نعيش في هذه الأيام ومنذ عدة شهور طفرة سعرية نشعر معها أن الدولة قد فقدت سيطرتها على الأمر، وأن ثمة فوضى شائعة ناتجة عن عدة عوامل: أهمها عجز الدور الرقابي للدولة، تفشي الفساد، احتكار وجشع التجار، سوء السلوك الاستهلاكي لدى المواطنين.
ومن الحقائق المعلومة لدينا جميعًا أن الأسعار تتحرك وفق قانون العرض والطلب.. أما جانب العرض فإن الدولة عليها أن تقوم بدورها بتوفير السلع الاستراتيجية من ناحية، وبالرقابة على أسواق بقية السلع حتى لا تترك هذا الشعب فريسة لجشع التجار الذين يسعون سعيًا محمومًا لتعظيم أرباحهم على حساب هذه الملايين المطحونة تحت وطأة أعباء الحياة.
والحق أننا نشعر بمدى تقصير الدولة وعجزها عن أداء هذا الدور، بل ونشعر بفقدانها لهيبتها إلى حد كبير في قلوب كثير من الذين أصبحوا لا يخشون سطوة الدولة، ولا يعيرون بالا للنظام أو القانون، وهذا لا يمكن أن ينتج إلا عن فوضى وفساد أصابا الكثير من أفراد الجهاز الحكومي والإداري، وعليه فإن دور التصدي بحزم وقوة لكل فساد أو انحراف في الجهاز الإداري للدولة، فلا أمل في أي تحسن في أحوالنا المعيشية، بل لن نعيش إلا مزيدًا من التدهور.
وعندما نتحدث عن الفساد لا يجب أن نبدأ بعامل الفحص في إدارة المرور الذي يأخذ من صاحب السيارة ليفحصها، أو موظف بسيط يأخذ من صاحب مصلحة بعد أن ييسر له إجراءات يحتاج أن يتممها، ولو أن هؤلاء مخالفون ويحتاجون إلى الانضباط لتأدية عملهم دون ابتزاز المواطن أو تعطيل مصالحه، غير أننا يجب أن نعلم (أن الناس على دين ملوكهم)، وأن المثل يقول: (إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص)، إن الدولة يجب أن تضرب وبالتساوي على رؤوس الفساد، ويجب أن يشعر الناس كبيرهم وصغيرهم أنهم متساوون أمام القانون وسطوته، والحق أننا نشعر بذلك، بداية من مخالفات المرور التي نرى سيارات الشرطة وتلك الأخرى المملوكة لأفراد الهيئة القضائية بهذه الأرقام العجيبة التي لا ترى بالعين المجردة، نراها تخالف قوانين السير وتضرب مثلا للفوضى المحسوسة، مرورًا بقوانين الاحتكار، وما يجري من تلاعب بأقوات هذا الشعب ومقدراته، ونهاية بفساد بعض القيادات هنا وهناك.. لابد أن يشعر الكل أنه يتساوى مع غيره أمام القانون، وأن أيدي المحاسبة ستطوله إن لم يخضع لقوانين الدولة، أيا كانت. إلا أننا ومع الأسف نرى أن الأفراد الذين يحصلون على سلطة في هذا البلد، يتعاملون على أنهم فوق القوانين، وامتد هذا منهم إلى المواطنين، فسقطت هيبة الدولة، ضاع احترام القانون من جراء ما تفشى من فساد في الأجهزة الرقابية والإدارية.
فإذا نظرنا إلى جانب العرض، نرى مدى مساهمتنا كأفراد في هذه الفوضى وفي هذا الغلاء.. سلوك استهلاكي معوج، حتى عند أبسط الناس، فنرى أنفسنا قد خضعنا لنمط استهلاكي قد فرض علينا فرضًا، فإذا بنا نلهث وراء متطلبات هذا النمط، ثم نبحث بعد ذلك عن كيفية توفير الموارد له.
على الرغم من أن الأمر يجب أن يكون على عكس ذلك، حيث ينظر الإنسان إلى موارده، ثم ينظر ما الذى يستطيعه وما لا يستطيعه، وهذا الاعوجاج في السلوك الاستهلاكي سبب في أزمة كثير من بيوتنا.. ويكفي أنك تجد إنسانًا فقيرًا يأتيك طالبًا لصدقة أو مساعدة، ولا يستحيي أن تجد في جيب قميصه علبة سجائر وقد تكون مستوردة !!
ومن ناحية أخرى، نجد سلبية في مواجهة استغلال التجار، بل وحماقة تدفع هؤلاء التجار إلى مزيد من الاستغلال..
ففي حين أن المستهلك في حقيقة الأمر هو الأقوى في طرفي العلاقة، إلا أننا نجدنا كمستهلكين ضعافًا بل مقهورين أمام هذا الغلاء سواء أكان مبررًا أم لا..
نصرخ من ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت، ثم نلهث للشراء والتخزين تحسبًا في زيادة الأسعار، فتزداد الأسعار نتيجة زيادة الطلب، وأنا أتصور أننا كأفراد وبالتضامن مع الشركات العقارية قد اتخذنا قرارًا بوقف حركة البناء لمدة شهر واحد، وامتنعنا عن شراء الحديد كتعبير عن عدم رضانا بهذه الأسعار المفروضة علينا فرضًا، ماذا يكون رد فعل السوق؟ وهكذا الأمر في سائر السلع، فيكفي أن نعيد ترشيد استهلاكنا من السلع الغذائية لنضع مستهدفًا لتخفيض الاستهلاك، ومن ثمة تخفيض الطلب.
إن الدولة مطالبة بتوفير ستين مليون طن من القمح، ونحن كما أشار بذلك أحد الوزراء أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، فإن كان هناك إجراءات لابد من الدولة أن تتخذها في جانب العرض، فنحن كأفراد علينا مسؤولية كبرى في جانب الطلب، حيث يمكن أن يكون لنا دور مؤثر، لنرفع عن أنفسنا حكومة وشعبًا عبئًا لن يرفع إلا بتضامن بين الدولة والشعب.
لابد لنا من تعاون صادق في هذا المجال، فلا يمكن أن يقتتل الناس في طوابير الخبز المدعوم، ثم يطعمونه للحيوانات والطيور، إننا أمام سلوك معوج بكل المقاييس.
غير أننا كأفراد لن نستجيب لأي نداء بالتعاون حتى نصدق ما نسمع، وحتى نشعر أن من يحدثنا يشعر بنا ويعيش معنا.. والحق أننا لا نشعر أننا في مركب واحد، وهذا هو نبض الشعب، بل نشعر أننا في مركب تغرق، وأن هناك طبقة حاكمة ومعها رجال أعمال يستعدون للفرار منها إذا أيقنوا بغرقها..
نحن في العبارة التي تغرق، وصاحبها يذهب إلى لندن بعد غرقها.