وكأنى به صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخرج من بيته الشريف بعد أن تطايرت الأنباء في أرجاء شبه الجزيرة العربية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم على حج بيت الله الحرام، وما أن وصل الخبر هنا وهناك حتى اهتزت أرجاء شبه الجزيرة بآلاف من المسلمين تستعد وتتحرك لتلحق بخير خلق الله وتشرف بالحج مع خير من صلى وصام وأفضل من طاف بالبيت الحرام.
يخرج من بيته على رحل متواضع وعلى ناقته قطيفة لا تساوي أربعة دراهم وهو يقول: اللهم حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة، إخلاص النية، إخلاص التوجه، إخلاص القصد، معانٍ يعلمها لنا المعلم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتحرك ركب رسول الله وينـزل بميقات أهل المدينة بذي الحليفة، فيبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرم من الميقات ويسوق الهدي ويخرج من الميقات قاصدًا مكة.
يا له من مشهد، المسلمون يخرجون مع رسول الله مُحرمين مُلبِّين متشرفين بخير معية، والقبائل تنتظر بالطريق فتلحق بركبه صلى الله عليه وآله وسلم، مشهد النور تحفه ملائكة الرحمن، النبي في طريقه لأداء حجة يعلم فيها الأمة، ويؤدي الركن الخامس ليكمل بذلك الدين وتتم النعمة. ويصل رسول الله إلى مكة ويدخل إلى المسجد الحرام، ويستلم الحجر ويقبله ويضع جبهته الشريفة عليه، ويبكي ويبكي عمر بن الخطاب ويبكي الناس فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عمر هاهنا تُسكب العبرات)، صدقت يا حبيبي يا رسول الله، هاهنا تُسكب العبرات وتسيل من المؤمن دموع الندم، ويعتصر الفؤاد، وهو يسأل الله المغفرة والتوبة والقبول.
ويطوف النبي بالبيت وأنظار المسلمين متعلقة بحضرته، تجول بين النظر إلى البيت وهو عبادة كما ورد عن النبى، فإن كان النظر إلى البيت والحجارة قد صار عبادة بتشريف الله له وتعظيمه إياه، فما بالنا بالنظر إلى أشرف مولود وخير موجود في هذه الدنيا، ويُتِم النبي طوافه، ويصلي ركعتين خلف المقام، مقام إبراهيم، والآيات البينات التي قال عنها الحق: (إِنَّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 96].
أُمر النبي أن يتخذ المقام مصلى فقال له ربه: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتِّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [سورة البقرة: 125].
يُلبي النبي أمر ربه فيصلي ويصلي الناس..
ويتوجه الحبيب إلى زمزم، فيشرب ويدعو، هذا الماء المبارك، خير ماء على وجه الأرض، فيه مأرب للناس فقد قال الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه (زمزم لما شرب له)، فيشرب ويشرب المسلمون وهم يتابعون الأسوة الحسنة، والقدوة العظمى، والمعلم الأكبر، حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتوجه المشرف صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصفا، فيقول أبدأ بما بدأ الله به: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 158]
ويسعى رسول الله بين الصفا والمروة، ويحيي سنة السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل، فيصير فعلها لنا عبادة، نقتفي آثارها ونحيي تراثها، ونحيي في نفوسنا معاني الثقة بالله والتفويض والتوكل على الله التي ضربت هاجر عليها السلام المعنى الأكمل فيها وهي تقول لزوجها الحبيب سيدنا إبراهيم الخليل: (إذن لا يضيعنا).
ونحيي في قلوبنا معاني التسليم والرضا بقضاء رب العالمين، التي كان الخليل عليه السلام مظهرا لها وهو يترك زوجته وولده الرضيع بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم.
تراث الصالحين وآثارهم التى جعلها الله لنا منسكًا وعلمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول للناس: (خذوا عني مناسككم).
ويتم النبي سعيه ويتوجه إلى منى فيبيت فيها ويصبح فيصلي بها الصبح ويتحرك مع شوق الشمس خير الأيام وأفضلها عند الله يوم عرفة، وما زالت الأنظار في كل لحظة تتابع رسول الله لتمتلئ الأنظار من نور النظر إليه، وتملأ القلوب بشدة التعلق بحضرته ومزيد محبته.
ويسير الركب المبارك حتى يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ضربت له قبة بنمرة، فخطب الناس خطبة بليغة، وهو يخبرهم أنه لعله لا يلقاهم بعد عامهم هذا، بصيرة الحبيب تخترق الحجب فقد كانت حجة الوداع.
ويسأل النبي أصحابه سؤالًا تنخلع له القلوب، (عما قريب تلقون ربكم وهو سائلكم عني فبماذا أنتم مجيبون؟)، ويبادر أصحاب النبي قائلين نقول بلغت ونصحت، فينظر رسول الله إلى السماء قائلًا: (اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
ونحن يا رسول الله على ما عليه أصحابك، وعلى بعد الزمان بيننا وبينك نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت وجاهدت ونحن على ذلك من الشاهدين.
وهانحن يا رسول الله على اختلاف ألسنتنا وألواننا وأجناسنا نتحرى خطواتك ونلتمس بركة اتباعك، وهاهو صوتك يخترق الزمان ويصل إلى آذاننا (خذوا عني مناسككم).
وهاهم الحجيج لا يقصدون البيت لأداء المناسك دون أن يحرصوا على زيارتك وإحياء معاني مودتك، يأتون إليك يصلون ويسلمون ويشهدون أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ويتوسلون بك إلى الله أن يدخلهم في شفاعتك، ويكمل النبي خطبة عرفة، فيحذر المسلمين من حرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ويخبرهم أن هذه الحرمة كحرمة هذا اليوم يوم عرفة، في هذا الشهر شهر ذي الحجة في هذا البلد البلد الحرام.
ويصلى النبي الظهر والعصر جمع تقديم ويقف بموقف بعرفات ثم يبلغ بلاغًا ينبئ عن سعة ورحمة، (وقفتَ هنا وعرفة كلها موقف)، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. رحيم الأمة، تخشى عليها العنت، قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 128].
وأنزل الله قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [سورة المائدة: 3].
ومع غروب شمس يوم عرفة، يدفع النبي وأصحابه متوجهًا إلى مزدلفة فيصلي بها المغرب والعشاء، ويبيت بها ويصلي الصبح، ثم يتحرك إلى منى فيرمي جمرة العقبة وينحر بيده الشريفة ويحلق رأسه، ويأمر بتوزيع شعره على أصحابه فينالوا بها بركة الاحتفاظ بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يا لها من مشاعر، ويا لها من مناسك، اللهم اكتب لنا حجة وعمرة نقتفي فيها آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتم النبي حجه فيبيت أيام التشريق بمنى، ثم يتوجه إلى مكة ويطوف طواف الوداع ببيت الله الحرام، ويعود إلى المدينه، فما لبث أن مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما طال بقاء المصطفى في الدنيا بل خُيِّر، فاختار أن يلحق بالرفيق الأعلى، وقد بلغ وأتم الله به الدين.
جزاك الله عنا وعن المسلمين خير ما جازى الله نبيًّا عن أمته، وجمعنا بك على حوضك يوم القيامة.