نسخة تجريبيـــــــة
في حميثرة سوف ترى

بين الجبال في هذا الوادي البعيد في صحراء عيذاب في جنوب محافظة البحر الأحمر أجلس أكتب هذه الكلمات .. وادي حميثرة الذي يقع به مقام الإمام أبي الحسن الشاذلي، يقع في صحراء نائية لا يأتي إليها إلا من كان قاصدًا الزيارة.
وقد وصلت منذ أيام مع صحبة من الأحباب حيث تعودنا على الخروج في هذه السياحة الروحية لنتزاور مع أحبابنا في صعيد مصر ثم التوجه إلى رحاب الإمام الشاذلي رضي الله عنه للمكوث عدة أيام في هذا الرحاب الطيب المبارك، نقضيها في حالة روحية في مجالس ذكر وعلم متصلة، ومدائح نبوية تحرك القلوب وتغذيها بمحبة رسول الله وآل بيته.
مائة وعشرون فردًا من مختلف الأعمار والثقافات والطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية لا يجتمعون في شيء وليس بينهم قاسم مشترك سوى الاجتماع على حب الله وحب رسول الله وآل بيته.
أيام كلها صفاء ومحبة في وادٍ مبارك تشرف بهذا الولي العظيم والإمام الجليل، فجعله الله مقصدًا للمحبين لرسول الله وآل بيته. والعجيب أن ترى هذا الجمع وقد ساده التآلف مع هذا التباين الشديد في الأعمار والثقافات والطبقات، كأن سر المحبة في الله قد ألف بين هذه القلوب فجعلها تنصهر وتذوب في إناء واحد وتتجانس ببركة نور هذه المحبة .. 
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة الأنفال: 63].
وأخذت أتأمل في كل جلسة وفي كل ساعة، وكم تأملت وكم لاحظت، حيث ترى الكل يتسابق على خدمة الآخرين، فهذا يطعم، وهذا يسقي، وهذا يهيئ المكان، وهذا يعد لإخوانه شرابًا ساخنًا في هذا الجو البارد، صور من المحبة الصادقة والتسابق على الخدمة حبًّا لله وفي الله، كل يخدم متطوعًا بود ومحبة حقيقية، أقولها بصراحة لا أراها إلا في وسط هذا الجمع الذي ألف بينهم حب الله ورسوله.
أما عن مجالس العلم والذكر فنرى فيها من فيوضات الأنوار على القلوب ما يعجز اللسان عن وصفه، وكأن المقولة التي قالها الإمام الشاذلي لتلميذه أبي العباس المرسي حيث أرادا الرحيل من الإسكندرية، فأمره الشاذلي أن يحمل ما يجهز به الميت، فسأله عن سبب ذلك فقال له: (في حميثرة سوف ترى) .. وكانت وفاته رضي الله عنه في هذا الوادي، إلا أن هذه المقولة وكأنها ما زالت سارية، حيث يأتي الزوار إلى وادي حميثرة وكل يرى من بركات هذا الوادي ومن بركات ساكنه رضي الله عنه الشيء الكثير.
يتعجب كثير من أصدقائي ومعارفي ويتساءلون عن سر التمسك بهذه السياحة التي بها الكثير من المشقة، وعن تكراري لها، حيث أواظب عليها من أكثر من عشرين عام، والحق أنه ليس لدي إجابة إلا مقولة شهيرة لا أعرف قائلها ولكني أرى معناها واضحًا جليًّا وهي (من ذاق عرف).
فكيف لي أن أصف طعم الشراب أو الطعام بوصف يشعر السامع بمذاقه؟ إن هذا محال في عالم الحس الذي جعل الله له من الجوارح والحواس مما فيه معاني مشتركة بين الناس، فكيف يمكن ذلك في عالم الروح والمعاني التي تصب على القلوب والأرواح، فتطيب وتطرب وتأنس وتتزود من الحب والقرب، وتعرج هذه الأرواح شوقًا لبارئها.
كيف لي أن أخاطب قلوبًا انغمست في عالم المادة، فما عرفت ولا تعلقت ولا تشوقت إلا لهذا العالم، والجمع فيه، والاستكثار منه ما استطاعت، فأخاطبها بمذاقات روحية، وتشوقات إلى العالم الأحسن.
في رحاب الشاذلي نعيش أيامًا طيبة ليس لنا مقصد من ورائها سوى المداومة على ذكر الله لنجلي صدأ هذه القلوب، يعيننا على ذلك بعد المسافة بيننا وبين العمران،  وكذلك انقطاع الاتصالات الهاتفية الأرضية والمحمول، فلا يعكر صفونا في هذه الخلوة الروحية شيء.
وكلما تأملت ازددت حبًّا لهؤلاء الأولياء الذين جعلهم الله سببًا في هذا الجمع والجموع المشابهة له التي اجتمعت على حب الله، وكلما اجتمعت تزودت من حب الله وكأن الله قد جعل هذا الحب الذي فاض به على قلوب أوليائه له خاصية الانتقال منهم إلى قلوب محبيهم .. ولم لا وحبه نور قذفه في قلوب خواص عباده، والنور طاقة، والطاقة لا تفنى ولا تستحدث كما يقول علماء الطبيعة، وقد جعل الله قلوب وأرواح هؤلاء الأولياء محطات للطاقة يستمد منها المحبون معاني المحبة لله ولرسول الله، ويتزودون بهم من معاني التقوى والقرب والحب لله سبحانه وتعالى.
ولذا فإذا تتبعنا القرآن نجد أن الله قد ربط قلوبنا بهؤلاء الخواص من عباده من أهل الاصطفاء، فقص لنا قصصهم ، وسرد لنا أوصافهم ثم أمرنا بمعيتهم، ثم بين لنا أن في هذه المعية سر الدلالة على الله سبحانه وتعالى.
فلما قص الله علينا قصصهم ربط قلوبنا بمحبتهم، وإذا تساءلنا لم يربط الله قلوبنا بأنبياء ومرسلين مر على حياتهم آلاف السنين؟ ولسنا مأمورين بشريعتهم بل منهيين عن اتباعها، غير أن محبتهم والإيمان بهم جعلها الله واجبًا علينا.
بل وقص علينا قصص الصالحين والصديقين كالسيدة مريم عليها السلام، والعبد الصالح الخضر عليه السلام، وغيرهما.
ثم جاء الحق ليبين لنا أوصاف المخصوصين من عباده فقال تعالى:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [سورة الفرقان: 63].
وقال سبحانه:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون) [سورة فصلت: 30].
فإذا تعرفنا عليهم بهذه الأوصاف جاءنا الخطاب
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة: 119].. أمر واضح بالمعية لهؤلاء الصادقين المحبوبين لله سبحانه وتعالى.
فإذا تحققت المعية استشعرنا معنى خطاب الله
(الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [سورة الفرقان: 59].
خبراء الرحمن أهل الدلالة عليه، يأخذون بأيدي خلق الله إليه، ولا يكون هذا إلا بفوز فاض الله به عليهم وأمدهم إمدادًا لا ينقطع، وجعل أرواحهم خزائن لهذه الأنوار.
ومن هذه الأنوار يفاض علينا في هذا الوادي وفي هذا الجوار، وينفذ القلب من عالم الحس إلى عالم المعنى، ومن عالم الظاهر إلى عالم الباطن، ومن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح.
قد يقول قائل إن ما نقول وما نستشعر خرافات وخزعبلات كما نسمع ونقرأ من كثير من الناس، ونعود فنقول: (من ذاق عرف).
فالحمد لله الذي ملأ قلوبنا بحب أوليائه وأوصل أرواحنا ، وسقانا من أرواحهم ما قربنا به إليه، وسيرنا على طريقهم واتبع بنا آثارهم، فأقبلنا عليه سبحانه إقبالًا شغلنا عن كل ما سواه.
رضي الله عن أولياء الله الصالحين، ونفعنا بحبهم والسير على قدمهم واقتفاء آثارهم.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 57 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث