كانت زيارتي الأسبوع الماضي إلى الولايات المتحدة هي الزيارة الأولى في حياتي ونزلت وأنا لا أدري حقيقة ما سألقى من معاملة كعربي مسلم سواء في لندن العاصمة البريطانية حيث محطة انتظاري لمواصلة الرحلة أو في الولايات المتحدة حيث زيارتي القصيرة..
والحق أنني لم أجد أو أشعر بأي معاملة مختلفة من أي نوع من الأفراد أو السلطات هنا أو هناك، باستثناء الانتظار في مطار نيويورك لاستكمال بعض الأسئلة الإضافية، ولعل السبب في ذلك أنها الزيارة الأولى، وتم ذلك في هدوء وأدب تام، أما سائر الإجراءات الأمنية فيستوي فيها الكل من الجنسيات المختلفة دون تمييز.
وأخذت أستعيد كلمات مقالي الأخير الذي كتبته محاولا فهم معاني الخيرية للأمة المحمدية وأنا أسير في شوارع مدينة نيويورك حيث قضيت يومين، وأخذت أنظر حولي متأملا هذه الأنوار المبهرة التي طالما سمعت الناس تتحاكى عنها في قلب مانهاتن، والحق أنني لم يحدث عندي الانبهار المتوقع بالنسبة للزائر للمرة الأولى، والحق أنني لا أعرف سبب ذلك، ولكن لم أجد ما يبهرني، وأخذت أتأمل البشر، وكلما نظرت إليهم وجدت نفسي أقول مرددًا (الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة)، وكلما رددتها أخذت أجول بخاطري في خيرية الأمة وكيف أن لها مهمة غفل عنها أكثر الناس.
لقد استولى على قلوبنا ما وصل إليه هؤلاء من قوة مادية وتطور في هذه الحياة فتطلعنا إلى ما عندهم، وغفلنا عما عندنا نحن مما يحتاج إليه الناس علموا ذلك أم لم يعلموا.. ولعل السبب في ذلك أننا لا ندرك قيمة ما عندنا ولا نعلم قدر ما خصصنا به من خير، ذلك أننا لم نقم بحقه، ففسدت الأخلاق وتدهورت الأحوال، فظلمنا بذلك أنفسنا وأسأنا إلى منهجنا وديننا إذ حسب عليه ما نحن فيه من تدنٍّ وتدهور وهو أي دين من ذلك بريء.
نعم، لقد غفلنا عن حقيقة وروح هذا الدين، وعن الأسس التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجتمع المسلمين في سنوات قليلة، إذ إن العشرين سنة في أعمار الأمم زمن قصير إذا قيس بمقدار التغيير والتأثير الذي أحدثته الدعوة، وأقامه النبي في شبه الجزيرة من بداية بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته بعدها بثلاث وعشرين سنة.
ونرى هؤلاء في تاريخهم المعاصر يجتهدون في محاولة إرساء أسس رأوا فيها صلاح مجتمعاتهم فسنوا لها قوانين وقامت من أجلها حركات إصلاح، عذب من أجلها من عذب واضطهد من اضطهد، فغيروا وبدلوا وأصلحوا.
فهذا المجتمع الذي قام على التمايز، والذي حدث فيه ما حدث من تقتيل وتذبيح لسكان القارة الأصليين، وهذا المجتمع بعنصريته البغيضة التي جعلتهم يحتلون البلاد ويستعبدون العباد، وإذا به يعيد توجهاته نحو معاني الحرية والمساواة..
ولنرجع إلى ما عندنا من القواعد والأسس التي جاء الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه ليبني عليها دينًا ودولة، ولنراجع نصوصنا لنعرف القواعد الكلية التي يجب أن تقيم عليها دنيانا وديننا، إذا فعلنا ذلك وجدنا (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [سورة البقرة: 256]، ووجدنا (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف: 29]، ووجدنا في معاني المساواة التي أرساها الحبيب بكلماته المباركة (كلكم لآدم وآدم من تراب). لقد سبق الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه والأنبياء السابقون من قبله بما جاءهم من وحي السماء جميع حركات الإصلاح، فكانت دعوات الأنبياء دائمًا هي الملجأ للمستضعفين لرفع الظلم والقهر عنهم في كل زمان ومكان.
وفي الوقت الذي نرى فيه الغرب يحاول جاهدًا أن يسير في هذا الطريق دون أن تخلو محاولاته من عوائق قوى العنصرية البغيضة تجاه الأجانب عامة في بعض البلدان كما في ألمانيا، أو تجاه العرب والمسلمين هنا وهناك بتأثير من الإعلام الصهيوني أو اليمين المتطرف، تجد أن الغرب على المستوى الفردي قد تحرر الكثير من أفراده من مفاهيم التمييز العنصري القائمة على أساس اللون والجنس، غير أن الأمر على المستوى السياسي يختلف إذ ما زال التعصب والتطرف والنظرة الاستعمارية هي المتحكمة والمهيمنة على العقل الحاكم ولو تشدق السياسيون بغير ذلك، ولكن الواقع كان وما زال يكذبهم مع مطلع شمس كل يوم جديد، فهؤلاء هم الذين وصفهم الحق عز وجل قائلا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوَا إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـَكِن لا يَشْعُرُونَ) [سورة البقرة: 11-12].
والعجب كل العجب من أننا نجد في مجتمعنا وفي بلداننا التي تدين بالإسلام وتتبع خير الأنام قد وصل بنا الحد والهوان أن يأتي أقوام من بلدان كانت تخرج البعثات لاصطياد البشر من بلدان إفريقيا لاستعبادهم وبيعهم قبل عشرات السنين، يأتي لنا هؤلاء ليفتشوا ويكتبوا التقارير عن انتهاك حقوق الإنسان في مجتمعاتنا.
إلى هذا الحد ضيعنا ديننا؟ إلى هذا الحد هانت علينا أنفسنا؟ ألسنا أولى بذلك؟ بلى والله إننا أهل ذلك والأولى به، إلا أننا ضيعنا ديننا، وأحيينا معاني الجاهلية في مجتمعاتنا.. أحيينا معاني القبلية والعصبية والتمايز، وأصبح الظلم عنوانًا لمجتمعاتنا، وضاعت قيم العدل والمساواة.
وهل هناك ضياع لهذه القيم أكثر من أن يحتاج الإنسان منا في كل صغيرة وكبيرة إلى البحث عمن يعرفه قبل أن يتوجه إلى أي مكان لقضاء مصلحة عادية من أبسط حقوقه كاستخراج بطاقة أو ترخيص قيادة أو غيرها؟
هل هناك ضياع للحقوق أكثر من أن يخشى الإنسان الذي يقع عليه الظلم أو يقع عليه أي نوع من أنواع التعدي، أن يتوجه إلى قسم الشرطة ليطلب رفع الظلم عنه أو يطالب برد حقه؟
هل هناك جاهلية أكثر من أن يصل بنا الحد ونحن ندين بدين الإسلام أن يصبح سب الآباء وإهانة الأعراض أمرًا عاديًّا نسمعه في شوارعنا على أهون الأسباب؟
هل هناك عصبية أكثر من أن نخرج بعد مباراة في كرة القدم فنحطم سيارات ونتعدى على إخوان لنا بالسب والضرب لأن هذا الفريق أو ذاك قد خسر؟
قد يرى بعض القارئين لهذا المقال أنني متشائم أو أرى الصورة قاتمة، ولكن فليراجع الأمثلة التي ضربتها، وليقل لنفسه هل هي صحيحة أم أن فيها من التجني بعض الشيء. المجتمع يحتاج إلى وقفة حقيقية مع النفس ورغبة صادقة في التغيير بعيدًا عن الشعارات..
فلمصلحة من نكذب على أنفسنا؟ ولماذا نحاول أن نتجمل وكلنا يرى الحقيقة عارية؟
إننا لا بد لنا أن نتحرك قبل أن يصل المجتمع إلى نقطة الانفجار، والله ما أنا إلا ناصح، ليس لى مأرب ولا غاية إلا محبة هذا البلد الذي اشتقت للرجوع إليه بعد أيام قليلة من زيارتي إلى بلدة يتمنى الكثير أن يعيشوا فيها، وأخشى على نفسي من أن أصل إلى رغبة مغادرة هذا البلد كما رغب فيها الكثير، وتتزايد هذه الرغبة كل يوم في أبناء شعب كانت سيمتهم حبهم لبلادهم..
فليتحرك رجال الدولة وعلماء الدين والاجتماع والاقتصاد وليبحثوا بحثًا جادًّا، بعيدًا عن الكاميرات والمؤتمرات والموائد والولائم، يبحثوا عن أسباب ما نحن فيه، وعن كيفية الخروج منه، ولنصدق مع أنفسنا، فحالة الإحباط واليأس التي تسيطر على شباب هذا البلد لا يمكن معها أن ننهض أو نتحرك إلى الأمام.. ولا سبيل إلى التقدم إلا ببث الأمل في قلوب الشباب حتى يكون عندهم ما يتطلعون إلى تحقيقه.
نحن أولى بمعاني الحرية والحق والعدل والمساواة، نحن أولى بحقوق الإنسان والحيوان والطير، ونحن أولى بمعاني السمو والرفعة التي علمنا إياها خير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم..
ولكنه قد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله قومًا ضاع الحق بينهم).