نسخة تجريبيـــــــة
دروس من كربلاء

أخطأت في المقال الأخير حيث ذكرت في سياق كلامي عن يوم عاشوراء أنه العاشر من ذي الحجة، وهو من باب سبق القلم، وقد نشر القائمون على الجريدة تصحيحًا في جريدة يوم الأحد بعد مراجعتي في هذا الخطأ؛ إذ إن عاشوراء هو العاشر من شهر الله المحرم، فأردت التنويه؛ إذ قد يرى الكثير من القراء المقال ولا يرون التصحيح.
وقد مررت على بعض أحداث كربلاء في المقال السابق، وهنا أريد أن أحاول استخلاص بعض المعاني والدروس من وراء هذه الأحداث، ومن وراء موقف الإمام الحسين سلام الله عليه في ذلك اليوم.
ماذا أريد من الحسين بن علي؟ أريد منه كلمة.. طلب منه بيعة.. هذا كل ما في الأمر؟!!
قد لا يفهم هذا الموقف كثير من الناس في زماننا هذا، وقد لا يدرك قيمة هذا الموقف جم غفير من البشر لا يقدر معنى الكلمة أو قيمتها.
الحسين بن علي يبذل روحه من أجل كلمة يأبى أن يقولها؟ لماذا أيها الشهيد؟ لماذا أيها السيد؟ لماذا أيها الإمام؟ كلمة طلبت منك، فلتقلها ولو على سبيل المداراة حتى تنجو بنفسك وبأهل بيتك من هذا الموقف.
فلتقلها مكرهًا إذن، ولا تثريب عليك، فجدك هو الذي أخبر أن أمته قد رفع عنها الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه.
إن لسان الحال ولسان المقال في الحسين ينطق قائلًا: إن مثلي لا يبايع مثله.
إن التاريخ قد ينسى سبب البيعة أو موقفها إن بايع الحسين، وقد تزور الحقائق، فالساسة هم القائمون على الإعلام، فينتشر في بقاع الأرض وفي أرجاء بلاد المسلمين أن ابن رسول الله قد بايع يزيد بن معاوية أميرًا للمؤمنين، ولا يعلم بعد ذلك إن كان قد بايع راضيًا أو مكرهًا. ولكن هل يترك الحسين بن علي الهمام بن الهمام، هل يصح له أن يترك الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، والصدق مع الله ورسوله؟
هل يصح له أن يقر ويرضى بخلافة باطلة أخذت بحد السيف؟ لقد سكتت الأمة كلها، فهل يصح أن تموت؟
لا والله، إن الأمة لا تموت.. قد تتأخر، قد تتكاسل، قد تتراجع، ولكنها لا تموت..
جاء صوت الحق مدويًا، وكان صوت الحق هو صوت الإمام الحسين.. جاء ليعلن أن حياة الأمة في صدقها وثباتها..
نعم، حياة خالدة، فها هو الشهيد مازال حيًّا في قلوب الأمة، وعلى ألسنتها، بل ومازال حيًّا في كتاب الله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران: 169].
ما زلت يا ابن رسول الله حيًّا حياة الخلد التي نص عليها القرآن الذي أنزل على قلب جدك صلى الله عليه وآله وسلم، وما زال ذكرك يملأ أركان المعمورة، وما زال مشهدك يقصده المحبون من مشارق الأرض ومغاربها؛ يزورونك محبة ومودة لجدك، وعرفانًا بحقك.
وعلى الجانب الآخر نبحث عن آثار أقوام قتلوك أو تآمروا على قتلك، أين هم؟ إنهم يلعنون على ألسنة المؤمنين وفي قلوبهم إلى يوم الدين.. إنهم قوم أخزاهم الله، ويكفي أن جعل سيرتهم في هذه الأرض لا تذكر إلا باللعنات، وسيرتكم لا تذكر إلا بالصلوات والرحمات والسلامات.
إن الحسين لم يخرج باحثًا عن شرف فإليهم ينتهي الشرف، ولم يخرج يطلب شهرة أو سمعة فهم الذين رفع الله ذكرهم؛ إذ قرنهم بجدهم صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات.
ولم يخرج لطلب ملك فهم أعز وأرفع من ذلك، فهم قرناء الكتاب العزيز، وقد أعطوا ملك الدنيا والآخرة، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 54].
لقد خرج الحسين يطلب الحق، ويدعو إلى الحق، وينصر الحق بعد أن قل نصيره.
وأراد أن يصرف كل من جاء معه في ليلة عاشوراء، وفي جنح الظلام، فطلب منهم أن يخرجوا ويتخذوا من الليل ستارًا قائلا : إن القوم لا يطلبون غيري.. ولكنهم أبوا إلا أن يبقوا ولسان الحال يقول: لا خير في العيش بعدك يا ابن رسول الله.
إن الحسين لا يطلب بطولة زائفة، ولكنه يقوم بحق دينه ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و هنا الدرس .. إخلاص العمل لله، فالحق إن طلب يجب أن يطلب بإخلاص، والحق إن قيل فيجب أن يقال بإخلاص.
فلا يكفي أن نعرف ماذا نقول، ولكن يجب أن نعرف لماذا نقول.. فكم من قول حق يراد به باطل، وهنا يجب أن نعي الدرس حتى نجرد نوايانا ولا نطلب من وراء الحق إلا الحق.
الدرس الثانى الذي خطه لنا هذا الإمام هو الثبات.. فقد نطلب الحق، ونقول الحق، ولكن مع أول مواجهة لقوى الظلم نتراجع ونتقاعس.. ولكن الحسين هيهات؛ فقد وعى الدرس، وتشبع بالمعاني حين بلغه أن جده قال لعمه أبي طالب: (والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه).. كلمات خالدة تخطها أنوار النبوة، ثبات على الحق وإن قل نصيره، ومفارقة للباطل وإن عم وعلا..
فكان الحسين على القدم يسير، وللأثر يقتفي، وكيف لا وهم الوارثون لأنوار النبوة، والعارفون بحقائق الكتاب، الناشرون لأوصاف المصطفى حالًا ومقالًا؟!
فما تخاذل حين استنصره أهل الكوفة، وما تراجع حين علم بخذلانهم له، وما خارت قواه حين رأى الحصار، وما فترت عزيمته حين قُتل رضيعه بين يديه، وما استسلم حين رأى أنصاره وأهل بيته يتساقطون شهيدًا تلو شهيد.
كلمةٌ يا إمام تطلب منك، وقد بقيت وحيدًا، فلتقلها إذن.. (حتى يظهره الله أو أهلك دونه).. كلمات جدك محفورة في قلبك، مدوية في وجدانك، تعيش معك، بل تعيش أنت بها، فأنت منه وهو منك، (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا)..
دروس لا تنتهي، وعبر لا تنقضي .. فعلى كل من يطلب الحق أن يعيش معاني كربلاء، وأن يراجع هذه الدروس، وأن يتعلم كيف يطلب الحق..
نحن في زمان نحتاج فيه دعاة للحق، صادقين في دعوتهم، لا يطلبون عليها عوضًا، ولا يرجون من ورائها شهرة، وإنما يطلبون الإصلاح ما استطاعوا.. يحملون هم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي قلوبهم شفقة ورحمة بمن يدعونهم ، لا يتسلطون ولا يتجبرون، ولا يداهنون.. نحن في حاجة إلى صدق الطلب للحق، وحسن الطلب للحق، والثبات على طلب الحق، عسى الله أن يردنا إلى الحق، ويهدينا إلى الحق، إنه هو الحق سبحانه وتعالى.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 48 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث