نسخة تجريبيـــــــة
منهج المحبين في السير إلى رب العالمين - 2

إلى منهاج المحبين نرجع، بعد أن حاولنا أن نفهم معنى مهمة الإنسان في الأرض وأن ندرك معنى التوازن بين وظائفه الثلاث من عبادة وعمارة وتزكية.. إذ إن الكمال في أداء هذه الوظائف دون أن تشغلك إحداهما عن الأخرى.
وقد أردت الإشارة إلى هذه الوظائف كما مر في المقال السابق حتى نصحح في أذهاننا صورة هؤلاء المحبين وتصورنا لهذا المنهج، فكمال المحبة أن تقوم بالمهمة على وجهها الأكمل مع أداء كل وظيفة من الوظائف الثلاث على قدر الاستطاعة دون أن تغفل عن واحدة على حساب الأخرى.
ولذا نرى السيد إبراهيم الدسوقي الذي اخترت وأنا أكتب عن منهج المحبين في السير إلى رب العالمين أن أجعل كلامه مرشدًا لنا نتتبع به المنهج ونتلمس معالمه، نجده رضي الله عنه عندما أرسل إليه الحاكم يسترضيه بعد ما تبين له صلاحه وولايته وأظهر الله له كرامته وقد كانت الوشاية من حاشية السوء وبطانة النفاق التي تحيط بالحاكم في كل زمان قد أوقعت العداوة في قلبه تجاه الشيخ الدسوقي رضي الله عنه، نجد أن الشيخ لم يطلب شيئًا من عرض الدنيا ولكنه طلب للفقراء من حوله من المريدين قطعة أرض في جزيرة دسوق ليعملوا بها ويأكلوا من عمل أيديهم .. فالعبادة ليست بطالة ولكنها وظيفة من وظائف العبودية مع العمارة والتزكية، والكامل هو الذي يجمع بينها.
وقد تكلمنا عن التوبة والاجتهاد في العبادة كشرطين لسلوك الطريق والسير عليه، فمن لم تصح توبته وقام بالعبادة على وجهها فلا تسير له، وهذه التوبة وهذه العبادة لا بد أن يصدرا من قلب محب لله ولرسوله محبة كاملة، وهنا تقف آفات النفوس وأمراض القلوب حائلا بين السالك وبين الترقي في سلوكه، فيحتاج إلى من يأخذ بيده ليعينه ويبين له معالم الطريق، وكيفية التخلص من هذه الآفات، وكيفية مجاهدة نفسه.
يحتاج السالك الذي بدأ هجرة إلى ربه إلى الدليل العارف بالطريق ليسلك به أقرب المسالك إلى الله، فكم نرى أناسًا يجتهدون ويبذلون من أوقاتهم الكثير وهم يحومون حول الحصن ولا يدخلون إليه .. فالأمر يحتاج إلى خبير عارف يدلك على خلاصة تجارب، وهنا يقول الشيخ الدسوقي رضي الله عنه: (والله لو هاجر الناس مهاجرة صحيحة طالبين الله خالصًا، ودخلوا تحت أوامره لاستغنوا عن الأشياخ، ولكنهم جاءوا إلى الطريق بعلل وأمراض فاحتاجوا إلى حكيم).
إن كثيرًا من أفعال الإنسان تحكمها أو تخالطها الخطوط النفسية، ويتحكم فيها الهوى كليًّا أو جزئيًّا، ومن هنا نجد احتياج الإنسان إلى الخبير العارف بآفات النفس وعللها الذي يبصره ويكشف له ببصيرته عن الداء والدواء.
وقول الشيخ (مهاجرة صحيحة) أي كاملة حالا وفعلا إذ لا بد أن تكون لله ورسوله ليس للنفس فيها حظ، وقوله (طالبين الله خالصًا) أي ليس لهم مع طلب الحق مطلب من شهرة أو دنيا أو تصدر مجالس أو غير ذلك من آفات الأعمال التي تقدح في الإخلاص.
وقد يظن بعض الناس ونرى هذا في كثير من أبناء الطريق، أن العارف أو الشيخ المربي يوصل من يشاء إلى الله تعالى، وما تفشى هذا المفهوم إلا من قلة الفهم وضعف العزم. فقلة الفهم جعلت هؤلاء ينسون قول سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم (إنك لا تهدي من أحببت)، وضعف العزم جعلهم يركنون إلى أخذهم الطريق عن مشايخهم ظانين أن في هذا الأمر كفاية وأن البقية تكون على شيخ، إلا أن الحقيقة أن الشيخ مرشد يدلك على الطريق، فإن لم تسلك بعزمك وهمتك فلا يملك لك شيئًا، وهو حكيم يدلك على آفاتك ويبين لك العلاج، فإن لم تصبر على مرارة الدواء لا يحصل لك الشفاء.
وسلوك هذا الطريق يحتاج إلى عزم وحزم، ويحتاج إلى الرجال الصادقين (ولا نقصد بالرجال الذكور)، ولكن نقصد من صدق في توجهه إلى ربه، وحفظ عهده مع مولاه، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلا) [سورة الأحزاب: 23].
وتتمثل صعوبة سلوك هذا الطريق في أن الحجاب من نفس الإنسان، وأنه هو الذي يصد نفسه بنفسه، وأن حياتها الحقيقية إنما يكون بقتلها بسيف المجاهدة، فتبدأ في التخلص من الآفات والعادات، ثم تتجرد عن العوائق والعلائق لتحيا حياة سرمدية بنور المحبة لمولاها سبحانه وتعالى.
وكل هذا يحتاج من السالك أن يحدد قصده، وأن يجمع عزمه، وأن يجد في سيره ليقطع المسافات بهمته.. إلا أن الشيخ المربي له أثر آخر لا يفهمه كثير من الناس، ولا يدركه إلا من جرب وعاين، فمع كونه مرشدًا ودليلا يبين للسالك آفات النفوس وكيفية الخلاص منها، إلا أن له كذلك هذا التأثير الروحي الذي به تتأثر روح المريد فتتبدل صفاتها وترتقي أحوالها.
وهذا الأمر لا يكون إلا بالوعظ والإرشاد، وإنما يكون بالتواصل الروحي الذي يكسب روحًا صفات الروح الأخرى عن طريق التخالل .. فتعلق المريد بروح العارف أو الولي الدائمة التعلق بالله، والتي تخلصت من أسرها، وخلصت من عقالها إنما يعين روح المريد على اكتساب هذه الصفات والتلقي من هذا الفيض والإمداد المتوالي على روح هذا الولي العاكف في حضرة القرب.
ومن هنا نلخص الانتفاع بصحبة الشيخ المربي العارف بالله في أمرين، الأول التبصرة بعيوب النفس والإرشاد إلى أقرب طريق ويكون أثر هذا في حسن اتباع المريد لهذا الإرشاد ويتوقف هذا على عزمه كما قلنا.
والثاني يكون بصلة روحية تفيض عن طريقها صفات الشيخ المربي وتسري في المريد فيكتسب ما في شيخه من صفات ويتوقف هذا على المحبة والاتصال الروحي بين المريد وشيخه، فكلما زادت محبته وتعلقه زاد فيض روح الولي عليه واكتسابه من صفاتها.
ومن منهجهم في السير إلى الله التعفف عن أموال الناس، وهذا الذي حذر منه الشيخ فيما سنسرده من كلامه، هو من أعظم الآفات التي ابتلي بها طريق القوم، من أناس أفسدوا وأساءوا إلى الطريق إذ جعلوا مهنة يتكسبون منها ويجمعون بها أموال الناس وشيخ الطريق الدسوقي يقول: (بالله عليكم يا أولادي اسمعوا مني ما ينفعكم، فإني بايعت الله على أني لا أطلب أموالكم ولا آخذ تراثكم، ولا أدنس حرمتي بما في أيديكم، فاسمعوا وأطيعوا، وعلى أموالكم الأمان مني ومن جماعتي الذين أخلصوا معي، وأسأل الله أن يلحق بقية أولادي بمن أخلص معي ويجعلهم مثلهم فيشفقون على إخوانهم مع تجنب أموالهم).
كلام الشيخ واضح جلي لا يحتاج إلى بيان، آفة تفشت أن يتشوف من قام على أمر الطريق إلى ما في أيدي الناس فيلتمس أموالهم ويأكل مما في أيديهم .. صحيح أن الأخوة في الله والمحبة تقتضي المواساة بالمال والتباذل في الله ففي الحديث القدسي (وجبت محبتي للمتباذلين في)، ولكن هناك خط يفصل بين التباذل والعطاء المتبادل في محبة الله، وبين ابتزاز الناس باسم الدين واستغلال محبتهم لالتماس ما في أيديهم والفرق شاسع، إلا أن النفس تلبس على صاحبها وتزين له عمله، نسأل الله السلامة من هذه العلل فهي قواطع عن منهج السلوك والوصول إلى ملك الملوك.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 52 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث