إن التصوف علم من العلوم التي حار فيها كثير من الناس، بل واختلفوا فيه اختلافا حادًّا، بدءًا من كونه مشروعًا أم لا؟
وهذا خلاف ناشئ عن جهل المنكر لمشروعيته بهذا العلم أصلا، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهو يحكم على صورة في ذهنه ناتجة عن جهل.. ونقصد بالجهل معرفة الشيء على غير حقيقته؛ إذ هو يرى أناسًا أو يسمع بهم يقولون أن ما هم فيه هو التصوف، فإذا به يبادر بالحكم على عدم المشروعية على الاسم، وإن كان العيب والنقص فيمن تسموا به.
كما اختلف الناس في تعريفه، بل لا أكاد أبالغ أن قلت أن التصوف هو أكثر علم، بل لعله أكثر شيء على الإطلاق وضعت له التعاريف، وهذا الأمر ناتج في اعتقادي القاصر عن طبيعة هذا العلم وخاصية هذا الطريق.. وهو أنه أي التصوف تجربة روحية ينتج عنها أذواق ومشاهدات تختلف باختلاف السالك وتختلف باختلاف حاله ومرتبته.
فنجد أن لكل سالك ذوق وضع على أساسه تعريف لهذا العلم، بل لا يبعد أن ترى أحد هؤلاء القوم تختلف تعريفاته لهذا العلم باختلاف مقامه، فيقول تعريفًا في بداياته ويقول غيره في سلوكه ويقول ثالثًا في نهاياته.
ولا عجب في ذلك، إذ إن التصوف هو رحلة روحية للعروج والسمو في طريق المعرفة للعبور من عالم الملك إلى عالم الملكوت، من عالم الحسي إلى عالم المعنوي، من التعلق بالأسباب إلى معرفة رب الأسباب، ومن الانشغال بالكون إلى الخضوع على باب المكون سبحانه وتعالى.. وعليه فإن السالك في هذا الطريق بصدق تختلف أحواله ويتغير فهمه بحسب القدر الذي انكشف له من أنوار الحقائق، فإن ترجم لسانه عن الذي يراه في لحظة بعينها معتبرًا أن هذا الحق وهو كذلك، إذا به يرتقي بعدها فيرى صورة أوسع وينكشف له من المعاني والفهوم ما لم يدرك من قبل، فيتكلم بمعانٍ غير التي سبق له وتكلم بها وهو صادق في الحالتين.
ذلك أن مثله مثل رجل يقف بالوادي فسئل أن يصف ما يرى فوصف، ثم ارتقى الجبل فسئل بعد أن ارتفع إلى نصفه أن يصف ما يرى ففعل، فلما وصل إلى قمته سئل أن يفعل ذلك ثالثة ففعل، فلا شك أن وصفه يختلف بحسب موضعه من الجبل؛ إذ كلما ارتقيت انكشف لك ما لم تكن تعلم من قبل.
ومثل المنكرين عليهم كمثل الذين يقفون بالوادي ويرفضون الارتقاء إلى الأعالي، فإذا وصف الواقفون على قمم الجبال ما يرون من مشاهد اكتفى هؤلاء بالإنكار عليهم وتكذيبهم، وليس هذا إلا لأنهم محجوبون بما وقفوا عنده من مكان، والآخرون زاد علمهم لارتقاء مكانهم وانكشاف المشاهد لهم، فإن أراد الواقفون بالوادي العلم، فإما أن يصدقوا أصحاب المشاهدة من الذين ارتقوا قمم الجبال ويكون علمهم نقلي تصديقًا بالغيب.. أو أن يسلكوا ما سلك السابقون فيرتقوا إلى ما ارتقى إليه هؤلاء فيكون علمهم ذوقيًّا ناتجًا عن مشاهدة لا عن تصديق بالغيب.
وفي هذا المعنى يجيب الإمام السيوطي رحمه الله عن سائل يسأل عن كلمات وإشارات سلطان العاشقين عمر بن الفارض رحمه الله ورضي عنه فيقول السائل:
ماذا الجواب من البحر المفيد لنا في مشكل وإليه يهرع البشر؟
عند الحوادث أن قال الأكابر لا نفتي وقصر منهم من له نظر؟
في الكاس الطاس والساقي وشاربهم وفي النديم وقول قاله عمر أعني به العالم المعروف نسبته لفارض قبره بالسحب منهمر في سقيه من حميا كأس خمرته ما الصفو ما سقيه ما الكاس ما الخمر؟
فالسائل يسأل عن هذه الألفاظ المشكلة من أشعار سيدي عمر بن الفارض رحمه الله، مثل الكأس والطاس والساقي والشرب والخمر إلى آخر هذه الألفاظ الموهمة والمبهمة بالنسبة للسامع، فيأتي الجواب من الإمام السيوطي رحمه الله قائلا:
أما قول ولي الله الشيخ العارف بالله تعالى عمر بن الفارض فلا نتكلم عليه، بل من أراد أن يعرف معناه فليجع جوعة ويسهر سهرة يعرف معناه.. وفي إجابة السيوطي دلالات دقيقة من عالم حافظ مجتهد، إذ انتصر لسيدي عمر بن الفارض بقوله: (ولي الله الشيخ العارف بالله) إذ في هذا الوصف من السيوطي انتصار للشيخ من الذين جهلوا معاني كلامه، ووقفوا أسفل الوادى يتطاولون عليه ويرمونه بالحجارة، ولكن هيهات أن تصل أحجارهم إليه وهو بقمة الجبل يقف شامخًا..
الدلالة الثانية أن السيوطي لم يقل لا أعرف معنى كلام ابن الفارض، ولكن قال: (فلا نتكلم عليه) إشارة إلى أن هذا العلم لا يدرك بالوصف، فلا معنى في الشرح والتعبير والتأويل عن هذه المعاني للسائل، إذ الأمر قائم على الذوق لا على الوصف..
الدلالة الثالثة (بل من أراد أن يعرف معناه..., إلخ) إشارة إلى أن هذا الطريق طريق سلوك وعمل لبلوغ هذا العلم لا طريق رواية ونقل، فإذا تعلمت بالرواية والنقل فعملت بما علمت أورثك الله علم المعرفة والذوق.
وعليه فإن التصوف علم سلوك وتزكية وترقية وتنقية ليصل السالك إلى مرتبة الإحسان الذي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جبريل عليه السلام قائلا: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك).
وهذا لا يدرك بالقيل والقال، ولا يتحقق بالادعاء أو بالظاهر والثياب، أو برفع الأعلام والرايات، وإنما يدرك بصدق التوجه والهمة العالية واقتفاء الأثر على وفق ما جاء به الكتاب وأظهرته واضحًا جليًّا السنة المحمدية.. وفي هذا المعنى يقول شيخ الطريق وإمام أهل التحقيق القطب الرباني سيدي إبراهيم الدسوقي قدس الله سره ونور ضريحه: (يا ولدي البس قميص الفقر النظيف الظريف، فما الأمر بلبس الثياب ولا بسكن القباب ولا بلبس الصوف، إنما الفقر أن تخلص عملك بقلبك).
والفقر عند أهل الطريق لا يقصد به قلة وجود الأسباب مثل المال وغيره، وإنما الفقر هو دوام الاضطرار إلى الله والتحقيق بعدم الاستغناء بهذه الأسباب، وهذا في أمر الدنيا، وكذلك في أمر الدين، فهو مفتقر إلى الله في كل حال، فلا يستغني بالطاعة، ولا يركن إليها مطمئنًّا لحسن فعله، بل يكون افتقاره إلى مولاه علما بأنه لا ينجو إلا برحمته سبحانه لا بعمل قدمه بين يديه، وبهذا يكون هذا الافتقار والاضطرار وسيلة إلى الإجابة والقبول (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَـهٌ معَ اللّهِ قَلِيلا مَا تَذَكّرُونَ) [سورة النمل: 62].
وهذا الاضطرار وصف لقلب الداعي إذ يشعر به ويعيشه، وكأنه قد انقطعت به الأسباب، ونفذ الزاد والماء، فهذا له الإجابة من الله. وفي ذلك يقول أبو حفص النيسابوري: (أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله دوام الافتقار في جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال).
وطريق التصوف قد ابتلي بكثرة الأدعياء، وانتشار الدخلاء المتنطعين الذين ضلوا وأضلوا، إذ إنه حال قلبي يدعيه كل من أراد، وليس هذا بجديد، بل قد اشتكى منذ قرون أئمة هذا الطريق من فساد القوم وكثرة الأدعياء، واشتد تحذيرهم لأبنائهم في الطريق من هذا، وفي ذلك يقول الأستاذ أعني الشيخ الدسوقي: (ليس كل من تزيا بزي القوم يكون منهم في الباطن، فإياكم أن تقنعوا بالظواهر دون البواطن، فإن القوم إنما ترقوا بالأعمال الجوانية، وما رأينا أحدًا لبس له جبة وأرضى له عذبة وجلس على سجادة فبلغ بذلك مبلغ الرجال!! بل يقف عن السير أو يرجع من حيث جاء).
وقد ستر هذا الطريق واختفى أهله ما بين ادعاء المدعين وإنكار المنكرين، أما أهل التحقيق فيه فهم أولياء الله حقًّا، أهل الزهد والورع والتقوى والخشية والإنابة والتفويض والرضا والتوكل والصبر إلى آخر صفات القلوب الزكية النقية التي أقبلت على الله بالكلية.
وهذا المسلك الروحي التربوي يعيد تأهيل النفوس وتزكيتها لإعادة توازنها وانضباطها للقيام بمهمتها في هذا الكون، والقيام فيه بأمر الله تعالى والدخول في جملة المضافين إليه في قوله: (وَعِبَادُ الرّحْمَـَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَما) [سورة الفرقان: 63] عباد الرحمن، يا له من لقب عظيم، يتشرف به العبد إذ إضافه الرحمن إليه إضافة اختصاص وتبريء هؤلاء العباد من العبودية لغيره..
فهم عباد الرحمن، والرحمن وحده، فلا يعبدون هوى ولا دنيا، فهم في طواعية لم عبده، قلوبهم خاضعة له، لا يرجون غيره، ولا يطمعون في سواه، ولا يخشون في الله لوم اللائمين.
عباد الرحمن، يا لهذا الشرف لهؤلاء العباد أن يصف الملك سبحانه أوصافهم وأحوالهم في كتابه العزيز...
أين أنتم في زماننا أيها العباد؟