إن القرب من الله يحتاج إلى سريرة نقية زكية، أخلصت لله أعمالها، فليس العبرة بمن سبق ولكن العبرة بمن صدق..
فصدق هذه القلوب في إقبالها على مولاها وحبها له مثقل الأعمال في الميزان وإن قلت.. فأهل الله يأخذون بيدك إليه، فتثقل أعمالك القليلة في الميزان لديه.. وغيرهم لا يعرف من الأمر إلا الكم، فيدلك على كثرة العمل دون أن يعرف كيف يوصلك إلى تنقية هذا العمل من الشوائب ليكون عملا خالصًا.. ولذا دائمًا ما أكرر في كلامي وأقول بأننا في حاجة إلى أهل الدلالة على الله، الذين ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا لذة العبودية للملك الديان.
نحتاج أن نعرف كيف نخلص عبادتنا لله، فيخلصنا سبحانه من العبودية لمن سواه، لنكون من عباد الله المخلَصين (بفتح اللام)، ومخلَص (بفتح اللام) اسم مفعول، أي أن الله خلصه واستخلصه لذاته ليكون عبدًا ربانيًّا متحررًا من أسر العبودية والميل والرغبة والطمع والرجاء إلا لله وفي الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
هؤلاء العباد والوا الله فوالاهم الله وقال تعالى: (اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوَا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ منَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة البقرة: 257]
وما الفرق بين الظلمة والنور إلا الرؤية، فالذي يسير في الظلمة فهو كالأعمى يتخبط ويسير على غير هدى، وأما الذي يسير في النور فإنه يرى الطريق واضحًا جليًّا يسير في طمأنينة ويمشي على هدى ويتحرك بنور البصيرة، بل ويدعو غيره إلى الله على نور هذه البصيرة، قال تعالى: (قُلْ هَـَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة يوسف: 108].
وهذه البصيرة التي هي نور في القلب يسير على هداه السائر، فمن لم يعط البصيرة احتاج لقائد تمامًا مثل الأعمى الذي يحتاج إلى من يأخذ بيده للسير في الطريق.
ونرى الآن كيف أن الناس في عبادتهم قد تم توجيههم إلى كم العبادة دون أن يوجهوا إلى معنى العبودية، ولم يفهم هؤلاء أن البحث عن الإخلاص وتنقية السرائر من الأمور الضرورية في أمر السير إلى الله سبحانه وتعالى..
نعم، إن الاجتهاد في العبادة أمر عظيم، والقيام بوظائف اليوم والليلة من صفات المؤمنين، ولكن إذا رأينا من يفعل هذا ويواظب عليه دون أن يظهر عليه أثر ذلك من تبديل العادات وتحسين المعاملات، فلا بد أن نفهم أن هناك خللا في الفهم وفي التوجه، إذ إن من أهم الآثارالمرجوة لهذه العبادات، هي أنها سبيل إلى التزكية وطريق إلى التقوى.
وأود هنا أن أشير إلى حقيقة عايشتها، وواقع عاينته أن هذه التنقية وتلك التزكية تحصل بصحبة الصالحين الصادقين أهل البصائر وحسن اتباعهم والقيام بخدمتهم. وأقول هنا نتائج تجربة بل تجارب عشتها بنفسي ورأيتها في غيري، ولا يعنيني حقًّا من يعترض أو يتهم أو يخوض مع الخائضين.
نعم، لمست في صحبة أهل الله كيف أن الإنسان يمكن أن يعيد صياغة نفسه، وكيف تبدل صفاته، بعضها بوعي منه ومجاهدة، وبعضها ببركة مجالستهم ونور أنظارهم.
عايشت حقائق لمستها في نفسي، في كيفية التغيير، وكيف أنك تأتي إلى مجالسة الصالح والولي العارف فتقوم من مجلسه بحال غير الحال الذي جئت به.
إنهم يقطعون بك المسافات، ويحذرونك من العثرات، ويبصرونك بما يقطع عليك الطريق من الرعونات والآفات. رأيت كيف تسير وأنوارهم تحيطك وتدلك على الطريق.. إن هؤلاء هم حاملوا المسك الذي أرشدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى آثار مجالستهم، فهم الجليس الصالح، الذي لا تخرج من مجالسته إلا بخير.
نعم، هم بشر ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، فيجعل صورتهم البشرية هذه وعاءً لروح نورانية صبغها الله بصبغته،
قال تعالى: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) [سورة البقرة: 138] هذه الصبغة التي صارت في حقيقتهم لا تفترق عنهم ولا تنفصل منهم، إذا نظروا بها، وإذا سمعوا بها ألم يقل الحق في حديثه القدسي عن أوليائه وهو يحذر من معاداتهم: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث.
أتعجب من أقوام يدعون العلم، ولا يفهمون هذا الكلام واضح الدلالة، وكيف لا يرون أن هؤلاء الأولياء لهم بصائر نورانية يرون بها ما لا يرى غيرهم، ويسمعون بها ما لا يسمع غيرهم.
ولله در القائل :
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا ترى للناظرين
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمين
ومنذ عايشت هذا النور ولمسته، ورأيت بركات صحبة الصالحين، وآثار مجالسة الأولياء أحياءً ومقبورين بما لم يدع عندي أدنى شك في خصوصية هؤلاء العباد، ولم يجعل عندي ريب في أثر هذه الصحبة وبركة هذه المجالسة، أقول منذ عايشت ذلك وصار عندي كالعيان. ألقيت خلف ظهري كلام المنكرين الذين لا يعرفون حق هؤلاء العارفين، ولو ادعوا العلم وسار خلفهم الملايين.
وفي ذلك يقول القائل:
والعازلون تفننوا في لومهم جهلا بوجد ما لي عنه براحا
لكنهم لو ذاقوا طعمًا للهوى خلعوا العذار وولولوا نواحا
لما شهدت النور منكم لائحًا والمسك من أفواهكم قد فاحا
أمسكت سمعًا عن كلام عوازلي وغدوت فيكم هائمًا سواحا
فأين هؤلاء الذين يتشدقون بالكلام ويكثرون القيل والقال من هؤلاء الرجال الراسخين في العلم الذين قل كلامهم، وكثر عملهم، وظهر فضلهم.
أين أهل الصراخ على المنابر من هؤلاء الذين إذا نظرت في وجوههم رأيت آثار خشية الله ظاهرة عليهم، خشية يقشعر لها بدنك ويخشع لها قلبك.. أين هؤلاء المدعون من هؤلاء الذين إذا سمعت نطقهم نبض قلبك بحب الله وحب رسوله من آثار ما ترى عليهم من الشوق إلى الله والحنين إلى حبيبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ذهب بعض إخواني الذين التقيت بهم في عام 1994، وتحدثت معهم عن حب الصالحين ومودة آل بيت رسول الله إلى الشيخ الشعراوي رحمه الله، وكانوا على صلة طيبة به، ذهبوا ليسألوه عن كلامي لهم فقد اختلط عليهم من أثر ما يسمعون من كلام الوهابية وأذنابهم فأجابهم الشيخ رحمه الله بجملة واحدة: (والله ما رأينا الخير إلا على أعتابهم).
رحم الله الشيخ، ورحم الله شيخ الإسلام د. عبد الحليم محمود الذي صنف في سير الأولياء ما يعرف به قدرهم، ونقول كما قال الشيخ رحمه الله: (والله ما رأينا الخير إلا على أعتابهم).