حاولت في الأسبوع الماضي أن أوقظ نفسي لأنظر في المرآة، وهذا قناعة مني أن هذه هي البداية.. فالبداية لا بد أن تكون عن طريق اليقظة فلا فائدة من خطاب النائم. فلا بد من اليقظة لنتسائل هل نحن على حق؟ هل هذه هي الحياة التي نريد أن نحياها؟ هل هذه هي الحياة التي نريدها لأبنائنا؟ هل، هل، هل،....إلخ.
لا بد من أسئلة توقظ النفس، ومن وقفات لتجديد وتحديد المسار للفرد والمجتمع.. كثير منا يظن أنه يعرف، ويسير بناءً على قناعاته الخاصة، فإذا به بعد مضي قدر من عمره يتفاوت بين واحد وآخر ينتبه وينظر وراءه فيشعر أنه قد ضيع عمره دون محصلة حقيقية.
ومن الناس من يمضي عمره ويفارق هذه الحياة دون أن يستيقظ، فيعيش هذه الحياة غافلا، تائهًا وإن ظن أنه على هدى.
فلنتأمل في أحوال من سبقونا وننظر بم نذكرهم لنرى التفاوت في السيرة من شخص إلى آخر، ونرى كذلك التفاوت في قدر ذكرنا للأشخاص فنعرف كيف يطيب ذكر الإنسان وكيف يسوء.. فبالانتباه، والتفكر يمكن لنا إعادة توجيه الدفة لتصحيح المسار.
إن قيمة الإنسان في هذه الحياة تعتمد على كيفية تأثيره فيمن حوله وعلى قدر هذا التأثير.. وهذا التأثير كمي ونوعي.. أما الكمي فهو في عدد من يؤثر الإنسان في حياتهم، ومقدار هذا التأثير في حياة كل واحد من هؤلاء.. وأما النوعي، فهو هل هذا التأثير إيجابي أو سلبي.. وهل هو مادي أو معنوي.
فإذا أراد الإنسان أن يعرف قيمته في هذه الحياة فلينظر ويسأل، كم عدد الأفراد الذين سيتأثرون بغيابي عن هذه الحياة؟ وكيف سيكون هذا التأثير؟ فقيمة الإنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأثره في حياة غيره، وما هو مقدار الخير والعطاء الذي يسوقه الله بهذا الإنسان إلى من حوله، ولذا فإن الأنبياء كانوا بلا خلاف أفضل خلق الله إذ إن الله خصهم بهداية هذه البشرية لما يحبه ويرضاه، فساقوا من اتبعهم إلى خير الدنيا وخير الآخرة.
ولذا نرى أن الله سبحانه وتعالى ربط خيرية هذه الأمة بأثرها في الغير فقال عز من قائل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لهُمْ منْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة آل عمران: 110].
فانظر كيف أن الخيرية في الأمة أنفعها للناس وليست في الناس، فليس الأمر أمر تفاضل، ولكن الأمر قائم على أننا مبعوثون لغيرنا إن تحققت فينا الشروط.. فالخير أن تكون لغيرك توصل له ما عندك من خير، وما خصك الله به من فضل.
وانظر كيف أن الخيرية في الإصلاح والقيادة والدلالة على الخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله سبحانه..
فخير الناس إذن من بعث بالخير والفضل لغيره فكان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.
فإذا فهمنا ذلك وأدركناه إدراكًا واعيًا تغيرت توجهاتنا في هذه الحياة، وكسرنا فلك الأنا الذي نعيش فيه لأنفسنا، حتى من ادعى أنه يعيش لأبنائه فهو دائر في فلك نفسه، إذ إنه يعيش لامتداده في أبنائه ليشعر بالفخر بنجاحهم، وهذا الفخر من مستلزمات دائرة الأنا التي يعيش فيها الإنسان.
ولذا لما أراد أن يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكانته قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر.....) إلى آخر الحديث ليبين أن هذا الأمر بيان لحقيقة، أمر بإظهارها دون أن يكون له حظ نفسي فيها صلوات ربي وسلامه عليه وآله وسلم.
إن فهم قضية الخيرية القائمة على ارتباطنا بغيرنا في إيصال النفع لهم، والإصلاح في الأرض ما استطعنا دون مأرب شخصي ونفع فردي مباشر، أمر لا بد منه لإصلاح هذا المجتمع، ذلك أن هذا التفكك الذي نراه في مجتمعنا أمر جديد علينا دفعنا إليه دفعًا هذا التسلط المادي والتطلع المحموم إلى تحصيل المكاسب المادية طلبًا للثروة أو المنصب أو الجاه.
ذلك أن المجتمع لا يصلح إلا بإدراك الأفراد لهذا الرباط الغير مرئي بين هؤلاء الأفراد، وأن نهوض البعض على حساب الآخر معناه انهيار المجتمع لا محالة، وإن لم ير الأفراد هذا الأمر في المستقبل القريب، وظن البعض أنه بتحقيق المكاسب الفردية سيعلو وحده دون أن يدرك أنه ينخر في جدار هذا المجتمع تمهيدًا لأنهياره.
وقد استطاع الغرب أن يضع أفراده في هذه المنظومة بمراعاة حقوق الآخرين بقوة القانون حتى وصل الأفراد أو غالبيتهم إلى قناعة بهذا السلوك القائم على الحرية المحدودة التي لا تتجاوز حدودها فتؤثر سلبًا على الآخر، فنهضت هذه المجتمعات بقوة القانون الذي تطول سطوته الكبير والصغير.
إلا أن عدم ارتباك هذه المجتمعات بقانون السماء جعل فيها خرقًا سيتسع مع الوقت تمهيدًا لانهيارها لا محالة، فمجتمع تقنن فيه الدعارة، ويطالب الشواذ فيه بحقوقهم، وتسقط فيه قيم كقيمة الحياء لا يمكن أن يستمر مهما وقفنا أمامه منبهرين بما يحققه هذا المجتمع من إنجازات.
أما عن مجتمعنا، فقد غابت عنه قوة القانون الذي نهض على أساسها المجتمع الغربي، فسادت هذه الفوضى التي نراها في كافة نواحي حياتنا، كما غاب عن المجتمع بركة الارتباط بالمنهج السماوي بروحه ومقاصده التي تحمل معها معاني ارتباط الفرد بغيره، ولكن من خلال إيمانه بربه، واتباعه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال قيم سامية تحقق للإنسان صلاح الدنيا ونور الآخرة ساقها الشارع في نصوص مقدسة؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
حديث واحد من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يصلح لنهضة أمة.. حديث واحد يمكن أن يكون طريقًا لإصلاح المجتمع إذا جعلناه سلوكًا لأنفسنا، ومنهجًا لتربية أبنائنا. حديث واحد يمكن أن نضعه عنوانًا للفرد في صلته بالمجتمع، فيكون منهجًا في كل نواحي المعاملات، البيع، الشراء، الزواج، الطلاق،... إلخ.
فلنا أن نتصور إذا ترسخ هذا المعنى في القلب، كيف يكون سلوك الجار مع جاره، الرئيس مع مرءوسه، الزوج مع زوجه، قائد السيارة مع من حوله، العامل مع زميله... إلخ.
فإذا جمعنا مع هذا الحديث أحاديث أخرى في حق الجوار، وحق الطريق، وحق الزواج، وحق الأجير إلى آخر الحقوق، وجدناها منهجًا كاملا، وقانونًا سماويًّا تقوم عليه نهضة هذا المجتمع، ذلك أن هذه الحقوق بارتباطها برضا الله سبحانه وتعالى يكون له قدسية في قلب المؤمن الصادق المحب لله ورسوله.
فلا بد لنا من إحياء هذه المعاني وجعلها منهجًا للتربية في بيوتنا ومدارسنا لتكون بديلا عن القيم المادية الاستهلاكية التي وردت علينا من الغرب دون أن ترد معها القيم الإنسانية التي قامت عليها نهضة هذا الغرب المبهر لشبابنا.
ومع إحياء هذه القيم فلا غنى عن قانون رادع يستوي أمامه أفراد المجتمع لإيقاف هذه الفوضى غير الخلاقة التي نعيشها ونعايشها في كل نواحي الحياة.
إن هذا الأمر يحتاج إلى صدق توجه الحاكم والمحكوم، العالم والعامي، لتعيد توجيه الدفة وتعديل المسار بعزم الرجال إذ إن الأمر يحتاج إلى جهد وجهاد للنهوض بهذا البلد، أدام الله أمنه وأمانه.
وهذا الطريق يبدأ بالنظر في المرآة والمصارحة مع النفس.