هذا العنوان ليس من تأليفي أو وضعي ولكنه لاقى في نفسي عندما قرأته صدى لما في وجداني تجاه قطاعات كبيرة من البشر حولي أراهم يموجون في هذه الحياة، وهي تتلاعب بهم بماديتها الطاغية.
قرأت هذه الكلمة في كتاب بعنوان (الليبرالية المصرية) للدكتور رفعت السعيد وهو ينقل عن الأستاذ إسماعيل مظهر في بداية فصل عن هذا الكاتب المعروف.
يقول إسماعيل مظهر: (لقد ارتفعت حتى أذللت الألم، وأذللت معه الطمع والكبرياء والحقد والأنانية.. أصبحت واحدًا فريدًا بذاتي، خلقت من آلامي وأشجاني عالمي الكبير الذي أشرف منه على العالم الصغير، العالم الذي يموج بأحقاد الناس، لذت بالخيال ثم لذت بالحقيقة، فتشت كثيرًا عما يحمي كياني من أعاصير الطبيعة، ونفسي من أكاذيب الوهم، وصرخات الفكر لتلك القطعان الضالة التي تملأ فراغ الدنيا، ويفعم مرآهم نفسي وفكري بشتى الأحاسيس ومتضارب الخيالات.. كثيرًا ما هتفت نفسي بهم: يا قطعان الضلال، إلى أين أنتم ذاهبون؟).
إننا أمام كلمات فلسفية تمتزج بروح صوفية في ترفعهم وإن لم يكن –قطعًا- الأستاذ الراحل من أهل التصوف بالمعنى المتبادر للأذهان، إلا أن هذه الكلمات قد ذكرتني بما كان يقصه والدي رحمه الله عن أبيه الأستاذ إسماعيل مظهر، وكيف كان يتعامل مع هذه الدنيا مترفعًا عن الخضوع لها كما يخضع أكثر الناس.
ويظهر هذا جليًّا في رد فعل الأستاذ عندما رهن الأرض وهو من كبار الملاك من أجل أن يصدر مجلة (العصور) في وقت كانت الأزمة الاقتصادية طاحنة، تفقد الأرض عام 1930 واستولى عليها البنك العقاري، فإذا به يستأجر من البنك قطعة صغيرة من أرضه التي فقدها وأخذ يزرعها بنفسه دون أن تحدث فيه هذه الصدمة ما يحدث لأمثاله عند فقدان ثرواتهم.
وأنا أضرب هنا مثلا بهذه القصة للدلالة على أن هذا الكلام المنقول عن الأستاذ إنما هو عن حقيقه وليس عن ادعاء..
فنحن أمام حالة من الترفع والعلو والاحترام للذات من أن تخضع أو تذل..
والحق أن كلمات الأستاذ قد استهوتني كثيرًا إذ إن المتأمل لهذه الحياة وما يجري حوله يرى هذه القطعان الضالة وهي تسير على غير هدى، تتناحر وتتسابق في سباق محموم تحكمه الانتهازية والمصالح الشخصية، وكلما زاد التأمل زاد الإحساس بالغربة والرغبة في العزلة. نعم، قد تكون هذه الرغبة هروب في نظر بعض الناس، إلا أن الاستنـزاف الذي يحدث من جراء مجالسة البشر يجعل الإنسان بحاجة إلى الخلوة ليعيد شحن روحانيته ليجد ما يمكن أن يعطيه للناس.
قطعان ضالة، في كل مجال تراهم.. في السياسة، أهواء ومنافع، كذب وخداع.. فأين يمكن أن تجد مكانك.. في تجارة؟ نفوس طامعة، ورغبة جامحة في الاحتكار، واستعلاء الرأسمالية بقسوتها وجبروتها. الدين والدعوة؟ لا تعليق.
وعن السياسة والسياسيين يكتب الأستاذ لابنه في رسالة يقول: (أريد أن أسدي إليك نصيحة أبوية، لا تشتغل بالسياسة، فإنها في الشرق، وفي مصر خاصة، تسخير لإرادة النفعيين والانتهازيين، إذ إنهم نبغوا في تقنيع أغراضهم الشخصية بقناع من المبادئ توصلا إلى استخدام السذج في سبيل أغراضهم.. ولن تكون يا بنة آلة لهؤلاء مهما كانت المغانم التي تترتب على ذلك.. ولست بحمد الله من بيت يؤثر الغنم على المثل العليا، ومهما يكن من أمر الاشتغال بالسياسة فإنها في الشرق تلويث أربأ بك عنه).
إننا أمام حالة كما قلت، حالة من الترفع عن كل شيء سوى ما يؤمن به من مبادئ ومثل عليا.. إن من يعيش بهذه المثل لا شك أنه يعيش في غربة في هذه الحياة.. غربة عاشها أهل الإصلاح والصلاح في كل زمان ومكان.
كم من القوة يحتاج الإنسان ليحمي نفسه من هذا الطوفان، فلا يغرق؟ وكم من العزم يحتاج ليستتر عن تلك الأعاصير التي تعصف بكل شيء حوله حتى لا تطيح به؟ كم يحتاج الإنسان من الثبات حتى لا يجري خلف هذه القطعان الضالة؟
أتذكر الآن نداء سيدنا نوح عليه السلام لولده قائلا قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىَ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَبُنَيّ ارْكَبَ معَنَا وَلاَ تَكُن معَ الْكَافِرِينَ) [سورة هود: 42].
وأتذكر قول الله عز وجل قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ) [سورة التوبة: 119].
الأمر أمر معية، فلا بد أن نبحث عن أهل الصدق لنكون معهم، وأقول يقينًا أن أهل الصدق هؤلاء أفراد، لا جماعات ولا تنظيمات، فكل هذا لا يخلو عن الأغراض والأهواء. أمر أهل الصدق فقد احتموا بعالمهم الخاص من العواصف والأعاصير.. دخلوا الكهوف حسية كانت أو معنوية.. أووا إلى الكهف طالبين الرشد والهداية من الله، واعتزلوا الناس وما يعبدون من دون الله من آلهه عبدت وأصنام نصبت.
الأمر ليس هروبًا إذن، وإلا لقلنا أن نوحًا كان هاربًا في سفينته، وأن الخليل كان هاربًا في عزلته، وأن الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم كان هاربًا في هجرته.
إن الأمر أمر فرار إلى الله قال تعالى: (فَفِرّوَا إِلَى اللّهِ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ) [سورة الذاريات: 50].
إن الدخول في كهف العناية والرعاية الإلهية في صحيفة أهل الصدق هو الوقاية الحقيقية من هذا الطوفان. كم من الأوهام تظهر لنا فنظنها حقيقية؟ وكم من الخيالات تتراءى لنا فنتبعها فإذا هي سراب؟ كم من أناس ينظرون في مرآة يرون أنفسهم أكبر من حقيقتهم؟ قطعان ضالة !!
لا بد أن نخرج من هذا القطيع، ونتجرد عن هذه الأوهام وتلك الخيالات.. فالإنسان هو المخلوق المكرم من الله في هذا الوجود، فلِمَ يهين نفسه بعد أن كرمه الله. وشأن هذه الكرامة أن يسمو الإنسان ويسمو، ويطلب العلو ويترفع عن الدنو.. شأن هذه الكرامة أن يجعل روحه تسمو به في المعارج العلوية، ولا شك أن يترك شهوته تنحط به في الدركات السفلية.
يا نفسي، لا تكونى فردًا من أفراد هذه القطعان، اخرجي من هذا الأسر، تخلصي من هذا الوهم، وقفي النظر لتتعرفي على تلك الخيالات.
أنصتي إلى قول الله: قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ من شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىَ نُورا وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرا وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [سورة الأنعام: 91].
هو الحق، وما خلا الله باطل.. ناد في هذه القطعان، إلى أين أنتم ذاهبون؟
ولكن هل يمكن لهذه القطعان أن تسمع؟ وإن سمعت فهل يمكن أن تستجيب؟ هل آن الأوان ليبرز من وسطها من يطلب الرجوع إلى الحق؟ هل فيها من سينتبه من غفلته ويفيق من سكرته؟
لم يكلفنا الله بالنتائج، بل كلفنا البلاغ.. فلا بد أن نبلغ، وأن نقوم بأمره، وأن نبلغ عن نبيه صلى الله عليه واله وسلم ونحن على حذر من أن تعترينا الأوهام في هذا الأمر، فما أشد الوهم على أهل الدعوة في دعوتهم، وهم بأنفسهم من أنهم من أهل الخصوصية، ووهم الاغترار لما يرونه من تقدير الناس لهم واحترامهم إياهم.
لا بد من البلاغ، فقد يجعل الله في الكلام الأثر.. لا بد من النداء، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا.. لا بد أن نحذر ونقول يا قطعان الضلال، إلى أين أنتم ذاهبون؟