هل صحيح أن الدين والتمسك به يعوق مسيرة التقدم؟ وهل صحيح أننا لا بد أن نتخلص من قيوده ومبادئه وهيمنته حتى ننطلق في مسيرتنا ونلحق بركب الأمم المتحضرة؟
حاولت أن أتأمل في موسم الحج حيث تجتمع جموع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها لأرى جانبًا مما عليه المسلمون من السلوك والأخلاق في شعيرة هي من أعظم الشعائر. والحق أنني كلما مَنَّ الله علي بالذهاب إلى الأراضي الحجازية كنت أتأمل في سلوكيات الشعوب المختلفة لمحاولة فهم مدى مسئولية الإسلام عن سلوكنا، إذ يتحمل هذا الدين المسئولية في هذا الزمان ويلقى عليه باللوم فيما يخص سلوك المسلمين الخاص والعام، فيقال هؤلاء هم المسلمون، ثم يقال هذا هو الإسلام.
وأخذت أنظر وأتتبع شعوب العالم المسلم، فظهر بوضوح بَيِّن هؤلاء مسلمو ماليزيا، هذه الدولة المسلمة التي تعيش في تعدد ديانات واضح بين المسلمين والمسيحيين والبوذيين، غير أنها لا تعاني من فتنة فيما بينها.
وقد كنت أجلس مع أحد مديري فنادق مكة المكرمة في زيارة في بداية العام، ولا أنسى مقولته التي دائمًا أرددها، فقد قال: (إن الحجاج والزوار من ماليزيا وإندونيسيا نسبة مشاكلهم صفر) بل قال بالحرف الواحد: (زيرو مشاكل).. ثم قص لي واقعة حدثت من ثلاث سنوات عندما قامت السلطات السعودية بتقديم موعد الوقفة يومًا وكان ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة مما فاجأ الشركات وأربك ترتيباتهم، وقال لي: إن الحجاج من إندونيسيا وصلوا إلى الفندق في التاسعة صباحًا، إلا أنهم لم يتمكنوا من استلام غرفهم إلا في التاسعة مساءً، وقد جلس الحجيج في الاستقبال وأكثرهم يفترش الأرض.. وقال لي إنهم قضوا هذه الساعات في صمت وتفهم وتقبل للوضع، فكانوا يخرجون إلى الصلاة ثم يعودون إلى أماكنهم.
وأخذت أتأمل في هذا الموسم، فأراهم يسيرون في جماعات إلى رمي الجمرات، يلبسون زيًّا موحدًا، بلون مميز، وعليه اسم الفوج.. يسيرون في طابورين أو أكثر حسب عددهم تحت قيادة واحدة في التزام شديد، يكبرون ويهللون في هدوء.
رأيتهم في الفنادق كيف يدخلون، حقائبهم موحدة، كلٌّ يعرف مسبقًا رقم حجرته، المشرفون يقومون بأعمالهم التنظيمية بدقة وانضباط شديد. وعلمت من بعض مديري الفنادق أن هؤلاء الحجيج يتلقون دورات تدريبية قبل الخروج إلى الحج، وهي دورات إجبارية لمن أراد أن يخرج إلى الحج ليتعرف على النواحي الشرعية والتنظيمية لهذه المواسم المباركة.
إذن فإن الفوضى والانفلات التنظيمي والأخلاقي لا يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالإسلام والمسلمين كما يريد البعض أن يصور لنا، فالأمر يتعلق بثقافة الشعب.
بل أقول: إن هذه الشعوب قد أفادت من الإسلام حيث فهمت روح الشريعة، وتمسكت بها وطبقتها وتعايشت معها، فخرج سلوكهم على هذا النحو من الانضباط والالتزام الشديدين.
فإن كانت عمارة الأرض هي أحد وظائف الإنسان المكلف في هذه الحياة، وأحد واجباته.. والقاعدة عند علماء المسلمين تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وعمارة الأرض واجب لا يتم إلا بالعلم، ومزيد من البحث العلمي، والعمل والإنتاج، فصارت هذه الأشياء من الواجبات.. فإذا كانت هذه الواجبات لا تتم إلا بتهيئة المناخ ورصد الميزانيات، والارتقاء بالمستوى العلمي للفرد والمجتمع، صارت هذه الأمور من الواجبات، وهكذا..
ومن هنا نستطيع أن ندرك أننا بانحدارنا وتأخرنا في العلم والعمل والإنتاج قد تركنا واجبات كان علينا أن نقوم بها لتحقيق وظيفة عمارة الأرض على النحو الذي يرضي الله عنا.
إن إسهام علماء المسلمين في تطوير وإنشاء العلوم ووضع مناهج البحث والاستقراء أمر واضح ومعلوم لا ينكره إلا جاحد أو مكابر، غير أن واقع المسلمين الآن قد أطلق العنان لمن أراد أن يشوه صورة المسلمين، ثم الإسلام، وأعطاه الحجج من الواقع لكي يسوقها مدللًا على ما يقول.
بل نجح هؤلاء أن يبيعوا هذه الأفكار إلى كثير من المسلمين الذين انبهروا بالنموذج الغربي والتقدم المدني الذي حققه، فظنوا أن الإسلام هو سبب ذلك التخلف الذي أصاب الشعوب، فانسلخوا وأرادوا أن ننسلخ من عباءة الإسلام، وجعلوا هذا ضرورة حتمية إن أردنا أن نلحق بركب الحضارة..
لقد خلط هؤلاء بين الإسلام وبين عقول بعض علماء المسلمين الذين انغلقت عقولهم واضمحلت أفكارهم، فقادوا الناس إلى دائرة الانغلاق الفكري وسطحية الفهم، فغيبوهم عن الحياة وعن العلوم الطبيعية التي هي قوام هذه الحياة، وداروا بهم في فروع الشريعة بدءًا من الأركان إلى السنن إلى الهيئات إلى هيئات الهيئات دون وعي بمرتبة كل من هذه الفروع.
فاختلت في عقولهم موازين هذه الفروع، واختلطت الأولويات في فهومهم، فجعلوا الفروع أصولًا، وجعلوا هيئات الهيئات أركانًا. كل هذا، وغيرنا من الشعوب ينطلق في مسيرته، ويعيد بناء بلاده، ثم في أثناء ذلك يستقطب من شعوبنا الإسلامية وغيرها كل عقل نابغ متميز في كافة المجالات، ويهيئ له حياة كريمة، ويطلق له العنان لتتفجر قدراته العلمية، فيزيد لبنة في هذا البناء. إن الإسلام يا سادة بريء من تخلفنا، إن الإسلام بريء من تفلتنا، إن الإسلام بريء من تكاسلنا، إن الإسلام بريء من الفوضى السياسية والأخلاقية والدينية التي نعيش فيها.
إننا نحتاج إلى مناخ صحي يبدأ الراعي أو الحاكم ومعه حكومته في تهيئته مستفيدين في ذلك بجهود علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين ليضعوا أهدافًا، ومن وراء هذه الأهداف صياغة لمنهج، ثم خطة عمل يسير عليها هذا المجتمع ليصل إلى هذه الأهداف.
إن المتأمل لصورة المجتمع في بلدنا الحبيبة أرض الكنانة يستطيع أن يرى بوضوح أن الفرد يشعر أنه في مركب يوشك على الغرق، وكل منا يحاول أن ينجو بنفسه، فهذا يتعلق بهذا، والآخر يتخلص من غيره، وقد يطؤ أحدنا الآخر بقدمه لينجو هو بنفسه. لا بد من الشعور بالأمان أولًا، أن يأمن الإنسان على نفسه وعلى رزقه حتى يستطيع أن ندفعه إلى التعاون والتكاتف مع غيره.. إن الإسلام منهج حياة أمرنا بالسير أي الحركة والعمل، وأمرنا بالنظر والتدبر، وأمرنا بالتأمل في أحوال السابقين، وأمرنا بعمارة الأرض، فهو دين عبادة وعمارة وتزكية، ولكن لا بد من تهيئة المناخ لتحقيق هذه الأهداف.
لا بد أن نعمل على إعادة الشعور بأننا في مركب واحد نحتاج أن نسيره لننجو جميعًا، نحتاج أن يشعر كل منا بأنه يظهر في الصورة، وأن يشعر الفقير أنه موجود في حياة الحاكم والوزير ورجل الأعمال، ولا يقتصر وجوده على عناوين الصحف بأنه في مقدمة الأولويات.
أيها السادة، لا تحملوا الدين مسئولية التدهور الذي نحن فيه، فهذه الأفكار الشاذة والمنغلقة ما هي إلا مهرب فر إليه هؤلاء من الضيق والقهر ليجدوا فيه ذاتهم، ثم تسربت أفكارهم من القاع إلى أعلى لتصيب طبقات كانت بعيدة كل البعد عن الدين برمته. إنهم يطالبون بدولة دينية لأنهم يلقون باللوم على الدولة المدنية في تردي أحوالهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وهم يتصورون أن الشعار الديني في ذلك يكفي ليخرج بهم مما هم فيه، هم وعوامُّهم لا يتصورون أن القهر تحت شعار الدين سيكون أشد إذ إن رافع هذا الشعار يتصور أن المتحدث باسم الدين، الحاكم بأمر الله في هذه الأرض، وأن المخالف له مخالف للدين. كيف نلوم على شعب تردى فيه مستوى التعليم إلى النحو الذي نعلمه جميعًا أنه قد انتشرت فيه أفكار سطحية في أمر الدين أو أنه استمع لهذه الفئة أو تلك..قبل أن نلوم الناس في تشددهم أو تخلفهم فلنسأل أنفسنا ماذا أعددنا لهم، وماذا أعطيناهم.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه النصح لأب من الآباء قائلًا: ( أعن ولدك على برك).. فإن كان بر الوالد هو فرض وعقوقه من الكبائر يحتاج إلى عون من الوالد لولده، أي يحتاج إلى تهيئة المناخ والعطاء الذي يحمل الولد بعد ذلك على بر أبيه. فما بالنا بغير ذلك من الواجبات. أيها السادة، تم تهميش الدين فتركنا شبابنا فريسة للأفكار الشاذة ثم تخلفنا عن ركب الحضارة فألقينا اللوم على الإسلام وهو من ذلك بريء.