ما أن انتهت صلاة العصر في حرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدأت الموائد تمد بين الصفوف في انتظام وانضباط شديد استعدادًا لانتظار غروب الشمس لينتهي يوم آخر من أيام هذا الشهر الذي يمر علينا كالضيف الكريم ويتفلت منا تفلتا نشعر معه نهاية كل يوم من أيام النصف الثاني منه بسرعة مغيب شمسه عنا ليتركنا ننتظر عامًا كاملا متشوقين لهذه الأيام وتلك الليالي التي نجد أنفسنا فيها أكثر إقبالا على الله، وأكثر همة في أداء الطاعات..
انتظمت الموائد ليتحول هذا الحرم المهيب المتسع إلى مائدة كبيرة تسع مئات الآلاف من الزائرين، كل يجد مكانه على مائدة من تلك الموائد.. الزوار مشغولون بقراءة القرآن والتسبيح والذكر، والقائمون على الموائد مشغولون بإعدادها بعناية وهدوء لتكون مهيأة قبل دقائق من ارتفاع الآذان الذي ما أن يعلو صوت مؤذنه بالتكبير حتى تمتد الأيدي إلى المائدة بعد أن أمضت الدقائق الأخيرة قبل مغيب الشمس وهي متوجهة إلى السماء مصاحبة لألسنة تلهج بالدعاء وتهمهم بالتضرع إلى مولاها سبحانه في تحقيق الرجاء ودفع البلاء.
يا له من مشهد، صفوف لا ترى نهايتها من كل جانب، أجناس وألوان وألسنة مختلفة قد اجتمعت وتوحدت وذابت في تلك الدقائق.. تكاد لا تسمع أحدًا يتكلم، كيف ومتى عرف كل هؤلاء الطريق إلى التوحيد؟
وأخذت أحدث نفسي، كيف لفرد واحد يجلس مختليًا في غار في جبل قد تلقى هذا الوحي، وحمل هذه المهمة فحمل هذا الهم هم البلاغ، فقال لعمه الحبيب الشفيق الذي كان يحوطه بحبه ورعايته (والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
ليس الأمر محلا للمساومة، إنها مهمة حمل همها في قلبه..أخذت أحدث نفسي وأقول هاهي دعوتك يا رسول الله قد وصلت إلى أقطار الأرض، وهاهم المحبون الذين آمنوا بك ولم يروك، وأحبوك على بعد الزمان بينك وبينهم قد جاءوا إليك على شوق ومحبة زائرين متوددين بزيارتك ومودتك إلى مولاهم.
هذه أمتك يا رسول الله، وهؤلاء أتباعك جاءوا ووقفوا بين يديك يعلمون أنك تسمع السلام وترد على من سلم عليك، فرددوا الصلاة والسلام عليك وقالوا يا رسول الله قد أنزل عليك الله في كتابه تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّابًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 64] وقد ظلمنا أنفسنا يا سيدي يا رسول الله وجئناك نستغفر من خطايانا بين يديك، ولنا أمل أن تستغفر لنا يا سيدي يا رسول الله. أخذت أحدث نفسي وأنا أرى هذه المودة بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، وأرى هذا التسابق على إكرام ضيوف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لنفسي: لو أن أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتراحم وتتعاطف فيما بينها ولو بجزء من الرحمة والعطف الذي يسري بينها في هذا الحرم المبارك لكان للأمة شأن آخر.
أهي روح رمضان؟ أهي بركة الجوار؟ هل هو سر الزمان أم المكان أم هما معًا؟ ولكن هل يعقل أنه إذا انقضى الزمان وغادرنا المكان عاد الحال إلى ما كان عليه قبل حلول الزمان والنزول بالمكان؟!!
وما أن تمر الدقائق وينتهي المسلمون من تناول ما أعد لهم من إفطار حتى يتم إزالة الموائد وما عليها من مخلفات في سرعة وهدوء وإتقان شديد.. ويتعجب الإنسان كيف يمكن أن يتم تقديم وجبة خفيفة لعدد يقرب وفي بعض الأيام قد يزيد على المليون شخص يوميًّا طوال شهر رمضان في هذه السهولة واليسر، وفي بضع دقائق يكون المكان مهيأ لإقامة صلاة المغرب..
إنه مشهد لا يمكن لك أن تراه إلا في الحرمين الشريفين حفظهما الله وأدام بقاءهما.
وقد تهيأ لي بعون الله ومدده أن أكون في ليلة السابع والعشرين من رمضان في مكة المكرمة وفي جوار البيت الحرام زاده الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا، وتهيأ لي بفضل الله أن أصلي في مكان مرتفع يشرف على الحرم من أعلى ويظهر معه للعيان مشهد الحرم والساحات الملحقة به والطرق المؤدية إليه، وقد امتلأ كل منهم على آخره بالمصلين لأداء صلاة القيام (التراويح) في هذه الليلة المباركة.
المشهد يقشعر له الأبدان، وتخشع له القلوب، وشعرت بالفخر والعز أنني من هذه الأمة وشعرت بمعنى الانتماء لأمة، فقلت لنفسي أين حكام المسلمين؟ وأين علماء المسلمين؟ أين المفكرون؟ أين الصفوة؟ كيف لكل هؤلاء أن يغفلوا عن سر قوة هذه الأمة؟ إن سر قوة هذه الأمة في قلوب أبنائها، إن مفتاح خلاص هذه الأمة من الهوان في إيمانها.. لن تنهض هذه الأمة إلا بهذا الرباط الذي يجعل هذه الجموع تسير وتتحرك وتسعى إلى هذه البقاع وهي تعلم أنها ذاهبة إلى مشقة شديدة، في حين أن غيرها من الناس يبحثون عن الراحة والرفاهية.
الكثرة وحدها لا تكفي، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أننا سنكون كثيرًا يوم أن تتداعى علينا الأمم، لتنهش في لحم هذه الأمة وتمزقها تمزيقًا.. نعم، أخبرنا المعصوم بأننا كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل... إن الكثرة وحدها لا تغني، بل إن الكثرة لم تغن عن أصحاب رسول الله شيئًا حيث أعجبتهم في يوم حنين وقالوا (لن نغلب اليوم من قلة)، فلما ركنوا بقلوبهم إلى كثرتهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. درس إيماني للصحابة وللأمة من ورائهم أن النصر من عند الله.. لم يكلفنا الله إلا ما نستطيع. قال تعالى: (وَأَعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ من قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [سورة الأنفال: 60] ولم يتركنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإمام والدليل والمرشد الأعظم، دون أن يبين لنا الداء، ويبين لنا ما هو الوهن الذي أصاب القلوب فقال صلوات ربي وسلامه عليه: (حب الدنيا وكراهية الموت).
لماذا نتجاهل هذا التوصيف من المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه وآله، ونشغل أنفسنا بقيل وقال؟
هذا هو سر الضعف، هذا هو سبب الهوان، ما جعلت هذه الأمة لتطلب دنيا.. يجب على الحكام والعلماء وعلى كل من وضع في مكان ريادة أن يعلم ويعي هذا.
إن الوعاظ والشيوخ يتكلون على علو شأن الإسلام فإذا بهم يعلقون قلوب الناس بالدنيا والسيادة على الشعوب، بل وتراهم في الدعاء يدعون بأن يجعل الله أموال ونساء المشركين غنيمة للمسلمين.. بماذا تعلقت القلوب؟ أهذا طلب دنيا أم آخرة؟
النبي في بيعة العقبة يسأله الأنصار عما يكون لهم إن هم آمنوا وأيدوا ونصروا، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الجنة).. لم يقل لهم سيفتح لكم الفرس والروم ولم يعلقهم بملك زائل، بل علق همتهم بالآخرة.
منظر مهيب تعلقت به عيناي، وخشع له قلبي، وفاضت له مقلتي، وأنا أرى هذه الجموع الغفيرة وقد توجهت إلى قبلتها والتفت حولها، تدعو ربًّا واحدًا، وتشهد لنبي واحد، وتتوجه لقبلة واحدة، وتصلي خلف إمام واحد، وأخذت أسأل: لماذا نختلف والأمر واضح ظاهر جلي لا يحتاج إلى شرح أو تفسير... إنها الأهواء، إعجاب المرء برأيه، والعصبية التي جاء الإسلام ليخلصنا منها. سني وشيعي، سلفي وصوفي، كل قد جاء إلى الرحاب، ومن منا يجرؤ على أن يقول أن هذا أو ذاك غير مقبول، وقد وقف على باب مولاه، كلنا يقف هنا صفًّا واحدًا، ولكن أخشى أن نكون مثل من قال فيهم الحق تعالى: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى محَصّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحشر: 14].
مزيج من السرور والأسى عشته وأنا أنظر إلى هذه الجموع الغفيرة ومزيج من العزة والخزي وأنا أرى هذه الأمة التي أرسلت للناس، لهدايتهم ودلالتهم على الطريق، فإذا بها تتراجع وتتخاذل عن مهمتها.
إن هذا الأمر في رقاب أئمة هذه الأمة، حكامًا وعلماءً، يجب عليهم أن يعوا هذا الأمر وأن يعلموا أنهم مسئولون عنه أمام الله يوم القيامة، فما أقام الله أحدًا في رعاية إلا وهو يسأله عن رعيته؛ فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته...).
نسأل الله أن يعيننا على ما أقامنا فيه.