هل أصبحت عدم الموضوعية هي سمة الحوار؟ وهل أصبح الهوى المتبع وإعجاب المرء برأيه هما من المهلكات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هما الصفتان الغالبتان، حتى فيمن نظن فيهم أو نفترض رجاحة العقل وبعد الرؤية..
فقد شاهدت خلال هذا الأسبوع حلقة من أحد برامج التليفزيون المصري تدور المناقشة حول أجور الدعاة من الفضائيات وغيرها، والحق أن ما سمعته أقل ما يوصف به هو عدم الموضوعية، وفي كثير من الأحيان خرج عن حد اللياقة.
وأنا هنا لا أكتب دفاعًا عن الدعاة الجدد كما يسمونهم، ولا أفهم على ماذا يعود هذا الوصف، أقصد الجدد، فما هو الجديد فيهم، هل هو الأسلوب؟ أم أنه الزي؟ لا أكتب دفاعًا عنهم، فليس لي دافع أو مصلحة في الدفاع، كما أن لي شخصيًّا كثيرًا من التحفظات على كثير منهم، كما أني أتوقف كثيرًا عند مسألة الأجور خاصة إن كان مبالغًا فيها، ولكن ما استوقفني حقًّا هو هذا التضارب فى كلام الأساتذة الضيوف، كما استوقفني نبرة واضحة من التحامل على هؤلاء الدعاة..
والحق أنا لا أفهم، يعترض البعض أنهم ليسوا من أهل الأزهر، وهل سلم منكم الأزهر وأهله؟ هل يعجبكم نموذج الشيخ الأزهري المعمم الذي يخاطب الناس بلغة فصحى، يرى كثير من الناس عدم ملائمتها لعصرنا ولعقول الناس في هذا الزمان..
تعترضون على الشكل والهيئة التقليدية، فإن جاء من يتكلم ويلبس كما يتكلم ويلبس أهل الزمان، اعترضنا عليه..
اعترض أحد الأساتذة على الأجور من منطلق أن الدعوة ليست حرفة، وقال: إن رجال الأزهر كانوا يعملون في حرفهم ويمارسون الدعوة إلى الله، وأعتقد أن هناك خلطًا بين رجال الأزهر والعلماء، وبين رجال الدعوة من أهل الطريق والصوفية، وأقصد صوفية زمن الصوفية المتحققين، ولا أقصد بهم الموصوفين بالاسم فاقدي الوصف.
فالعلماء وطلاب العلم كانت توقف الأوقاف لكفالتهم وكفايتهم مؤنة الحياة، حتى يتفرغوا لطلب العلم وتدريسه، وأما أهل الطريق فكان منهم أصحاب الحرف كسيدي علي الخواص، والخواص هي صنعته وصارت لقبًا له، أي أنه يعمل في صناعة الخوص، وكان من الأولياء، حتى إنه سلك الطريق على يديه سيدي عبد الوهاب الشعراني العالم الجليل..
فكفالة السلاطين والأمراء والتجار للعلماء وطلاب العلم هو أمر حاصل منذ مئات السنين وليس بجديد..
نحن في زمن تنفَق فيه الأموال على الرياضي من باب الرعاية ليتفرغ ويبدع، وتنهال المكافآت على الأبطال الرياضيين، وعلى الفنانين وغيرهم، فهل نطلب من هؤلاء إن اختاروا أن يتفرغوا للوعظ والإرشاد أن يعملوا فى الفضائيات بلا أجر؟
سيجيب من يجيب أنه لا اعتراض على الأجر ولكن فليكن بالحد المعقول، فما هو الحد المعقول؟ إن كلامكم نسبي أيها السادة، لابد أن يكون الكلام أكثر تحديدًا..
إن الفيصل فى هذا الأمر، هو رأي أهل الفتوى، هل هذا الأجر يعد من المال الحلال أم الحرام؟ فإن كان حلالا فليس لنا أن نعترض، وإن كان حرامًا، فقليله ككثيره.. أما أن نحاول الكشف عن نياتهم ونقول: إنهم ما تفرغوا للدعوة إلا من أجل جمع الثروات وتراكمها، فهذا أمر الله أعلم به. واستمرارًا لعدم الموضوعية، تطرَّق الضيوف في هجومهم إلى الاستخفاف بما يقدمه هؤلاء الدعاة.. وأقول: عدم الموضوعية؛ لأنهم لم يتطرقوا لحقيقة ما يقدم، بل وضح عدم إحاطتهم به من أساسه.
كما أشار أحد الضيوف إلى ما وصلنا إليه من تدنٍ أخلاقي وانتشار الفساد وشيوع التحرش كدلالة على عدم جدوى ما يقدمه هؤلاء الدعاة وضعف تأثيره. ولست هنا أقيِّم ما يقدمه هؤلاء، ومدى تأثيره، لأن هذا يحتاج إلى دراسة حتى نكون موضوعيين ومنصفين، ولكن أن نترك فساد الحكومات، وما يقدمه الإعلام، وتدني المستوى الاقتصادي، وترهل الحالة التعليمية، ونضع سلبيات المجتمع الأخلاقية في رقبة هؤلاء الدعاة، أعتقد أن هذا في رأيي المتواضع أمر يجانبه الصواب، ويحمل في طياته تحيزًا شديدًا ضد الدعاة..لست من المستمعين للدعاة الجدد كما جرت تسميتهم، بل لا أخفي على من يعرفني سرًّا إن قلت: إنني لست أحد المعجبين بهم وبما يقدمونه، غير أنني هنا لا أدافع عنهم كما ذكرت، ولكن فقط أبحث عن بعض الإنصاف والموضوعية في تقييم دور هؤلاء الدعاة، وأرى أنه يجب عدم التحامل عليهم بهذه الصورة.
ووددت حقيقةً لو تمكنت من سؤال الإخوة الضيوف وأقول لهم: هذا ما لا يعجبكم، فما الذي يعجبكم ؟ أو بمعنى آخر: ما هي صورة رجل العلم الذي يعجبكم؟ إن كان من الأزهر، فهم أهل جمود ويتحدثون بلغة لا يفهمها الناس، وإن كان من الدعاة الجدد، فهو سطحي ولا يقدم شيئًا، بل وليس أزهريًّا ؟!! إن لَبِس الجلباب والعمامة، فهو يلبس ما لا يناسب العصر، وخضنا في أن هذه العادات ليست من العبادات إلى آخر ما نعلم من مهاترات.. وإن لَبِس ما يلبس الناس، قلتم: إنه يلبس أفخر الثياب، وهذا لا يتناسب من رجل الدين، وعدنا إلى مسائل الأجور والدخل. إن كان صاحب صنعة، قيل: وما دخله بالعلم والدعوة، فليتفرغ لصنعته، وإن كان متفرغًا، قيل: إنه يتكسب منها ويراكِم ثروات..
فلتعطونا أيها السادة نموذج رجل العلم المثالي في نظركم، ماذا يلبس؟ وما يجب أن يقدم للناس؟ وكيف يعيش؟ ومن أين يتكسب؟ نحتاج إلى (كتالوج) نقدمه لمن أراد أن يعمل في مجال الدعوة حتى يرضى عنه الإعلام، ويكف عن تتبع زلاته.
إن كنا نبحث عن أهل الكمال فلن نجدهم، ولكن يكفي أن يكون هناك من يحاول إحداث تغييرًا إيجابيًّا مع وجود أخطاء فى أدائه، فلنتناصح حتى نتكامل، وحتى نستطيع أن نبصر بعضنا بعيوبنا، فننهض ونتحرك للأمام بمحبة وتعاون على البر والتقوى.