عندما أكتب عن التصوف وأهله، فأنا لا أكتب مدافعًا عن منهج أو عن طائفة، ولا أكتب تعصبًا لقناعات عشت بها، ولا أكتب منافحًا بالباطل عن أهل هذا الطريق، فليس لي مأرب أو منفعة تدفعني لذلك.. كما أنني عندما أتكلم عن التصوف فأنا قطعًا لا أتكلم عن بعض الصور المنحرفة فكرًا وسلوكًا التي يهوى أصحاب الطاعنون في الطريق إبرازها لتشويه الصورة كاملة.
بل عندما أكتب أو أقرأ أو أجالس أهل التصوف، بل وأبحث عنهم مع صعوبة وجودهم، فأنا أبحث عن مخرج وملجأ.
وقبل أن أتكلم عن المخرج والملجأ المنشود أود أن أوضح أمرًا، هل القارئ الكريم قد استوقفته إشارتي في قول: (مع صعوبة وجودهم)، إذ قد يقول قائل ما صعوبة ذلك؟ هاهي الأعلام والرايات والخيام في الموالد والاحتفالات بالأولياء، فما عليك إلا أن تذهب إلى هناك لتجدهم..
أقول أيها القارئ، إنني أحضر هذه المحافل منذ طفولتي، وما زلت مترددًا على مقامات آل البيت والصالحين زائرًا محبًّا متقربًا بهذه المحبة لله ورسوله، فالمرء مع من أحب كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وما زلت على معرفة ومودة بكثير من أصحاب الطرق وأبنائها وأرى ما فيهم من الخير والمودة والأدب وحميد الخصال، وأتجنب من أرى فيه غير ذلك.. ولكن أين التصوف وأهله؟
إن التصوف لم يكن يومًا أعلامًا ورايات، إن التصوف ليس موالد وموائد، إن التصوف ليس طبولا ومواكب، وأنا لا أقول ذلك من باب الإنكار لهذه الأشياء، فأنا من أهلها ولكني أقول إن من فعل هذا فظن أنه قد أصبح صوفيًّا فهو واهم.
وكثيرًا ما يحضرني قول الشيخ محمد خليل الخطيب رحمه الله وهو أحد الصالحين المعاصرين الذي لا يخطئ من ينظر في رؤية النور الذي يشع منه، دائمًا ما أستحضر قوله: (التصوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة بغير اسم، والتصوف في زماننا اسم بغير حقيقة).
نعم، فالتصوف بمعنى المعرفة وصدق التوجه والزهد في الدنيا وعدم التفات القلب لها، والورع وقلة الطمع إلى غير ذلك من صفات أهل التصوف التي جاءت في تصانيفهم، فالمسلمون الأوائل كانوا مظهرًا لهذه المعاني، ولم يكن اسم التصوف عن عرف فكان حقيقة فيهم بغير اسم. وفي زماننا، فقد رفع رايات التصوف كل من أراد، وادعاه كل من شاء فأطلق عليه الاسم، ولكن أين الحقيقة التي تدعم هذا الاسم.
فأين هؤلاء الرجال؟ أين أهل الدين الخالص؟ أين من هم على شاكلة أصحاب رسول الله؟ أين الصادقون الذين أمرنا في الكتاب أن نكون معهم؟ (يَـا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ) [سورة التوبة: 119] أين نجد هؤلاء في هذا الزمان؟
نحن نبحث عن أفراد لا عن جماعات، فهذه الأحوال السنية أحوال عزيزة شريفة، والخصوصية لا تكون خصوصية إلا مع الندرة.
نبحث عن رجال في صحبتهم المخرج من فتن هذا الزمان وأهله، نبحث عن رجال تخرجنا صحبتهم من تسلط الدنيا على القلوب، هذا التسلط الذي جعلنا نعيش بقلوب الذئاب وإن ارتدينا عباءة النساك والعباد..
نبحث عن رجال في صحبتهم المخرج من سوء الخلق الذي شاع فصار عرفًا لا ينكر أحد على أهله. نبحث عن ملجأ من الهوى والنفس اللذين أصابا القلوب بالعمى فعبد الهوى وتسلطت النفس.
نبحث عن الصدق وأهل الصدق، ولا مشاحة في الاصطلاح، فليكن الاسم صوفية أو غير ذلك، فلا حاجة لنا بالاسماء، ولكن الحاجة إلى المعاني والحقائق.نبحث عن الفهم الذي يخرج من ظلمة الوهم، فكم من أقوام يرفعون رايات التوحيد، يكفرون المسلمين ويتكلمون في التوحيد بسطحية عجيبة، ويرتبون نتائج على المقدمات بغباوة شديدة تكاد لا تصدقها وأنت تسمعهم، وما هذا إلا لأنهم حرموا نور الفهم. حتى أن أحدهم يخرج عليك في الإعلام المرئي يقول أنه دخل مسجدًا فوجد فوق المحراب كلمة (الله) وكلمة (محمد) وقد وضعتا يمينًا ويسارًا فدعى إمام المسجد وقال له: كيف تضعون الكلمتين متوازيتين هل تساوون المخلوق بالخالق..
وليس لي إلا أن أقول إنا لله وإنا إليه راجعون، إن كل المحاريب من عشرات السنين يوضع فوقها لفظ الجلالة واسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الذي اعتقد أو توهم من العوام أو العلماء أن في ذلك مساواة بين الخالق والمخلوق، سبحانك هذا بهتان عظيم.. ولكنها سطحية العقل، والحرمان من نور الفهم الذي يجعل صاحبه يتخبط في ظلمة الوهم، فيرى سمادير السكران، أي هذه الخيالات التي يراها السكران حال سكره.
إني أبحث عن طريق التزكية لهذه النفس لتكون نفسًا محمدية المشرب والسلوك.. نبحث عن صفاء التوحيد الذي يخرج صاحبه من الأسر ويفكك القيود لتنطلق الروح في عالم القرب من المعبود سبحانه وتعالى..
أبحث عن الغنى، ليس الغنى المتبادر إلى الأذهان في كثرة المال والأملاك، فالغنى فانٍ، ولكن أبحث عن الغنى بمعرفة الغني سبحانه وتعالى.. أبحث عن القوة، قوة الاعتماد وحسن التوكل على القوي سبحانه.
لقد سئمت القيل والقال، ومللت من كثرة الجدال، فلا جدوى من ذلك، واشتقت إلى حال أقوام خرجوا من الأسر فصاروا أحرارًا.. صاروا أحرارًا لأنهم صاروا عبادًا للواحد ولا أحد إلا الواحد. اشتقت إلى قوم تجردوا عن هواهم، وأحبوا الله مولاهم حبًّا آثروه به على كل ما سواه. سئمت رؤية مظاهر القسوة في سلوك البشر، قسوة وغضب مكبوت في القلوب نراها في معاملات الناس من حولنا في كل شيء.. واشتقت إلى قوم رحماء تفيض رحمتهم من حولهم. سئمت من حب النفس والأنانية المتسلطة علينا، الظاهرة في سلوكنا، واشتقت إلى قوم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
اشتقت إلى رؤية أخلاق قد ندرت وأقوام قد شح وجودهم. إننا نحتاج إلى إعادة تأهيل، وإلى إحياء معان ماتت أو كادت أن تموت.. نحتاج إلى إحياء أخلاق كلما جلسنا في أي مجلس أخذنا نتأسف عليها ونتحسر بذكرها، وكأننا نذكر عزيزًا لنا قد مات.
ولإحياء هذه المعاني فلا بد من البدء بالنظر في مرآة النفس، لنغير ما بأنفسنا أولا حتى يغير الله ما بنا.. فنحن نتحسر على أخلاق ماتت في الناس وننسى أنها قد ماتت فينا أيضًا.. نحن نلوم على الناس ولا نعاقب أنفسنا..
ولهذا أبحث عنهم.. أبحث عن قوم بدءوا بتطهير النفس قبل أن يتصدروا لموعظة الناس.. أبحث عن قوم يحاسبون أنفسهم قبل محاسبة الناس.. أبحث عن قوم بادروا بإصلاح الذات قبل أن يحاولوا إصلاح الناس.. أبحث عن قوم شغلتهم عيوبهم عن عيوب الناس.
هل لنا أن نقف في المرآة دون هذه الأقنعة الزائفة التي نتجمل بها في عيون الناس.
هل لنا أن نغسل هذه المساحيق التي تغير اللون لنرى لوننا الحقيقي دون تلوين وتغيير.
هل لنا أن نصدق مع الله ومع النفس لنصدق أن في هذا الإصلاح صلاح لنا جميعًا.
ألا نرى أننا في طريقنا إلى الهاوية؟ هل صرنا بهذه الغباوة والحماقة بحيث نفهم أننا لا بد أن نتوقف ونراجع أنفسنا.
حقًا لقد صدق القائل :
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
عندما أكتب عن التصوف فأنا أبحث عن أهل صدق لعلي أجدهم في هؤلاء القوم..