(وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ) [سورة القصص: 77]، نصيحة غالية جرت على لسان قوم قارون في القرأن عندما رأوه قد تكبر وتعالى بما أتاه الله من مال، ثم سار القصص القرأني يبين لنا خاتمة قارون وماله إذ خسف الله به وبداره الأرض، ثم يختم لنا الحق هذا القصص بحقيقة يقرع الله بها القلوب لعلها تستفيق من غفلتها فيقول عز من قائل: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [سورة القصص: 83].
قصة من أقصر قصص القرأن تتلخص في نصيحة لرجل أتاه الله المال والسلطان، فنسى فضل الله عليه، واعتقد أن ما جمعه كان بعلمه وبقدرته وليس بفضل الله عليه، فغفل قلبه وطمس عليه تجبرا وتكبرا، وهو حال أقوام نراهم قد أطغاهم المال وأفسدهم السلطان.
ثم يخرج هذا المتكبر في زينة يتباهى بما قد جمع، فتعلقت قلوب ضعاف النفوس بما يريدون من عرض زائل، وتمنوا أن يعطوا مثل ما أعطى، وأن يجمعوا مثل ما جمع، غير أن أهل الله من العلماء الصالحين مازالوا قائمين بالنصح إذ جعلوا قلوبهم بمعزل عما تتعلق به قلوب الناس من هذه الدنيا، فقالوا لهم كما جاء في الكتاب : (وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقّاهَآ إِلاّ الصّابِرُونَ) [سورة القصص: 80].
غير أن هؤلاء ما أعادهم إلى رشدهم، وأيقظ قلوبهم من غفلتها وردها عن غوايتها إلا أية أجراها الله أمام أعينهم في هذا الخسف الذى أظهر به هوان الدنيا وأهلها المتكبرين المغترين بها عليه سبحانه.
صور قرأنية تبين لنا أصنافا من البشر، وما يأتى بها الحق إلا لأنها صور قائمة متكررة على مر الزمان مع تغير في التفصيل والأحوال، إلا أن الملامح العامة لهذه الفئات تكاد تكون واحدة على مر الزمان، وفي كل مكان.
فكم من قارون يعيش بيننا، أعمى الكبر والاستعلاء مما أوتى من عطاء الله قلبه، فنراهم متجبرين يسعون في الأرض فسادا، ويعينهم على ذلك شياطين الأنس ممن اغتروا بما عندهم وطلبوا من أجله ودهم ورضاهم.
وكم من أناس على شاكلة هؤلاء القوم الذين غرهم ما عنده من زينة وأموال، فتمنوا ما أعطى، ونراهم يحيون حياتهم متطلعين إلى مال أو منصب أو مكانة، فيتملقون هذا، ويقفون بأبواب الأمراء وذوي السلطان لعلهم يحظون عندهم بمكانة تنيلهم من عطائهم فترضى بذلك نفوسهم العليلة، وتزداد دنوا بذلك نفوسهم الذليلة.
ويبقى على الجانب الأخر قلة قليلة، أتاهم الله علما أنار به بصيرتهم، وشرح به صدورهم، فأراهم الحق حقا، وأكرمهم باتباعه، وأشهدهم الدنيا في ثوبها الأصلى، وقد أزال عنها بنور بصيرتهم أثواب الخداع، فرأوها كما هي في حقيقة الأمر، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فأعرضوا بقلوبهم عنها، وتعففت نفوسهم عن الميل أليها، فإذا أتتهم راغمة، بذلوها في طاعته ومرضاته.
تراهم أصحاب نفوس زكية، وأحوال مرضية، بألسنة ذاكرة، وقلوب شاكرة، وأجساد صابرة، لو يرضوا بحب الله بديلا، فلم يشغلهم شىء عنه.. قلوبهم معلقة بما يبقى، زاهدة فيما يفنى، أشفقوا على الخلق فقاموا لهم ناصحين، وأشفقوا على أنفسهم من العاقبة فأتعبوها في أقتفاء أثار الصالحين، عسى أن يلحقوا بهم أو يكونوا عليهم مجموعين.
أما الفئة الأولى ففي سكرتهم يعمهون، وأما من تعلق بما عندهم، فهم في تطلعهم إلى ما عند هؤلاء من الدنيا راغبون، وأما أهل الله وخاصته، فهم إليه وحده متشوقون وإلى مرضاته وقربه سائرون. وهم في ذلك يقتفون أثار النبى المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام، الذى أعرض عن الدنيا اختيارا، وتقلل منها تخففا وزهدا في زائل العطاء، إيثارا لما عند الله إذ قال له مولاه: (وَلَلاَخِرَةُ خَيْرٌ لّكَ مِنَ الاُولَىَ) [سورة الضحى: 4].
والعجب كل العجب، أن هؤلاء القوم لا يسلمون من الناس، بل هم محل الغمز واللمز، تركوا للناس دنياهم فما رضي الناس بذلك، بل أكثروا في حقهم الملامة، فاستغرقوا في ذكر مولاهم وأثروا السلامة، فقال الحق في وصفهم:
(وَعِبَادُ الرّحْمَـَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً) [سورة الفرقان: 63].
وكما ذكرنا في معرض الكلام، قد أتى الله بها صريحة جلية، بأن جعل الأخرة لمن لا يطلب العلو في الأرض، ولا يسعى فيها فسادا.. فلتنظر حولك، ولتنظر في نفسك، أين هؤلاء الذين لا يريدون علوا، ممن منا لا يطلب هذا العلو؟ هم ندرة بين الناس، أفراد أخفاهم الله في خلقه، والاهم ووالوه، أحبهم وأحبوه، لم يجعل لهم هيئة مخصوصة، بل جعل سرهم في قلوبهم فقال: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات: 13]، التقوى محلها القلب، ولا يرى القلوب السليمة إلا صاحبها وخالقها، هو الذي يعلم السر وأخفى.
لم يصلوا إلى ذلك بكثرة أعمالهم، ولكن بنقاء السريرة والقيام بحق الشريعة، وسلوك الطريقة.. هم على قدم السابقين يمشون، وعلى أثارهم يقتفون.. خرق الله لهم العوائد وأجرى لهم الكرامات، فما رضوا بذلك حظا، فمطلوبهم غير ذلك، فهم أليهم متوددون، استغرقوا في حبه، وتفطرت أكبادهم شوقا إليه، يأنون بالليل أنين الثكلى، وليس النائحة بالأجرة كمن ذبح وحيدها في حجرها.
فهل عسى أن يجمعنا الله على هؤلاء الأكابر ويرزقنا صحبتهم، صحبة تنير قلوبنا وتبين لنا معالم الطريق، فنكون بصحبتهم من أهل التحقيق.
نحن في زمان لا نستطيع فيه أن ننجو بأنفسنا من هذا الطوفان الذى غرق فيه الناس واستغرقوا إلا بطوق نجاة يلقى إلينا من عالم الغيب بتوفيق من الله، حتى ننتشل من هذه الدنيا، وألطف ما قيل:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم تحن إلى التقوى وترتاح للذكر