التقوى، كلمة واحدة تجمع في باطنها، وحوت تحتها كل مجامع الخير من فعل المأثورات وترك المخالفات.. كلمة جعل الله العزيز مرتبة العبد عنده سبحانه مرتبطة بمقدار تحقق وصفها في ذلك العبد، فقال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات: 13]، فما جعل الله قدر عبده عنده بمقدار ما أعطاه من مال أو جاه أو ولد في هذه الدنيا، ولذا فكم من أناس أعطاهم الله كل ذلك، وهم عنده من المبعدين المحرومين من نور الصلة به سبحانه وتعالى.. ولكن جعل الله مكانة هذا العبد عنده بمقدار ما وفقه إليه سبحانه من القيام بالوصية التي أوصى الله بها الأولين والآخرين، فقال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [سورة النساء: 131].
وهذه هي الوصية الواجبة التي على كل عبد أن يـبحث عن كيفية تنفيذها في حق نفسه حيث أقامه مولاه وفيما استخلفه.
ومع ذلك فترانا ومع تحذير الحق لنا ما زلنا نقع فيما ذكره من وصف الإنسان قائلا سبحانه: (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَهَانَنِ) [سورة الفجر: 15- 16].
نعم، مازلنا ننظر إلى عطاء الدنيا على أنه إكرام، وأن السعة في أمورها دلالة على الرضا، فلم نجد من أنفسنا خوفًا ولا حذرًا إذا أمدنا الله بمزيد مال أو جاه.. والناظر في الآية يجد أن الله قد جعل كلا من العطاء والمنع يندرج تحت وصف واحد وهو (ابتلاه)، بمعنى اختبره.. فمن منا جاءه المال فانتبه قلبه قائلا: (ها قد بدأ الاختبار)، وحذر نفسه من نسيان هذا الأمر فأخذ يفتش كيف ينجح في هذا الأختبار.
إن سلطان الدنيا والشهوات جعلنا في سكرة، والسكران تنقلب أمام عينيه الحقائق، ويرى أمامه خيالات، فيتعامل معها ظنًّا منه أنها حقيقة، فإذا أفاق لم يجدها شيئًا..
وما من دواء لهذا المرض العضال إلا البحث عن سبيل العمل بالوصية، وصية التقوى التي تبصر العبد بمراد ربه منه، فيطيب عيشه وتحسن خاتمته، فقد قال بعض العارفين: (إن خيرات الدنيا والآخرة قد جمعت تحت كلمة واحدة وهي التقوى، وإن شئت فانظر إلى ما في القرآن الكريم من ذكرها، فكم علق عليها من خير، ووعد عليها من ثواب، وأضاف إليها من سعادة دنيوية وكرامة أخروية).
والتقوى يحتاج إليها كل عبد أراد أن ينجو يوم الحساب، وعلى كل أن يعرف كيف يقوم بحق الله فيما أقامه، وأنه مسئول عن ذلك، ومسئول في اللغة من المشتقات، وهي اسم مفعول، أي أن هناك من يسأله، والحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) إلى آخر الحديث، فكلما زادت وكثرت الرعية، زاد السؤال وطال، ولذا كان يفر كثير من أهل التقوى والخشية من الإمارة، وهذا عمر بن الخطاب لما أشاروا عليه أن يضع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الستة الذين جعلهم من بعده حتى يختار المسلمون منهم خليفة قال (كفى آل الخطاب أن يسأل واحد فيهم عن الإمارة).
وهذا أبو حنيفة يعذَّب حتى يتولى القضاء، فما تولاه خشية ألا يقوم بحقه.
وسبيل التقوى في معية الصادقين، حيث قال المولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة: 119].
فالله يأمرنا بمعية الصادق، ونحن نحب صحبة المنافق الذى لا يبصِّر بعيب ولا يرشد إلى صواب، وإنما يوافق صاحبه على ما كان منه، بل ويمدحه بما ليس فيه، وبما لم يفعل، والله قد قال في كتابه: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران: 188].
وقد جعل الله الفوز والسعادة رهنًا بعدم طلب العلو في هذه الدنيا، وبعدم الإفساد، فقال سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص: 83].
فمَن منا لا يطلب أن يعلو ويعلو، بل ومَن منا لا تشبع نفسه علوًّا في الأرض، وهو في طريقه لطلب هذا العلو يفسد ويعتدي ويظلم إن وجد عائقًا يعوق عن تحقيق علوه المنشود.
والعجب حقًّا أن بين أيدينا كما نرى كتابًا عزيزًا جمع الله لنا فيه مجامع الخير، وبصرنا فيه بمواطن الشر، وحذرنا مما تسوقنا أنفسنا وشهواتنا إليه، بل والأعجب أننا نصدق ما فيه، ونؤمن بما جاء به، ونتلوه متعبدين به، غير أننا ما زلنا نقع في تلك المحاذير، وننقاد خلف هذه الأهواء، وعز من قال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [سورة محمد: 24].
فقراءة بغير تدبر لا توصل إلى المطلوب، والتدبر بيننا وبينه حائل إذ ختمت القلوب، وأغلقت بأقفال الشهوة وحب الدنيا، فهل إلى نجاة من سبيل؟
إن هذه العيشة التي يشعر الناس منها بالضيق هي نتيجة إعراض عن الله سبحانه، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى) [سورة طه: 124].
ونحن في هذا الوقت الذي أصابنا فيه الغلاء، وجعل كثيرًا من الناس يعيشون في عناء، علينا أن نتدبر قول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ) [سورة الأعراف: 96] كذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا) [سورة الطلاق: 2].
التقوى سفينة نجاتنا في الدنيا والآخرة، لعل آذاننا تصغي، ولعل قلوبنا تفقه.