أتفكر دائمًا في أمر صلة الإنسان المؤمن بربه.. وما الذي تتوقف عليه هذه العلاقة؟ قد يكون الرد بدهي وسريع عند بعض الناس أو أكثرهم، فالأمر واضح، الإيمان والعمل الصالح.. ولكن الأمر يحير، الإيمان والعمل الصالح.. أي إيمان هذا؟
التصديق؟ كلنا معشر المسلمين مصدق تصديقًا جازمًا بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. العمل الصالح؟ نرى كثيرًا من الناس يحافظون على فرائضهم وعبادتهم، فهل هؤلاء هم المقربون؟ هل يؤدي العمل الصالح إلى القرب؟ أم أن المقرب هو الذي يصدر منه أعمال صالحة لما أعطاه الله وحباه من آثار هذا التقريب؟
يقول الله في كتابه العزيز: (إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [سورة فصلت: 30]، هؤلاء المبشرون الذين الذين تتـنـزل ملائكة الرحمن عليهم بالبشرى يصفهم الله بأنهم أقروا له بالربوبية فقالوا ربنا الله، وهذا الترتيب البليغ له معانٍ دقيقة، إذ لم يقل (قالوا الله ربنا) إذ يجوز مع هذا السياق أن يكون لهم رب آخر مع الله، ولكن جاء التقديم ليفيد حصرًا وقصرًا فقال: (رَبّنَا اللّهُ) أي لا رب لنا سواه.. فإيمان هؤلاء قد نقى قلوبهم ونفوسهم من شهود ربوبية لغير الله سبحانه وتعالى.. فهذا إيمانهم الذي جرد قلوبهم لله وحده فأفردوه سبحانه بكل ما يعبد به الرب، فلم يصرفوا ميلا ولا توكلا ولا خوفًا ولا رجاءً إلا له سبحانه.. وعلى هذا الوصف فلسنا منهم.. فكم تميل القلوب لغيره نطلب عطاء هذا، أو نخشى بطش هذا؟ كم نظرنا لعبد على أنه يملك فطمعت النفوس فيما عنده فتوددنا طالبين منه عطاءً.
فأول ما أوجد الصلة عند هؤلاء الخواص هو تطهير القلوب وتزكية النفوس من شهود حول أو قوة لغير الله، فلما رأوا الكل عاجزًا ولا قادر غيره، ورأوا الكل فقيرًا ولا غني غيره، قالوا ربنا الله، لا رب لنا سواه، فحفظوا قلوبهم من الأغيار، ولبسوا ثوب العبودية النقي الزكي لله سبحانه وتعالى، ثم استقاموا! سبحان الله العظيم، كلمة واحدة ترسم لنا معالم السلوك إلى الملوك، استقاموا..
أقصر الطرق بين النقطتين هو الخط المستقيم.. حقيقة علمية نعرفها جميعًا.. ولذا فمن أراد الوصول إلى مقام العبودية الأتم، فعليه أن يمشي هذا الطريق المستقيم لأنه أقصر الطرق إلى الوصول.. والطريق المستقيم هو الذي نطلب من الله أن يدلنا عليه ويهدينا إليه قائلين (اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [سورة الفاتحة: 6] ويعلمنا المولى كيف نطلب هذا الصراط فنقول: (صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّالّينَ) [سورة الفاتحة: 7]، أي أن على هذا الصراط رجالا قد سبقوا، وأئمة هدى قد وقفوا يحملون مشاعل الهداية ليدلوا من أراد الدلالة، ويأخذوا بيد من أراد السير إلى الله.
هؤلاء الرجال إنما اتبعوا من كان على صراط مستقيم إذ قال الله عز من قائل: (يسَ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ) [سورة يس: 1-5] أي أن الذين أنعم الله عليهم، إنما ساروا خلف هذا الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، إذ هو هذا الصراط المستقيم.. ويبين ربنا أنه ليس كذلك من باب البحث والاجتهاد بل هو (تنـزيل) أي وحي وعصمة من العزيز الرحيم جعلته أمام هذا الصراط المستقيم.
وهذا هو الشق الثاني في إيجاد الصلة والقرب من الله وهو لزوم الاتباع الكامل لهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالذي يؤدي إلى القرب الحقيقي هو فهم شهادة التوحيد والاستغراق فيها.. فقول ربنا الله هو الشق الأول من الشهادة (لا إله إلا الله)، والاستقامة هي الشق الثاني منها وهو (محمد رسول الله).
فما الذي حدث؟ وما الذي يجعلنا نرى اجتهادًا في الطاعات والعبادات دون أن يظهر أثر هذه العبادات على أصحابها أو أن تظهر لهم علامات المقربين وصفاتهم. الأمر واضح، لقد مررنا على الركن الأول والأعظم من أركان الإسلام مرورًا عابرًا ظانين أن الأمر مجرد أن نقول هذه الكلمة ونصدق بها.
لقد قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنوات مكة لم يكلف المسلمين شيئًا ولم يفرض عليهم شيئًا سوى أن يعلمهم هذه الشهادة وما فرضت الصلاة إلا في نهاية سنوات مكة في ليلة الإسراء. أي أن الدعوة انقسمت إلى نصفين تقريبًا، نصف لشهادة التوحيد، ونصف نزلت فيه سائر الأركان والتكاليف الشرعية..
نزلت هذه التكاليف على قلوب أشرقت عليها أنوار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فأزالت ما بها من ظلام الجاهلية وظلمها، فتلقت هذه التكاليف بشغف وتسليم قائلين (آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [سورة البقرة: 285].
أما الآن فنحن قد أقبلنا على أركان الإسلام بدءًا من الصلاة وانشغلنا بالتكاليف مجتهدين في الالتزام بها وتعليمها للناس دون أن نبني في نفوسنا ونفوسهم أساسًا قويًّا في فهم الركن الأول والأعظم من أركان الإسلام وهو هذه الشهادة.
إنها الركن الوحيد الذي نوافق فيه الخالق سبحانه وتعالى دون مشابهة أو تشبيه، فقد قال: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة آل عمران: 18]، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [سورة المنافقون: 1] شهادة من الله بأنه لا إله إلا هو، وشهادة منه أن محمدًا هو رسوله، ثم تكليف لنا بأن نشهد بما شهد به سبحانه وتعالى..
حاولنا أن نبني عملا صالحًا دون أن نؤسس قلوبًا نقية ونفوسًا زكية، فجاءت الأعمال صورًا خالية، لا روح فيها ولا نور ولا قرب ولا صلة.. بل تجد من أهل هذه الأعمال من بقي فيه من صفات الجاهلية من عصبية أو قبلية أو تفريق بين ذكر وأنثى في أبنائه إلى غير ذلك من أخلاق الجاهلية أوعادتها التي لم تمحها الصلاة أو الصيام بل محتها وقضت عليها أنوار (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
إن العبادة وحدها من صلاة وصيام وزكاة وحج ليست قادرة على تبديل صفات الإنسان وتخليته من كل خلق ذميم وتحليته بكل خلق حميد.. ولكن العبودية هي التي تعيد هذه الصياغة، تعيد صناعة القلوب السليمة.
ولذا نحتاج إلى الرجوع إلى الركن الأول والأعظم الذي لا تصح سائر الأركان إلا به، نحتاج إلى الوقوف عنده والاستغراق فيه إذ إن ذلك سيكون له أثر عظيم أولا في سائر الأركان، إذ إن ارتقاء المسلم في فهم العبودية بإشراق نور (لا إله إلا الله) على قلبه، واستغراقه في صلته برسول الله من خلال إدراك (محمد رسول الله) سوف يجعله يدخل إلى ميدان العبادة بقلب حاضر مع الله حضورًا يجعله يخرج من كل عبادة وقد حصل آثارًا من آثار التزكية المطلوبة والمرجوة من هذه العبادة.
فكم من رمضان مر علينا دون الخروج بثمار التقوى؟ وكم من صلاة صليناها ولم تنهنا عن الفحشاء والمنكر؟
الأمر أننا لم نقم هذه الأعمال على أساس قوي.. لم تصدر هذه الأعمال من قلوب امتلأت بنور لا إله إلا الله.
لا بد من التربية الروحية التي تزكي النفس وتنقيها وتذيقها لذة العبودية لله سبحانه وتعالى وتخلصها من عوائقها وعلائقها وتطلقها من الأسر للعادات والأهواء لتعرج في ملكوت العبودية للواحد الأحد.
ولا بد للتربية من مربي، وهذه مهمتهم، وهي الدلالة على الله من أقصر الطرق، الطريق المستقيم.. فهم أصحاب البصائر الذين يدعون إلى الله على بصيرة، أي على نور.. نعم، نور في قلوبهم يسيرون على هداه، يعرفون من أين الطريق..
وكم هو عظيم أن تجد من يدلك على الطريق الصحيح ويدخل بك إلى مرادك.. من يعينك على الفهم ويخرجك بنور الله من ظلمة الوهم.. هذا الوهم الذي يعيش فيه أكثر من حولك.