عن المحبين كتبت مقال الجمعة قبل الماضية، وعن محبي المحبين كتبت الجمعة الماضية محاولا توضيح ضرورة التعلق بالمحبين المحبوبين من رب العالمين، إذ إن في محبتهم الخير كله، وفي صحبتهم القرب من الله، وفي خدمتهم والتواضع بين أيديهم عين الرفعة والعز عند الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن الحق جعل أول علامات الذين يحبهم ويحبونه أنهم أذلة على المؤمنين قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة المائدة: 54].
وفي هذا المقال أعرج على حال هؤلاء المحبين العارفين وكيف أن لهم الهمة العالية في الأخذ بأيدي من أحبهم وصحبهم حتى يدلونهم على كمال التوحيد وإلى نور المعرفة بالله سبحانه.. وفي إظهار هذا الحال لهؤلاء العارفين نتخذ من أحوال وأقوال شيخ الطريق وإمام أهل التحقيق، قدوة السالكين وبرهان الملة والدين سيدي إبراهيم الدسوقي، قطب زمانه وفريد عصره وأوانه رضي الله عنه وقدس سره ونور ضريحه.
وقد يقول قائل: ما هذا الذي تكتب؟ وما أهميته؟ أقول: إنها محاولة يحدوها الأمل ولا أقول يائسة، فقلب المؤمن لا يعرف اليأس، أن أستخلص نفسي ومعي بعض من يصغي قلبه إلى نداء روحه، من هذه الحياة المادية التي طغت واستولت على قلوب الناس. الأمر الثاني الذي يدفعني للكتابة في هذا الأمر، هو محاولة بيان منهج هؤلاء الرجال العارفين والأولياء الصالحين الذين إما جهلهم الناس وغفلوا عنهم في خضم هذه الحياة، أو أنهم قد شوهت صورتهم بقصد أو بغير قصد، فرأيت أنه من واجبي أن أحاول بيان شيء من هذا المنهج القويم الذي أحاط به ما أحاط من غموض أو تشويه.
وسيدي إبراهيم الدسوقي هو بلا شك من أئمة هذا الطريق الذين شهد لهم أهل العلم والإنصاف من هنا وهناك، وعرف فضله
وشرفه القاصي والداني، وقد تمكن رضي الله عنه من مقامات أهل الطريق، وظهرت له البشارات بولايته وهو صبي صغير، إلا أنني في هذا المقام لن أقوم بترجمه للشيخ رحمه الله إذ ليس هذا هو المقصود، ولكن سنأخذ من كلامه ووصاياه لأبنائه ومريديه علامات نحاول بها رسم الطريق الذي يرشد هؤلاء العارفون أتباعهم إليه؛ لنرى أولا أين هذا الطريق ممن يدعون سلوكهم إياه وينسبون أنفسهم إليه؟ وليعرف ثانيًا كل من ينكر بغير علم أن هؤلاء هم السادة القادة الذين جعل الله لهم حقيقة مهمة الدلالة عليه..
وثالثًا كما قلت: أحاول أن أستنهض همتي لأستخلص نفسي من سطوة المادة وطغيان هذه الحياة التي نعيشها في زمننا هذا.
ولما كانت التوبة أول منازل السلوك فلنقف مع وصية الأستاذ رحمه الله لأحد المحبين الذي جاء طالبًا سلوك الطريق تائبًا على يد الشيخ، إذ جاءه يطلب السلوك على يديه، فنظر إليه الأستاذ قائلا (يا ولدي التلبيس في هذه الأمور ما هو جيد: لا يصلح للبس الخرقة إلا من درسته الأيام، وقطعته الطريق بجهدها، وأخلص معاملته وقرأ معاني رموز الطريق، ونظر في أخبار أهلها، وعرف مقاصدهم في حركاتهم وسكناتهم وأسفارهم وأخلاقهم، فإن كنت يا ولدي تعقد التوبة في هذا الوقت فلا تكن مجونيًّا ولا لعابًا ولا صبي العقل، فما الأمر بقول العبد تبت إلى الله باللفظ دون القلب، ولا بكتابة الورق والدرج، وإنما التوبة أن يتوب العبد عن أن يلحظ الكون بعيني قلبه أو يراعي غير مولاه، فإن صح للفقير هذا الأمر هناك ترجى له صحة التوبة).
إن المدقق في هذا الكلام يفهم ويلحظ همة هؤلاء الرجال كما ذكرت في الأخذ بأيدي إخوانهم إلى أعلى المراتب، فما التوبة عندهم فقط توبة ظاهرية باللسان، أو ترك للمعاصي بالأركان، ولكنها طهارة ظاهر وباطن، هي توبة القلب عن الانشغال بغير الحق.
وهذا المعنى الدقيق الرقيق من معاني التوبة يرجع بنا إلى مقام المحبة، إذ ينبعث من قلب المحب الصادق رغبة في ألا يرى محبوبه في قلبه انشغالا بسواه، وهكذا كل حال من أحوالهم مبعثه صدق المحبة.
ومما ينسب إليه رضي الله عنه :
نظرت فلم أنظر سواك أحبه ولولاك ما طاب الهوى للذي يهوى
ولما حلا الذكر في خلوة الرضا وغبت فقال الناس ضلت بك الأهوا
لعمرك ما ضل المحب وما غوى ولكنهم لما عمموا أخطئوا الفتوى
ولو شهدوا معنى جمالك مثلما شهدت بعين القلب ما أخطئوا الدعوى
فما في الهوى شكوى ولو مزق الحشا وعار على العشاق في حبك الشكوى
وهذه التوبة هي أول طريق القوم، إذ لا سير ولا سلوك لمن لم تصح توبته. وبعد التوبة الصادقة يكون الاجتهاد والجد في السير، ونظهر هذا كذلك لإيضاح أن هذا الطريق ليس طريق تفريط في العبادات والتكاليف الشرعية كما قد يدعي بعض أهل الضلال من نسب نفسه إلى أهل الطريق، أو كما يحلو أن يروج أعداء التصوف فيجدون في كلام الأدعياء أو الكلام المدسوس على الأولياء مسوغًا لهم في ذلك.
وفي هذا يقول الأستاذ رحمه الله: (لله عباد إذا جن عليهم الليل باتوا قائمين، فإذا هب عليهم نسيم السحر مالوا مستغفرين، فلما رجعوا عند الفجر بالأجر نادى منادي الهجر يا خيبة النائمين).
ويقول : (صف أقدامك في حندس الليل، ولا تكن ممن يشتغل بالبطالة ويزعم أنه من أهل الطريق، فإن من استهزأ بالطريق استهزأ به). ويقول رضي الله عنه: (من أحب أن يكون من أولادي حقًّا، فليقم قيامًا دائمًا، وليجاهد نفسه جهادًا ملازمًا، ولا يمل ولا يولي ولا يرخص لنفسه في ترك الاشتغال بالعبادة بحجة خوف الملل، فإن الناقد بصير، والنفس من شأنها التلبيس على صاحبها).
ومما نراه من قول الشيخ أنه يحمل نفسه وأبناءه على العبادة والاشتغال بها، والاجتهاد فيها اجتهادًا لا تفتر همة صاحبه، وذلك مع تجديد التوبة وتصحيحها في كل وقت.. فمن أين جاء الأدعياء بإسقاط التكاليف أو ترك العبادة أو استحلال المخالفة؟
وهذا الذي رأيناه في قول السيد إبراهيم الدسوقي من ضرورة التوبة والاجتهاد في العبادات هو ما رأيناه في أقوال وأحوال غيره من أئمة الطريق، ولم نسمع أو نقرأ من الأقوال الصادقة المنسوبة إليهم، إلا وهي تدعو إلى الاستقامة بتجديد التوبة وصحة العمل.
والتوبة والعمل هنا كما ذكرنا ليست أعمال حس فقط، ولكنها أعمال حس وقلب، ظاهر وباطن، إذ إن قطع المسافات في السير إلى ملك الملوك لا يكون بالأعمال الحسية المجردة عن توهج القلب بنور الإيمان والشوق إليه سبحانه وتعالى.
فهناك أعمال يحصل بها العبد على الحسنات، وأعمال يقطع بها المسافات، وهذه الأعمال لا بد لها من شروط قلبية ومجاهدات نفسية ترفع عن صاحبها الحجب الظلمانية حجابًا وراء حجاب ليزداد قربًا كلما سار.
ولدقة هذا الأمر يحتاج السائر فيه إلى مرشد أو الشيخ المربي، وهكذا دأب القوم في السير إلى الله باتخاذ المرشد المعين لهم على السير، الموجه لهم في الطريق، البصير بعيوب النفس ودقائقها ورقائقها..
ومع سائر معالم الطريق من قول السيد إبراهيم الدسوقي نعيش في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى..