العاشر من ذي الحجة، شاء الله أن يخلد هذا اليوم ببعض الأحداث التي جرت لأنبيائه، نعرف على سبيل التأكيد ما جاء من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل إلى المدينة وجد اليهود يصومون هذا اليوم فسألهم عن ذلك فقالوا :يوم نجا فيه موسى. فقال النبى: (نحن أولى بموسى منهم). فصامه وأوصى بصيامه، بل زاد عليهم بأن قال أنه إن عاش للعام القابل ليصومن التاسع و العاشر.
و كأن القدر أبى إلا أن يظل هذا اليوم علامة فارقة في تاريخ الأمم، فجاء يوم عاشوراء ليحفر في ذاكرة الأمة الإسلامية بأسرها أكبر فاجعة في تاريخها، يوم وقف فيه أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبقية العترة الطاهرة وقد خذلهم الناس، وتخلى عنهم القريب والغريب، وقف الفارس الهمام، الإمام ابن الإمام، سبط رسول الله، وسيد شباب أهل الجنة، وحيدًا بلا نصير، ليس معه إلا أبنائه، وأبناء الحسن، وشباب من بني جعفر وبني عقيل، وبعض أهل بيته ومواليه، وفي صحبته السيدة زينب ونساء أهل البيت.
خيار خلق الله بعد رسول الله يقفون يواجهون قدر الله فيهم في صورة تعكس لنا من الدروس والعبر ما يعجز اللسان عن وصفه.
قوى الباطل قد حشدت حشودها، وعلا صوتها، و كثر نصيرها، وبقية النبوة وورثتها إلى يوم الدين وقفوا ليعلنوا مبدأً لا يتغير ولا يتبدل، بلا مداهنة ولا ممالقة.
هانت عليهم أرواحهم ودماؤهم، فالدين عندهم أغلى، وميراث النبوة عندهم أشرف وأكرم من كل شيء.
جاءت قوى الطغيان تطلب من الإمام الحسين بن علي عليه سلام الله أن يبايع يزيد بن معاوية، فأعلنها سيدنا الحسين مدوية تكاد تصل أصداؤها إلى آذاننا لتفتح آذانا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وعيونًا عميًا: إن مثلي لا يبايع مثله... مقولة أطلقها الإمام الحسين ليعلن عن موقف يعلم أجيالًا، فالفارس لا يهاب الموت، ولم يضعف من عزمه أن يخرج أولاده ويستشهدوا بين يديه، ولا تخور قواه بعد أن أطلقوا سهمًا بيد آثمة أصاب عنق ولده الرضيع عبد الله وهو يحمله في يده فأرداه قتيلًا.
وكل هذا ليس بالعجيب، فهو وارث علم النبوة، وهو وارث مقام الفتوة، أليس هو ابن علي بن أبي طالب؟ بلى، هو ابن من نام في فراش المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة .. هو ابن قاتل الكفار يوم بدر وأحد .. هو ابن قاتل عمرو بن ود يوم الخندق .. هو ابن فاتح حصن خيبر .. هو الإمام ابن الإمام، الشهيد ابن الشهيد..
وقف الحسين غداة يوم عاشوراء بعد صلاة الصبح ينظر إلى أهل بيته ويحدثهم ويخبرهم أنهم مقتولون في هذا اليوم، فخاطبه الإمام علي زين العابدين قائلًا: يا أبت، أولسنا على الحق؟ فأجابه أبوه : نعم يا ولدي، والله إننا لعلى حق. فأجابه ولده السجاد فقال : إذن، لا نبالي.
مقولة تعيد إلى الأذهان قول جدهم الأكبر سيدنا إسماعيل عليه السلام وهو يقول لأبيه: (يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [سورة الصافات: 102].
وتبدأ المعركة ويخرج رجال أهل بيت النبوة الواحد تلو الآخر، يقاتلون كالليوث الضارية، كل منهم يأتي إلى الإمام الحسين فيلقي عليه السلام، ويستأذن في الخروج، والعباس بن علي بن أبي طالب حامل اللواء.
فيخرج علي الأكبر بن الحسين، فيسلم على أبيه، ويستأذن في الخروج فيأذن له، فيقاتل ويقتل منهم مقتلًا عظيمًا، ثم يرجع وقد استبد به العطش -وكانوا قد منعوا عنهم الماء، وحالوا بينهم وبين الفرات- فوقف علي الأكبر يشكو لأبيه من شدة عطشه، فيقول له الحسين: صبرًا يا ولدي، عما قريب تشرب من حوض جدك رسول الله.
فيخرج علي يقاتل حتى يقتل فيخرج له أبوه ليحمله إلى الخيام، وينظر إلى القوم قائلًا: ويحكم، لقد قتلتم أشبه الناس برسول الله، والله كنا إذا اشتقنا إلى رسول الله نظرنا إليه. ويستشهد أبناء السيدة زينب، ويستمر القتال، ويستشهد أشقاء العباس بن علي بعد أن حثهم على الخروج وشجعهم للدفاع عن ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
و يأتي أبو الفضل العباس بن علي ليستأذن من أخيه للخروج، فيقول له: يا عباس، أنت حامل لوائي، أتريد أن تتركني وحدي؟ فيلح عليه العباس، ثم يخرج يقاتل، ويحاول أن يصل إلى الماء حاملًا القربة ليملأها بعد أن اشتكت له سكينة بنت الحسين من شدة العطش.
ويقاتل أبو الفضل حتى يصل إلى الماء، فلما هم بالشرب وحمل بعض الماء في راحته وقربه من فمه تذكر عطش الحسين عليه السلام، فألقى الماء من يده، ووبخها إذ راودته أن يشرب وابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عطشان.
ثم ملأ القربة، فإذا به يضرب على يده فتقطع، فيحمل القربة في يده اليسرى فيضرب عليها فتقطع، ثم يضرب على رأسه بعمود من الحديد، فيستغيث وينادي: واحسيناه. فيحمل الحسين عليهم حتى يصل إلى أخيه فيحمله ويعود به إلى الخيام.
و يبقى الفارس وحده، فتخرج إليه النساء لوداعه بعد أن طلب فرسه واستعد للخروج .. فتأتيه زينب أخته، وتخرج بناته باكيات، وتبكيه زوجاته.
ويتحرك الفارس، ويقف فينظر إلى القوم الذين جاءوا لقتله، ويذكرهم ويعظهم ويعرفهم بمكانته، قائلًا: أتدرون أي دم تطلبون؟! والله، ما على الأرض ابن بنت نبي غيري. و يقف مذكرًا لهم مكانته من رسول الله، وهو يلبس درع النبي وعمامة النبي، والقوم صامتون لا يحركون ساكنًا..
ويبدأ القتال، ويحمل الحسين على ميمنة الجيش فيقتل منهم مقتلًا عظيمًا، ثم يرجع، و يحمل على ميسرة الجيش ويرجع، ثم يحمل على قلب الجيش.. ويظل الفارس يقاتل وحده وكأنه جيش بأكمله.
ويستبد العطش والتعب بالإمام الحسين، وقد ملئ جسده الشريف بالطعنات والضربات، وهو يقاتل كالأسد، إلا أن القوم قد تكاثروا عليه وانهالوا عليه بسيوفهم ورماحهم .. ويترنح الفارس، فإذا بهم يضربون فرسه حتى يسقطوه، فيترجل الحسين عن فرسه إشفاقا على الفرس ويخرجه من أرض المعركة.
ويعود الفرس إلى الخيام، فتخرج سكينة للقاء أبيها، فإذا بها تجد الفرس قد عاد وحده دون فارسه، فتبكي سكينة وتنادي عمتها زينب لتخبرها بعودة الفرس فارغًا من فارسه.
ويحمل القوم على الحسين حتى يسقط، ويأتيه الملعون شمر بن ذي الجوشن فيجز رأسه الشريف، ويصمت الفارس ويسكن جسده الشهيد.
قتلوك يا إمام فخلدوك، ظنوا أنهم بذلك ينهون أمرك ولم يعلموا أن مراد الله أن يبقى ذكرك، وكيف لا؟
و قد قال الحق لجدك: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [سورة الشرح: 4]، وأنتم منه؛ تحملون نوره، وتبلغون ميراثه، فرفع ذكركم، وبقي أثركم، وها نحن بعد آلاف السنين ما زلنا نكتب عنكم، ونتكلم عنكم، ونعيش على محبتكم، ونحييها في قلوب أبنائنا، عسى أن نحشر في زمرتكم..
أنتم العترة الطاهرة التي أمرنا النبي أن نتمسك بها، أبقى الله ذكركم، وأدام علينا محبتكم.
السلام عليك أيها الشهيد.