الحب هو سر هذه الحياة وسبب بقائها، فبالحب الذي هو ميل قلب الإنسان إلى شيء ما وتعلقه به، بهذا الحب يتحرك الإنسان ليصل إلى هذا الشيء .. وبحبه لنفسه يعمل على حفظها وإسعادها، وبحبه لغيره يتحرك لخدمته وإدخال السرور على قلبه، وهكذا يكون الحب دافعًا لتحرك الإنسان تجاه ما أو من أحب لتحقيق مراده فيما أحبه وتعلق به قلبه.
والحب له أسبابه في قلب الإنسان، فقلب الإنسان سليم الفطرة؛ يحب ويعشق لأسباب الكمال والجمال والإحسان .. فإذا رأى معنى من معاني الكمال في شيء أو شخص أحبه لذلك، وإن لحظ صفة من صفات الجمال تعلق قلبه بهذه الصفة وبصاحبها،
وإن تعرض شخص لإحسان غيره، فإن هذا الإحسان يكون سببًا للوقوع في أسر المحسن، وهذا كما قلت إن كان من تعرض لهذا الإحسان سليم الفطرة طيب النفس.
ولله رجال ما تركوا في قلوبهم لغير محبوبهم مجال، فقد جذبهم الحق إليه، ورفع عنهم الحجاب وأدخلهم في ديوان الأحباب، وأشهدهم الجمال فأحبوه، وتجلى عليهم بالجلال فخشوه، وفاض عليهم بالإحسان فوقعوا أسرى في ميدان عبادته، وعجزوا عن شكره بما يليق به سبحانه، فتقطعت أكبادهم شوقًا وحبًّا وذلا على أعتاب جوده وفضله..
إنهم قوم جذبتهم صفات جماله، وأدهشتهم صفات كماله، وأخضعت رقابهم صفات جلاله .. قوم أبعدهم الله عن الشر وأسبابه، فلم يعرفوا غير الخير عنوانًا، هداهم الله إليه فأحبهم وأحبوه، وأكرمهم بجزيل عطائه فرضي عنهم ورضوا عنه، وأنزل عليهم بركاته ورحمته (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)، فلا يحجبهم الحق عن محبته ولا هم ينشغلون بغيره فيحجبون أنفسهم عن قربه، فلما عرفوه وأحبوه لم يرضوا بغيره حبيبًا، وما تشاغلوا كما تشاغل غيرهم بشيء فانٍ، فكيف يؤثرون الفاني على الباقي.
قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف: 28] يا لهؤلاء القوم، شغلهم ذكره عن كل شيء، وليس لهم مطلب سواه (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وفي المقابل أقوام أرخى الله على قلوبهم الحجاب، فغفلوا عن ذكره، واشتغلوا بغيره، فكان إلههم هو أهم فاتبعوه .. شغلهم ذكرهم لله ليلا ونهارًا، وعاشوا في محراب المحبة يطلبون رضاه، ويشتاقون للقاه .. بذلوا النفوس والمهج في محبته، فصار كل شيء عندهم رخيصًا إذا بذلوه في رضى محبوبهم.
وانظر كيف أن حارثة الصحابي قد عبر عن حقيقة إيمانه التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله: كيف أصبحت يا حارثة؟ فأجاب: أصبحت مؤمنًا حقًّا يا رسول الله. فما كان من النبي إلا أن أراد أن يعرف من حارثة ويتأكد أنه ما يظنه في نفسه حقيقة..
فقال له لك قول حقيقة: فما حقيقة إيمانك؟ فقال رضي الله عنه: عزفت نفسي عن الدنيا فتساوى عندي ذهبها ومدرها ... إلى آخر كلام الصحابي الجليل، فهذا هو السر، النفس عزفت عن غيره من كل ما هو فانٍ، وتعلقت بالباقي وحده فكشف لها الحجاب .. فقال له الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله (عبدٌ نَوَّرَ اللهُ قلبَه، يا حارثة عرفتَ فالزم).
طوبى لمن سهرت في الليل عيناه وبات ذا قلق في حب مولاه
وناح على تفريطه وبكى خوفًا لما قد جناه من خطاياه
وقام يرعى نجوم الليل منفردًا خوف الوعيد وعين الله ترعاه
إنهم أقوام أذاب الحب قلوبهم، وفتت الشوق أكبادهم، وأوقفهم الله على بابه، وألزمهم بجنابه، لا يعرفهم كثير من الناس، ولا يأبه بهم خلق كثير فلم يبالوا بذلك، إذ ليس مقصودهم شهرة بين الناس، فكفاهم أنهم معروفون عند رب الناس.
على رأس هؤلاء وأفضل من حاز هذا العطاء والإمداد من البشر الرسل والأنبياء، وورث ميراثهم الصالحون والأولياء.
وهؤلاء هم صفوة الله من خلقه، عرفهم من عرفهم، وجهلهم من جهلهم .. فهل يضر سيدنا نوح عليه السلام أنه ما آمن معه إلا قليل كما قال عنه رب العزة، وهو الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا؟ هو نبي ورسول ومن أولي العزم، عرف ذلك من عرف، وكفر بذلك من كفر..
وقد أخبر نبينا صلوات ربي وسلامه عليه أنه رأى الأنبياء، فرأى النبي ومعه الرهط أي الجماعة من الناس، ورأى النبي ومعه الرجل، ورأى النبي وليس معه أحد..
سبحانه من يبعث نبيًّا من أنبيائه ولا يصدق أحد من الناس مع قربه وعلو مكانته من ربه..
فالأمر أمر محبة وصدق تعلق بالحق وبأداء المهمة التي وكل بها، صدق من صدق، وكذب من كذب .. أقوام جعلهم الله أبوابًا لحضرته، عرفهم من عرفهم، وغفل عنهم من غفل.
أهل المحبة أصحاب أعلى المراتب، لهم شأن عند ربهم، ولهم مهمة بين خلقه .. معهم نعيش الأسبوع القادم بإذن الله.