذى يرسلهم إلى سيدنا موسى الكليم الذى يأمرهم أن يذهبوا إلى سيدنا عيسى عليهم السلام جميعًا وكل يقول: (لست لها) ويأمرهم سيدنا عيسى أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيتقدم قائلًا: (أنا لها) فيسجد تحت ساق العرش، ويلهم بمحامد لم يعرفها من قبل فيحمد بها ربه سبحانه وتعالى فينادى (يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع). ففي هذا المعنى ينشد الإمام البوصيري رحمه الله هذه الأبيات، فليس هناك ملاذ ولا شافع في هذه الساعة إلا هذا الحبيب، ولا شك أن هذا من عظيم قدره عند ربه سبحانه وتعالى؛ إذ معلوم عند كل موحد أن الله لا يجب عليه شىء، فهو فعال لما يريد، فإذا أذن للنبى أن يتقدم للشفاعة العظمى، ثم قبل بمحض فضله شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم لفصل القضاء وتعجيل الحساب، فهذا يدل على علو منـزلته عند ربه سبحانه وتعالى، بل يبين كذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يظهر هذه المنـزلة على رءوس الأشهاد، إذ هو قادر سبحانه وتعالى أن يعجل الحساب برحمته دون سبب وبغير شفاعة من أحد، فهو الملك المتصرف في ملكه كيف يشاء دون معين أو مشير. فإذا علق هذه المشيئة على سبب فليس هذا عن حاجة فهو لا يحتاج لأحد سبحانه وتعالى، لكنه يفعل ذلك عن إرادة منه ولا شك أن ذلك فيه إظهار لقدر هذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أمام الخلائق يوم القيامة.
فيترجم البوصيري رحمه الله عن هذا المعنى إذ نلوذ برسول الله لندخل في شفاعته العظمى، ثم يشفع في أمته صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نأمل أن نكون في هذه الشفاعة، ونؤمن أن جاهه العظيم لن يضيق بنا، بل سندخل في شفاعته إذ هو الرحمة المهداة، فبه يرحمنا ربنا سبحانه وتعالى فهو القائل سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء: 107]
وهل يحتاج ربنا إلى أن يرسله ليرحم به العالمين، فيكون هو واسطة الله في إيصال الرحمة لخلقه؟ الإجابة لا بالإجماع، فالله لا يحتاج ولا يفتقر كما قلنا إلى أحد من خلقه في شيء، إلا أن لله سننًا في تصريف كونه، فنرى كل شيء يجري بسبب، وإلا لقلنا هل يحتاج الله الماء لينبت الحب؟ وهل يحتاج الله للخلق لإيصال الرزق لبعضهم البعض؟ هذا إنما هو قصور في الفهم، فما يجري في أحكام الظاهر المحسوس إنما هو إظهار لسنة الله في خلقه، فالأصل في الأشياء أن تجري بسبب دون افتقار المسبب سبحانه وتعالى إلى هذه الأسباب، بل نعتقد أنه يجريها دون تأثير لهذه الأسباب أصلًا، فكما يقول الشيخ الدردير في متن التوحيد المعروف (بالخريدة البهية) :
والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة أى أن السبب والأثر هو من فعل الله وخلقه وإيجاده، إلا أنه يجري هذه الأسباب ويظهر لها هذه النتائج على سبيل العادة .
فإن أرسل الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وجعله رحمة للعالمين فهذا مراده وتقديره، فجعل هذا الحبيب سببه ووسيلته في إيصال هذا العطاء لمن يشاء من عباده.
وهاهو يخبر عن قوم من أمته يدخلون الجنة بغير حساب فيقول عكاشة الصحابي: (ادع الله لي يا رسول الله أن أكون منهم)، فيقول النبي: (أنت منهم يا عكاشة)، فيقولها آخر فيجيبه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله (لقد سبقك بها عكاشة).
وهذه أم عمارة تسأله مرافقته في الجنة، وغيرها يسأل ذلك، فهؤلاء إنما اغتنموا قربهم من رسول الله ليسألوه في أمور أخروية مثل دخول الجنة بغير حساب والمرافقة في الجنة مما لا يملكه رسول الله ولا غيره من الخلق، إلا أنهم فهموا ما لهذا النبي من مكانة ووجاهة عند مولاه، وأنه هو الرحمة المهداة وأنه سبب في كل خير فسألوه ذلك دون نكير مع اعتقادهم الراسخ أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، إذ اتخاذ الأسباب واستعمالها لا ينفي حسن الاعتقاد في رب الأسباب سبحانه وتعالى.
وقد يقول قائل أن هذا في حياته مفهوم أما بعد مماته فكيف؟ وهذا إنما فهم أرباب الحس الذين لا يرون غير الحسي والمحسوس، فظنوا أن غياب بشريته عن هذا الوجود إنما هو حجاب بينه وبين الأمة، ونسوا أو تناسوا أن هذا النور الذي حمله هذا الوعاء البشري هو نور لا يموت وإنما يجري الموت على هذه الصور البشرية ولا يطفأ هذا النور وهذه البصيرة؛ ولذا أشرنا في المقالين السابقين إلى طرف من خصوصياته التى أثرت حتى على بشريته، فكانت بشرية خاصة. فهو الذي يسمع السلام ويرده في قبره، وهو الذي تبلغه الملائكة صلاة المصلين عليه، وهو الذي تعرض عليه أعمالنا فإن وجد خيرًا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر الله، وهذا كله إنما هو من معاني الصلة بينه وبين أمته بعد مماته .. فله وللأنبياء عليهم سلام الله حياة برزخية لها خصوصياتها، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه مر ليلة الإسراء بقبر أخيه موسى عليه السلام فوجده قائما يصلي في قبره .. وقد صنف الإمام السيوطي رحمه الله رسالة لطيفة أسماها (إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء)، بين فيها معنى حياة الأنبياء في قبورهم وسرد فيها الأدلة على ذلك.
والحق أن خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تحتاج في أدراكها إلى نفوس زكية سلكت طريق المجاهدة والرياضة الروحية مع ملازمة محبته وتوقيره وكثرة الصلاة عليه وآله حتى تبدأ النفس في تلقي إشراقات أنواره على القلب بما يخرجه من ظلمة الوهم إلى نور الفهم، فيرى بنور هذا الفهم أسرارًا وأنوارًا من خصوصيات هذا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم ومن بركات الصلة به وبآل بيته الكثير والكثير، ولا يعبأ في ذلك بإنكار هذا أو جحود ذاك، بل يجد من أثر هذه الصلة إشراق معانى العبودية الحقيقية لله سبحانه وتعالى، فيرى نفسه يزداد من أثر هذه الصلة برسول الله وآل بيته تواضعًا وتوكلًا وصبرًا ورضًا وشكرًا إلى غير ذلك من المعاني القلبية في العبودية لله سبحانه وتعالى غير ملتفت إلى منكر أو جاحد فكما يقول البوصيرى:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم