للذكر مع الجماعة ورفع الصوت تأثيرًا كبيرًا في دفع الوسواس، واشتغال الحواس عن الخواطر الذميمة التي تعتري حال الذكر غالب الناس. والدليل على طلب الذكر مع الجماعة قوله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»، وقوله ×: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر»([1])، وقال ×: «لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللهفيمن عنده»([2]). وقد قيل من لم يهتم بذكر ربه في الدنيا لا يتنعم برؤيته في الآخرة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً كان يرفع صوته، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته. فقال رسول الله ×: دعه فإنه أواه. أي ولا نظر لخوف الرياء في ذلك، لأن ترك العمل لأجل الناس هو الرياء. وفي كلام بعضهم أجمعوا على أنه يجب على الفقير أن يذكر الله تعالى بقوة تامة، وعزم شديد، بحيث لا يبقى فيه متسع، وأن يهتز من قرن رأسه إلى أصابع قدميه. وقد ذكر سيدي أبو المواهب([3]) الشاذلي رضي الله تعالى عنه: أن الذكر بالجهر مشروع مأمور به، بل اقتضى حديث: اذكروا الله حتى يقولوا مجنون([4])، استحبابه، لأنهم لا يقولون مجنون حتى يسمعوه وذلك أعم من أن يكون السامع ممن يلي الذاكر ويشمل ما هو أبعد من ذلك إلى مدى صوت الذاكر، قال: وذلك ظاهر عند من أنصف، ولا عبرة بمن أتعب نفسه فتعسف. اهـ
ومن فوائد رفع الصوت بالذكر تنبيه الغافلين عن ذكر الله، فإذا سمعه غافل، ذكر الله تعالى فصار أواهًا.
وقول بعض الناس تمايل الذاكرين يمينًا وشمالاً عند قول لا إله إلا الله، لم يرد في ذلك شيء: يرده ما نقله الحافظ أبو نعيم عن الفضيل بن عياض، كان أصحاب رسول الله ×إذا ذكروا الله تمايلوا يمينًا وشمالاً، كما يتمايل الشجر في الريح العاصف اهـ.
ولا يجوز الإنكار على ما يحصل للفقراء عند سماع المنشد لكلام القوم من الوجد فإن ذلك سر من أسرار الله تعالى تحركه رياح الأنس من بحار القدس متفرقة في الأعضاء، فما وقع في اليد كان منه التصفيق، وما وقع في الرجل كان منه الرقص، وما وقع في القلب كان منه البكاء. وما وقع في الروح كان منه الصراخ، وما وقع في سويداء القلب كان منه الغشيان. وقد ترى الإنسان يكون هادئًا فيضطرب عن السماع. فقد قيل: إن الله تعالى لما خاطب الذر بألست ربكم. قالوا: بلى. استغرقت عذوبة الكلام للأرواح، فإذا سمعوا السماع تحرك من قال من ذلك شيئًا في ذلك العالم الذري، وظهرت عليه آثاره في هذا العالم الصوري([5]).
المصدر: نور الدين الحلبي (صاحب السيرة الحلبية المشهورة)، سيرة السيد أحمد البدوي المسمى «النصيحة العلوية في بيان حسن طريقة السادة الأحمدية»، تحقيق وتقديم وتعليق: أحمد عز الدين خلف الله، القاهرة: محمد عاطف وسيد طه وشركاهما، ط1،1964م، ص 113 – 116.
([2]) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما.
ومن فضائل الذكر أنه تعالى أمر إمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه أن يصبر نفسه مع الذاكرين: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (مر النبي ×بعبد الله ابن رواحة وهو يذكر أصحابه. فقال رسول الله ×: «أما إنكم الملأ الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معكم». ثم تلا هذه الآية: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28] أما أنه ما جلس عدتكم إلا جلس معهم عدتهم من الملائكة إن سبحوا الله سبحوه، وإن حمدوا الله حمدوه ،وإن كبروا الله كبروه، ثم يصعدون إلى الرب جل ثناؤه وهو أعلم بهم فيقولون: يا ربنا عبادك سبحوك فسبحنا، وكبروك فكبرنا وحمدوك فحمدنا. فيقول ربنا: يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت لهم فيقولون: فيهم فلان الخطاء. فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) رواه الطبراني في الصغير.
ويكفي أن ذكر الله ﻷشرط في قبول أي عمل كما هو مقرر في حديث النيات بل وهو أشرف الأعمال وأعلاها: عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ×سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة. قال الذاكرون الله كثيرا قلت: يا رسول الله: ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا لكان الذاكرون الله أفضل درجة. رواه الترمذي ورواه البيهقي مختصرًا وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ×: ألا أنبؤكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: بلى. قال: ذكر الله. رواه الإمام أحمد بإسناد حسن وابن أبي الدنيا والترمذي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد، وفي هذا الحديث من الإعجاز العلمي المحمدي ومن دلائل النبوة: أنه ×دل العالمين على مجمع كل خير والشرط في صحة كل عمل.
([3]) أبو عبد الله محمد أبو المواهب التونسي الشاذلي الوفائي، كان من العلماء الراسخين العارفين ،ومن أحسن مؤلفاته (قوانين حكم الإشراق في قواعد الصوفية على الإطلاق)، وله شرح على الحكم العطائية، توفى بعد الثمانمائة والخمسين رحمه الله تعالى.
([4]) رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد.
([5]) والمدار على الإخلاص. فإذا دخلت الحركة الأغراض أو شابها الرياء فلا وزن للعمل ولا قيمة، فكم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا التعب، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع.
وكان السيد أحمد البدوي رضي الله تعالى عنه يشترط على أتباعه مداومة الذكر مع حضور القلب.
قال مخاطبًا خليفته السيد عبد العال: (عليك بكثرة الذكر وإياك أن تكون من الغافلين عن الله تعالى) ولما سأله السيد عبد العال عن حقيقة الذكر قال: (هو أن يكون بقلب ولا يكون باللسان فقط ؛ فإن الذكر باللسان دون القلب شقشقة. يا عبد العال اذكر الله تعالى بقلب حاضر وإياك والغفلة عن الله تعالى فإنها تورث القسوة في القلب) فالذكر محله القلب وضده الغفلة والنسيان. والنطق محله اللسان وضده الصمت. ولا عبرة بذكرٍ صَدَرَ عن قلب غافل، منصرف عن مولاه. أما من كان حاضرًا في ذكره ﻷفلا يؤاخذ بما يصدر منه من حركة أو غيرها مادام ذلك قد صدر عن غلبة الوجد لا عن هوى النفس.