كنت أود أن أكمل الحوار الروحي الذي بدأته في مقالات سابقة، إلا أن ما نقابله في أيامنا يحتم علينا أحيانًا إحياء حوار آخر بداخلنا، فأرجأت تكملة هذا الحوار الروحي لأخرج ما بداخلي من أثر ما رأيت في مقابلة أحد شبابنا.
فقد قابلني أحد الآباء وهو طبيب أطفال معروف وناجح وذو مكانة علمية ومهنية واجتماعية، وشكى لي من حال ابنه خريج الجامعة الأمريكية، وقد كانت شكوى من أب ملتزم متدين مستقيم، إلا أنه يشتكي من تدين ولده!! ومما قاله في لقائنا السريع أمام المسجد النبوي الشريف فهمت ما يشتكي منه هذا الأب، إنه يشتكي مما نشتكي منه في تعاملنا مع كثير من الشباب الذين تلقوا فكرًا دينيًّا سطحيًّا دون وعي ودون علم.. تعلموا الدين من أناس تصدوا للدعوة دون علم، وجلسوا في مجلس العلماء وهم أبعد ما يكونون عنهم.. وقع هؤلاء الشباب بما لديهم من حب للدين ورغبة في إرضاء رب العالمين تحت تأثير فكر ضحل، ورغم ضحالته إلا أنه يلقى في نفوس هذا الشباب قبولا سريعًا إذ يخاطب فيهم غيرتهم على دينهم، ويسوق لهم الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله فلا يجد هؤلاء الشباب إلا الاستسلام والانقياد لله ورسوله، إذ ليس لديهم من العلم ما يميزون به بين العلم والجهل.. أو ما يعرفون به العلماء بما لديهم من أدوات، وبين أقوام ادعوا علماء دون وجه حق، وتطفلوا على موائد العلماء فضلوا وأضلوا.
ومن أول وهلة عند مجالستي لهذا الشاب، وعندما بدأ الوالد في إظهار أوجه الخلاف في وجهات النظر بينهما، ظهر أن أول ما يصاب به هؤلاء الشباب هو فقدانهم القدرة على ترتيب الأولويات، إذ لا يفرقون بين المجمع عليه والمختلف فيه، ولا يدركون المقاصد الكلية للشرع الشريف، وإلا فكيف يمكن لشاب متخرج بشهادة من أرقى الشهادات أن يجعل مجرد تهذيب لحيته عائقًا بينه وبين وظائف في شركات مرموقة يتمنى أي شاب أن يجد فيها مكانًا.
إن خطاب كثيرٍ من الوعاظ وخاصة أصحاب هذه المدرسة السطحية لا يشعرون بأولويات الشرع وبأحوال الناس.
فنحن في الريف مثلا، وكثير من شيوخ هذا الفكر العقيم من بلدان ريفية، نحن نعاني من مشكلات كبيرة، مثل سوء معاملة الزوجات، اعتداء المزارعين على الحدود سواء في ذلك الحدود مع الجار، أو الاعتداء على الطريق بإضافة أجزاء من الطريق إلى الأرض الزراعية، نعاني معاناة شديدة من ظلم البنات في أمر الميراث؛ إذ لا تمكن الأنثى من ميراثها من أبيها بحجة أن زوجها رجل غريب، ولا يصح أن يزرع الأرض، وغيرها من المشكلات التي تخالف شرع الله في الحقوق والحدود، إلا أن اللحية والنقاب وهما من الأمور الخلافية بين الفقهاء لهما الأولوية في الخطاب الديني عند هؤلاء الشيوخ الأفاضل. حدود تنتهك وحقوق تضيع، إلا أن صلاح الأمة يرونه في إطلاق اللحية، وستر وجوه النساء. الأمر إذن يحتاج إلى إعادة صياغة لعقل المسلم، وإعادة ترتيب الأولويات في وجدان المسلمين بناءً على مقاصد الشرع الشريف.
إن جلوسي مع هذا الشاب، وأنا أعلم قبل هذه الجلسة ما يتعرض له شبابنا من إفساد فكري تحت مسمى الالتزام الديني، أقول أن هذه الجلسة أشعرتني بأننا حقيقة في مشكلة تحتاج إلى عشرات السنين لحلها إن بدأنا اليوم في حلها بأسلوب صحيح وجاد.
وأهمية هذا الأمر ليس في تمسك هذا الشاب بلحيته أو غير ذلك من ظاهر الأفعال التي يكون فيها من التعنت ما فيها، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى وجود خلل يصيب تفكير هؤلاء الشباب نتيجة سطحية الفكر الذي يتلقونه مما يترتب عليه إفساد المنطق عندهم، بخلاف من يجلس إلى علماء فقهاء يتلقى العلم بإسناده بأسلوب يعيد ترتيب العقل وتدريبه على استنباط النتائج من المقدمات بأسلوب سليم دقيق. كما تكمن خطورة هذا الفكر في إحداث انقسام في المجتمع بحيث أصبح هناك تصنيف لأفراده على أساس التزامهم ببعض الفروع فأصبح في نفوس وفي بعض الأحيان على ألسنة هؤلاء تقسيم تحت مسمى الالتزام، وبالتالي يكون هذا الملتزم أو تلك الملتزمة من الإخوة، فإذا كانوا من الإخوة، فمن نحن؟
فالأخوة التي جعلها الله بين المؤمنين في كتابه بقوله سبحانه: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ) [سورة الحجرات:10] قد أصبح لها شروط أخرى بالالتزام بفكر بعينه، والملاحظ لأحوال مجتمعنا يمكن له أن يرى هذا الانقسام من الوهلة الأولى.
خلل آخر في الفكر عند بعض هؤلاء الملتزمين كما يحلو لهم تسمية أنفسهم، وهذا اللفظ بمفهوم المخالفة يجعل بقية الناس من المتفلتين أو المنحلين، هذا الخلل يكمن في عدم تفرقة هؤلاء في كثير من الأحيان بين الفروع والأصول في أمر الدين، أي مسائل الفقه ومسائل العقائد مما يترتب عليه إيقاع الحكم بالكفر على المسلمين في مسائل الفروع، وهم كذلك يفتقدون الدراية بالخلاف في مسائل الفروع، فيقعون في تفسيق المسلمين في مسائل خلافية، فإن كان حالق اللحية فاسق مثلا، فما حكم السادة العلماء الذين يرون أن حلق اللحية مكروه؟ وإن كان القنوت أي الدعاء بعد الاعتدال في صلاة الفجر بدعة وفاعله مبتدع، فما حكم السادة الشافعية الذين يرون أنه مندوب؟ وهل الإمام الشافعي والأئمة الذين اتبعوه وخدموا مذهبه وأقروا بسنية هذا الدعاء كلهم من المبتدعة؟
وفي أثناء هذا الاضطراب الفكري الذي أصاب قطاعًا كبيرًا من مجتمعنا وأحدث فوضى غير خلاقة، وجعل الناس يتخبطون في أمر دينهم، نجد أن هناك من يصر على إعمال معاول الهدم في جدار الأزهر والمؤسسة الدينية بأسرها، والتشكيك في علمائها وعلى رأسهم فضيلة مفتي مصر.
أم يرى هؤلاء أن الضعف الذي أصاب المؤسسة الدينية في بعض أوقاتها، وأن غياب أو تغييب علماء الأزهر عن الساحة هو الذي أحدث فراغًا عند شعب شغوف بأمر دينه مما جعل الفرصة مواتية للجماعات المختلفة لتملأ هذا الفراغ وتدخل بفكرها وأغراضها الدينية أو السياسية لتعيد صياغة فكر قطاع من هذا الشعب.
إن هذا الفراغ بالإضافة إلى ثورة الاتصالات الهائلة هو الذي جعل قناة من قناة الالتباس –عفوًا أقصد الناس- تخترق البيوت وتصل إلى الناس في عقر دارهم، فتحلل وتحرم وتعيد الناس إلى دين الله وتقودهم إلى الجنة.
والحق أني لا أدري كيف لا يرى هؤلاء المعادون المتربصون بالمؤسسة الدينية أن تشكيك الناس في المرجعية الأولى لهم في أمر دينهم هو من أخطر ما يمكن على هذا المجتمع، أم أن الأمر هو تربص بالدين ككل، ورغبة في التفلت من سلطانه على قلوب الناس .. أم أنه غيبة الوعي ورغبة في إحداث (فرقعات إعلامية) كما يقولون ينقاد وراءها الناس كعادتنا في تلقف الإشاعات وتناقلها دون تثبت أو تحقق.
إن هذه الفوضى لا بد لها من وقفة ومواجهة جادة إن أردنا إعادة إحياء قيمة العقل والفكر والحوار الجاد الهادف لتصحيح مسار هذا البلد.