نسخة تجريبيـــــــة
مراقبة الحق ومعاملة الخلق

حديث مشهور ومعروف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حديث الثلاثة الذين أغلق عليهم باب الغار، فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة حتى فتحت لهم الكوة فخرجوا، حديث يتداول على ألسنة الخطباء والوعاظ، ودائمًا ما يأتي في سياق التوسل بالأعمال الصالحة، إلا أنني أتوقف الآن عند ملمح آخر ألا وهو نوعية هذه الأعمال التي توسل بها هؤلاء وفرج الله بها عنهم ما هم فيه.
الأول ضرب مثلا رائعًا في بر الوالدين والتفاني في خدمتهم، بل وتقديمهم على نفسه وأولاده.. أما الثاني، فأحسن إلى ابنة عمه، وحافظ عليها خشية لله، مع شدة حبه وتعلقه بها. والثالث حفظ مال الأجير ونماه له ولم تطمع نفسه طوال هذه السنوات وهو يرى هذا المال ينمو أمامه، فدفعه إليه وهو قد جاء يطلب أجر يوم واحد.
بر وعفة وأمانة، إننا أمام أعمال نبتت من أخلاق قلبية فاضلة راقية.. ولسنا أمام أعمال جوارح مجردة، وصورة خالية من الروح.. بل هي روح أبرزت إلى عالم الظاهر عملا خالصًا لوجه الله.
وأمام هذه الصورة نريد أن نتوقف لنراجع أنفسنا..
إن هؤلاء لم يتوسلوا بصلاتهم أو صيامهم أو دعائهم، إنما توسلوا بأعمال قدموها للخلق ولكنها ابتغاء وجه الله..
وهذه هي المعادلة الإيمانية المكتملة الأركان، عبد يسير في هذه الأرض يصلح ويعمر ويحسن إلى الخلق، إلا أن قلبه قد انصرف في هذا كله إلى الله يبتغي وجهه.
الصلاة والصيام والزكاة والحج، هذه العبادات والطاعات طريق للتزكية والترقية وتحصيل أنوار التقوى في القلوب ليكون الإنسان كمشكاة فيها مصباح، ينير لهذا ويأخذ بيد هذا، يصلح ويعمر ويدل على الخير ويأمر به، وينهى عن المنكر ويبتعد عنه. فإذا وجدنا المساجد قد امتلأت، والأفواج إلى بيت الله وقد كثرت، ورءوس النساء وقد علاها غطاء الرأس، ووجوه الرجال وقد خبأتها لحاهم، مظاهر ومظاهر للدين، ولكنها مظاهر تبحث عن حقيقة.. وأجساد تبحث عن روح. لقد اختلت المفاهيم واضطربت، وخرج علينا شيوخ ووعاظ، أوصلوا إلى عقول الناس أن دين المرأة غطاء الرأس، وأن دين الرجل لحيته، فإذا غطت المرأة رأسها، وأطلق الشاب لحيته يقولون أن فولانا قد (التزم)، وأن فلانة قد (التزمت).
إن جريمة قد تمت، وحدث بالفعل تسطيح لعقلية المسلمين، تسطيح لا يخفى على أي عاقل يتابع برامج الفتاوى، ويسمع فيما يسأل الناس، وتكون الطامة الكبرى عندما يسمع الإجابة.. تسطيح جعل الدين وأهله وعلماءه فريسة لهجوم العلمانية ومن يسموا بالمفكرين الذين يريدون أن ينسلخوا من الدين ويخضعوا الناس لعبادة العقل دون ضابط شرعي أو منهج رباني.
إن هذا الحديث الذي توقفنا عنده يبين لنا أن هؤلاء إنما كانت أرجى أعمالهم التي رفعوها إلى الله لتكون وسيلتهم إليه، إنما هي أعمال كانت وجهة ظواهرهم فيها إلى الخلق، ووجهة بواطنهم وقلوبهم فيها إلى الحق.
كيف يمكن أن نصل إلى حل هذا اللغز الذي نراه بين ظاهر الناس الذي يشير إلى زيادة في الدين، وبين سلوك يبين أن هذا الظاهر ليس من ورائه خشية حقيقية ومراقبة قلبية لله سبحانه وتعالى.. أو يظهر أن الناس قد أساءوا فهم معاني الصلة بالله، فاكتفوا بأداء الفرائض والعبادات ظانين أنهم بذلك قد أدوا ما طلب منهم، فإذا خرجوا من المساجد، خلعوا عباءة النساك وتلونوا وتغيروا على كل وجه ولون.
إن هذا الحديث وغيره من الأحاديث النبوية التي ترفع قيم الرحمة والتراحم، وقيم مثل السعي في مصالح الغير، وإعانة الغير، وصلة الخلق والعفو عنهم إلى غير ذلك من الإشارات النبوية الواضحة إلى أن الصلة بالله والمحبة الحقيقية له سبحانه لا بد وأن تقوم على البذل والعطاء وحسن العشرة للناس.
وقد يظن البعض أن هذه المعاني تظهر فقط في الإنفاق المادي، وهذا فهم قاصر.. نعم، إن إنفاق المال وجه عظيم من أوجه التعاون والتراحم، إلا أن الحق يبين أنه لا بد من وراء هذا الإنفاق من وجود قلب رحيم متواضع لا يرى صاحبه لنفسه منة على أحد، فإذا لم تتوفر هذه المعاني في قلب المنفق فقد يبطل صدقته فيقول الحق تعالى: (قَوْلٌ معْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ من صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ) [سورة البقرة: 263]،  قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَى كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ ممّا كَسَبُوا وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة: 264].
إن العمل يبطل إذا لم يكن من ورائه قلب يعي معنى هذا العمل، وإن الحسنات قد تضيع إذا لم يكف الإنسان أذاه عن الخلق. وهذا حديث المفلس يبين فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المفلس من أمته من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا.. فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه ثم طرح هو في النار..
إن الدين ليس دين نسك فقط، ولكنه دين تربية وأدب وسلوك وتواضع ورحمة، إلى غير ذلك من المعاني القلبية التي هي من صميم الإيمان الذي هو ما وقر في القلب وصدقه العمل كما بين الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وآله وسلم.
فإذا خلا العمل من الإيمان فهو عمل المنافقين، وإذا وقر في القلب معانٍ لم تترجم إلى عمل فهو إيمان ناقص مبتور.
إن الصلة بالله تقوم على ترك (الأنا) وعدم الدوران في فلك النفس، بل تقوم على تعدي الخير والفضل من النفس إلى الغير، حيث يصير المؤمن كالشجرة المثمرة التي يأكل الناس منها ثمرًا طيبًا، ويستظل السائر في اليوم الحار في ظلها.. ينتفع بها كل من اقترب منها، لا شوك فيها ولا أذى.. من جلس في جوارها استظل بظلها، من اتصل بها أكل من ثمارها، وهكذا المؤمن وهكذا يجب أن يكون.
هكذا الجليس الصالح فهو كحامل المسك كما بين لنا النبي، لن تخرج من جلسته إلا بعطاء وأثر طيب، ولو لم يكن ذلك إلا أن تشم منه رائحةً طيبة. أما جليس السوء فهو كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك أو تشم منه رائحةً خبيثة.
وفي شهر رمضان وفي عبادة الصيام فرصة للمسلم لكي يعيد تربية هذه النفس وتقويمها وتهذيبها لو فهمنا معنى الصيام.
إن ما نراه من الانفلات الأخلاقي والسلوكي يبين لنا أننا لم نفهم معنى الصيام.. إن الغلاء في الأسعار القائم في كثير من الأحيان على طمع وجشع التجار يبين لنا أننا ما فهمنا معنى الصيام.. إن زيادة الاستهلاك وتضاعفه في رمضان يبين أننا لم نفهم معنى الصيام.
الصيام مدرسة روحية لو دخلها الإنسان فهمًا لمعناها لأعاد التوازن إلى نفسه وروحه بل وحياته.. الصيام مدرسة التقوى، يدخل الإنسان فيها ليعرف كيف يكون هو المسيطر على نفسه الكابح لجماحها، المتحكم في شهواتها.
الصيام مدرسة المراقبة، فهو عبادة سلبية، فما هو إلا إمتناع وليس فيه عمل إيجابي يظهر على جوارح الإنسان، ففيه لا يراقب الصائم إلا ربه سبحانه وتعالى.
الصيام مدرسة الصبر وضبط النفس، ألم يقل النبي فإن أحدًا شاتمك فلتقل إني صائم..
الصيام مدرسة البذل، ألم يعدنا الله على لسان نبيه بالأجر العظيم لمن فطر صائمًا ولو على شق تمرة.
الصيام مدرسة، كم منا يمتنع عن طعامه وشرابه فيمر عليه الشهر دون أن يدخل المدرسة لأنه ما فهم ما فيها من معانٍ.
المؤمن عبادة وسلوك، ظاهر وباطن، شريعة وحقيقة، مظهر ومخبر.. وفي مدرسة الصيام نرتقي لفهم هذه المعاني..
فما قيمة الإنسان الذي يعيش لنفسه فقط؟

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 55 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث