نسخة تجريبيـــــــة
الإسلام و وظيفة الإنسان على الأرض

أعود إلى هذا المسلك الروحي أتحسس في ظلام هذا الزمان المادي معالم الطريق، محاولًا إضاءة شمعة من نور البصيرة أهتدي على ضوئها للعروج في عالم القرب الذي حلق فيه من قبلنا رجال ورجال من أهل المحبة وصدق التوجه، مهتدين في ذلك بآثار من سبقهم من الصالحين، ولنعود إلى هذا المسلك نتوقف اليوم مع محاولة فهم المهمة المنوطة بنا في هذه الأرض.
إن إدراك المهمة التي وكلت إلينا في هذه الأرض هو أول علامات، أو فلنقل أسباب الهداية، إذ من يغفل أو يغيب عن هذه المهمة لا بد له من أن يتوجه إلى غيرها بقلبه وقالبه، بحسه ومعناه، بروحه وجسده، فيتخبط في ظلمة هذه الحياة بعيدًا عن المنهج القويم الذي وضع له ليسير عليه ويهتدي به..
ويتفاوت الناس في فهم هذه المهمة أو إدراكها ، فمنهم من يدركها جزئيا ومنهم من يغيب عنها كليا وقليل من ينعم الله عليه فيستغرق في أداء مهمته بعد فهمها ووعيها ومعرفة الطريق لأدائها والقيام بحقها.
وتتلخص هذه المهمة والوظيفة للإنسان على الأرض في ثلاثة محاور، عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس..
وقد جاءت النصوص القرآنية تأمرنا بأداء هذه المهمة والقيام بهذه الوظائف، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [سورة: البقرة - الآية: 21] ، مبينا للناس أنهم مأمورون بالقيام بحق العبادة لله إذ هو الخالق لهذا الكون وهذه أول وظائفنا أن نعبده وحده سبحانه.
وجاء النص يبين لنا أن الله لا يحب الفساد فيقول سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [سورة: البقرة - الآية: 204]، قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [سورة: البقرة - الآية: 205].
فبمفهوم المخالفة، فإن الله يحب العمارة والبناء في هذه الأرض التي استخلفنا فيها، وليس المقصد هنا أن يعمر الإنسان أو يبني لنفسه فقط، ولكن المقصد أن يمشي الإنسان في هذه الأرض بعلمه وعمله يصلح قدر استطاعته وأن يبذل وسعه فى هذا الأمر؛ ولذا يخبرنا الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله أن الذي يزرع شجرة مثمرة فيأكل منها إنسان أو حيوان أو طير يكون له بها صدقة، ثم يخبرنا في موضع آخر أن مهمة العمارة هذه لا تتوقف إلا على الاستطاعة، فلا شأن للمسلم بما حوله من ظروف فساد وإفساد، وعليه ألا يستسلم لليأس أو الإحباط، بل عليه المضي في مهمته طالما أنه يستطيع ذلك، فيذهب بنا المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام، فيعلمنا ويرشدنا ويرفع من همتنا بأنه إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليفعل.
فلا تنظر أيها المؤمن إلى حجم الفساد أو عدد المفسدين حولك، ولكن وجه نظرك وعلق قلبك بمهمتك، إذ إنك بها تقوم بحق الله فيما أقامك، فلا تجعلن الخلق يصدونك عن أداء ما كلفك به الحق.. حتى إنه لم يلزم الأنبياء بالنتائج، بل ألزمهم بالمهمة وهي البلاغ قال تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [سورة: المائدة - الآية: 99].
ويأتي القرآن مبينا لنا الوظيفة الثالثة من وظائف الإنسان وهي وظيفة داخلية، يعمل فيها ويجتهد مع نفسه، فيجاهدها ويعيد صياغتها فيقول عز من قائل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا ﴿10﴾ سورة: الشمس .                                           تزكية النفس وتقويمها وتطهيرها، وظيفة من وظائف النبي في هذه الأمة قال تعالى: (لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا منْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة: آل عمران - الآية: 164].
والتزكية هى تطهير النفس وتخليصها من كل دني واكتسابها لكل خلق سني، وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الأمر يسير، ولكن الممارسة تبين للسالك أن الأمر حقيقة يحتاج إلى مجاهدة؛ ولذلك سميت مخالفة النفس فيما تريد، وما استقر فيها من طباع (جهاد النفس).                                               أضف إلى هذه المشقة، أي مشقة تغيير الطباع والعادات للترقي بالنفس والسمو بها، مشقة التعامل والتعايش مع مجتمع فقد كثيرًا من قيمه، وتبدلت العديد من صفاته، فأصبح المتمسك بهذه القيم، الثابت على هذه الفضائل غريبًا يسبح ضد التيار، أي تيار الفساد، والانحلال الذي أصاب أهل زمانه.. إلا أننا لا بد أن نعي كما ذكرنا في وظيفة العمارة في الأرض أنه لا بد لنا أن نقوم بها ولو كثر الفساد والمفسدون، إننا يجب علينا أن نثبت على قيم التزكية وحسن الخلق ولو كنا أغرابًا بين الناس في زمن سميت فيه الأشياء بغير أسمائها لإضافة الشرعية عليها، فالرشوة الملعونة تحولت إلى إكرامية اشتقاقًا من الكرم، وقس على ذلك.
ولما كان الإسلام هو الدين الخاتم، ولما كانت هذه الأمة أمة وسطًا، جاء هذا الدين متوازنًا بين هذه الوظائف الثلاثة، وكان الكمال في اتباع المنهج أن يعيش المسلم متوازنًا داخليًّا أى في نفسه، وخارجيًّا أى في أداء مهمته بين هذه الوظائف.. ولكي يقوم المسلم بهذه الوظائف بشكل متوازن لا إفراط فيه ولا تفريط فإن عليه أن يعرف ويتعلم أولويات كل وقت ليقوم بحقه، وهو أمر يغيب عن كثير منا، فتجده يتعبد حيث يجب أن يعمل ويقول هل نترك الآخرة من أجل الدنيا.. وآخر يعمل حيث يجب أن يقوم بنسكه ووظائف عبادته ويقول العمل عبادة.. وآخر يلين حين تطلب الشدة، ويضعف حين تراد القوة وهو يظن أنه بذلك يحسن خلقه وتتزكى نفسه.
والإحسان إنما هو وضع كل شيء في موضعه، فالكفر مطلوب في موضعه (فمن يكفر بالطاغوت) والإيمان في موضعه (ويؤمن بالله)، والصفات المتقابلة تجتمع في المؤمن، وكل يحسن في موضعه قال تعالى: (مُحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ).
صفات متقابلة وأخلاق متعددة في قلب المؤمن كل يحسن في موضعه، فإذا وضع في غير موضعه كان الخلل بعينه .. وكذلك في أمر العبادة، إذ لما خرج الناس مع رسول الله في سفر صام البعض فأجهدهم السفر، وأفطر البعض فقاموا بخدمة إخوانهم فقال النبي ذهب المفطرون اليوم بالأجر، إذ أدركوا أولويات الوقت وقاموا بوظيفته..
كما جاء في الأثر عن السيدة عائشة أن النبي كان يقوم بخدمة أهل بيته وأهله أي أزواجه، فيعينهم على أمور البيت النبوي الشريف، ويقوم سيد الخلق بأشياء قد يترفع أكثرنا عن فعلها، فإذا حضرت الصلاة كان صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول السيدة عائشة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه.. إنه يعلمنا القيام بوظائف الوقت والتوازن في أداء مهمتنا في هذه الأرض.
والكمال في سلوك المسالك الروحية هي لمن فهم هذا وأدركه وقام به على الوجه الأكمل بحيث أنه في أي من هذه الوظائف الثلاثة من عبادة وعمارة وتزكية يكون مستشعرًا العبودية والصلة بالله سبحانه وتعالى، قائمًا في مقام الإحسان الذي أخبر عنه المعصوم ووصفه بقوله : (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
و قد لا يظهر للقارئ صلة هذا الكلام بالمسلك الروحي الذي نحاول أن نلتمسه، فأقول له (أي القارئ)، إننا نحتاج إلى نور البصيرة لندرك به ما هو أولى للقيام به في كل وقت، فلا يكفي في ذلك حسن النية، ولكن نحتاج إلى هداية وإلى توفيق؛ ولذا نحتاج إلى جلاء القلوب للعروج إلى موضع أقرب تكون فيه المشاهد أوضح لنتبين معالم الطريق إليه.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 54 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث