في مقدمة كتابه (لواقع الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية) يقول الشيخ رحمه الله: (وإنما شيدت كل عهد منه بالأحاديث الشريفة، إعلامًا لك يا أخي بأن عهود الكتاب مأخوذة من الكتاب والسنة نصًّا واستنباطًا، لئلا يطعن طاعن فيها، وسدًّا لباب الدس من الحسدة في هذا الكتاب كما وقع لي ذلك في كتاب (البحر المورود في المواثيق والعهود) الذي جمعت فيه عهود المشايخ التي أخذوها علي، فإن بعض الحسدة لما رأى إقبال الناس على تلك العهود وعرف عجزه عن الوفاء بها مع ادعائه المشيخة، عمل حيلة واستعار من بعض المغفلين من أصحابي نسخة وأوهمه شدة الاعتقاد في جنابي، وكتب منها عدة عهود ودس فيها أمورًا مخالفة لظاهر الكتاب والسنة وأشاعها عني في مصر، فحصل بذلك فتنة عظيمة في جامع الأزهر وغيره، وانتصر لي الشيخ ناصر الدين اللقاني، والشيخ شهاب الدين الرملي وجماعة وأجابوا عني بتقدير صحة ذلك مني، وما سكنت الفتنة حتى أرسلت للعلماء نسختي التي عليها خطوطهم ففتشوها فلم يجدوا فيها شيئًا مما دسه الحسدة وأشاعوه عني، ومن تلك الواقعة ما ألفت كتابًا إلا وتعرضت فيه لما دسه الحسدة في كتبي، وتبرأت فيه من كل شيء يخالف الكتاب والسنة، طلبًا لإزالة ما في نفوس بعض الناس، لئلا يحصل لهم الإثم بذلك) انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
ولقد آثرت أن أبدأ المقال بهذه الشهادة من الشيخ الجليل الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله لما جرى له من محاولات تشويه بما دس في كتبه، وذلك إنما كتبته لعدة أسباب، أولها رد غيبة هذا الشيخ الجليل والعالم الرباني إذ إنه قد تعرض بل ويتعرض إلى الخوض فيه والأكل من لحمه من كثير من الناس الذين تستهويهم بعض الخرافات التي دست على الشيخ رحمه الله، ولا سيما في كتابه (الطبقات الكبرى) من حوادث جرت لبعض الأولياء. تلك الحوادث التي إن قرأها عاقل فلا بد أن ينكر هذا الكلام ويبرئ ساحة الشيخ من ذكره، إذ كيف يسرد عالم جليل فقيه كالشيخ الشعراني رحمه الله وقائع ارتكاب الفواحش ويعدها من مناقب ولي من أولياء الله، وهم الذين ذكروا لنا مرارًا وتكرارًا في كتبهم أن طريقهم مفيد بالكتاب والسنة، وينبهوا أن الاستقامة خير من ألف كرامة .. ومن هنا يظهر أن هؤلاء الذين يتلقفون هذا الكلام ويرددوه إنما هم من أصحاب القلوب السقيمة التي لها هوى في نشر هذا الكلام طلبًا في الطعن في التصوف وأهله، ولو كان ذلك بأكل لحوم العلماء وتمزيق أديمهم.
السبب الثاني لمحاولة رد غيبة الشيخ ونقل كلامه في هذا الأمر وهو يتبرأ من كل ما دس في كتبه مما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، هو محاولة النصح لهؤلاء الذين يرددون هذا الكلام ويشيعونه، وقد استلهمت هذه النية من العبارة الأخيرة من كلام الشيخ الشعراني رحمه الله وهي (لئلا يحصل لهم الإثم بذلك)، فهو كغيره من الصالحين قد ورث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصيبه من الرحمة بالخلق خاصة المؤمنين، فكان حرصه ألا يخوض الناس فيه ناتجًا عن رحمته به، إذ يحصل لهم الإثم بذلك، فليس الأمر فقط دفاعًا منه عن نفسه، ولكنه إخماد للفتنة بين المسلمين.
والحق أن الشيخ الشعراني رحمه الله من أكثر من تعرض كتبهم للتشويه والدس فيها بخبث شديد، فترى فيها وخاصة الكتاب المذكور أعلاه أشياء منسوبة لبعض الأولياء لا يمكن أن تصدر عنهم، وإن قلنا أنهم قد يقعون في معاصٍ فهم ليسوا بأنبياء، إلا أنهم لا يجاهرون بها، فضلا عن عدها كرامة .. وإن وقع ذلك فهل من الممكن لعالم جليل مثل هذا الإمام أن يسردها في سيرهم .. كلام لا يقبله أقل الناس عقلا.
غير أن القلوب التي عبدت هواها ولم يبق لها هذا الهوى تمييزًا بين الحق والباطل جعلهم يتلقفون هذه السفاقات وينشرونها طاعنين بذلك في الشيخ وفي الطريق وفي أهل الطريق.
وقد تعرض غيره من الصالحين والأولياء لمحاولات التجريح والتشويه وعلى رأسهم السيد أحمد البدوي صاحب المقام الشهير بمدينة طنطا، قدس الله سره ونور ضريحه، وصنف أعداؤه كتبًا في محاولات تشويه صورة هذا القطب الرباني والوارث المحمدي.
ومن أسخف ما كتب عنه أنه كان يبول على المنبر في المسجد، وأنه كان تاركًا للصلاة إلى غير ذلك من الترهات التي يرددها الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين .. والعجب كل العجب أن هؤلاء لم يروا أن هذا الطعن إنما هو طعن في جموع عريضة من الأمة المحمدية بداية من الذين عاصروا هذا السيد مرورًا بمن نقل عنهم إلى عهدنا هذا، إذ كيف اعتقد من رأى هذا الكلام في ولاية الرجل، وكيف أقر بها واعتقد فيها أكابر علماء الأمة جيلا بعد جيل؟؟!!!
ومن الواضح أن هذين الإماميين قد خصَّا بالطعن والتشويه خاصة من هؤلاء المشككين في التصوف في مصر لسبب لا يخفى علينا .. أما السيد البدوي فلما أودعه الله له من قبول ومحبة بسطها له في قلوب هذا الشعب، جعلت اسمه يتردد على ألسنة المصريين حتى في تراثهم الشعبي الفلكولوري فتغنوا وقالوا: (الله الله يا بدوي جاب اليسرى)، أو قالوا: (شيخ العرب يا سيد بركاتك لاجل نعيد)، وقد أثار هذا الحب حفيظة الحسدة، فاجتهدوا إلى تشويه صورته، ولكن الله يدافع عن الذي آمنوا.
أما الشيخ الشعراني، فلأنه المصنف الأول من المتأخرين لعلوم هذه الطائفة، كما أنه المؤرخ لسيرهم وتراجمهم، ولا شك أن الطعن فيه يفقد الناس المصداقية في كل ما كتب من العلوم، ويطعن في سير كل من صنف لهم من طبقات الأولياء والصالحين.
ومن هنا يظهر أن هذه السهام ليست موجهة للشيخ الشعراني بصفته الشخصية، ولكنها محاولة لهدم تراث كامل من العلم، والمنهج الصوفي الصحيح، ومحاولة المصداقية فيمن أرخ لهم إلى فقدان المصداقية فيهم جميعًا.
إن هذا التدبير الشيطاني للنيل من هذه الأمة يقطع آخرها عن أولها، بحيث لا يبقى لنا مرجعية عملية طبقت هذا المنهج الرباني وظهرت عليها آثاره يجعلنا كالشجرة التي تقف على الأرض بغير جذور .. ما أن تهب عليها بعض الرياح حتى تسقطها دون أن تقوى على المواجهة والصمود.
نعم، فإن الكتاب والسنة منهج، والأولياء على مر العصور هم التجسيد الحسي لهذا المنهج، فهم الذين أظهروه في صورة عملية عبادة ومعاملة وسلوكًا .. فهم الذين كما قيل إذا رءوا ذكر الله .. أم يريد هؤلاء الطاعنون أن نعتقد أن هذا المنهج ما أقامه عملا وخلقًا إلا الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، ومن بعدها نضب معين الأمة المحمدية وانقطع خيرها، فلم تفرز من هم على شاكلة أصحاب الصدر الأول في الإسلام.
لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الخير في أمته إلى يوم القيامة، وعليه فإن بقاء الأولياء في هذه الأمة أمر حتمي يبقى ببقائهم الدين محفوظًا (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظّالِمُونَ) [سورة العنكبوت: 49]، نعم في صدورهم حفظ هذا الدين، وعلى ظواهرهم برزت ترجمته العملية عبادة وعملا وخلقًا وحالا، وصلاح هذا المجتمع إنما هو في إظهار حسن سيرهم ونشر أخلاقهم وآدابهم .. بل وفي إحياء منهجهم في السلوك والتربية ليعود الناس إلى روح هذا الدين وإلى مقاصد الشريعة الغراء الذي عليه المعتمد في إصلاح النفوس واستقامة السلوك.
رحم الله علماءنا وصالحينا ونفعنا الله بهم.