مات الشيخ عبد الباقي البكري شيخ السجادة البكرية ونقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الصوفية في سن مبكر في عام 1892 حيث كان في الأربعينات من عمره. ولو كان قد عاش فترة أطول لكان من المتوقع أن يتخذ إجراءات فيما يتعلق بالوكالات الحكومية لكي يتمكن من إعادة ترسيخ سلطته واستعادة شرعية السلطة على النحو الذي كان عليه الحال في أيام والده علي البكري. ولكن نجد أن الشيخ عبد الباقي البكرى قد جاء بعده أخوه الشيخ محمد توفيق البكرى الذي ورث سلطة خالية من الشرعية على رأس إدارة ممزقة ومليئة بالفوضى وغير كافية لجعل السلطة أمرًا واقعيًا وهى السلطة المخولة له من الناحية القانونية بصفته شاغلًا لهذا المنصب.
وعقب تقليد الشيخ محمد توفيق البكرى في منصب شيخ السجادة البكرية ونقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الصوفية بقرار من الخديوي عباس حلمي وجد الشيخ محمد توفيق البكرى نفسه أمام تحد من جانب الشيخ محمد شمس الدين شيخ المرزوقية الأحمدية إذ استند هذا الشيخ على فرمانات قديمة وأعلن أن محمد توفيق البكرى ليس له سلطة عليه بل وأعلن أن كافة الطرق الأحمدية تخضع لسلطته. فما كان من توفيق أن رد على هذا التحدي وأعلن إقالته من منصبه كرئيس للطريقة وعين أخاه حسن محمد شمس الدين في مكانه. ونتج عن هذا صراع خطير بين البكرى وبين محمد شمس الدين بل وامتد الصراع إلى أعضاء الطريقة الذين تحولوا إلى جماعات بعضها يناصر البكرى والبعض الآخر يساند محمد شمس الدين.
وبعد المشاوارت التي تمت بين نوبار رئيس الوزارء آنذاك ووزير العدل (ناظر الحقانية) ونائب وزير الداخلية (وكيل الداخلية) صدر الرأي النهائي بأن ادعاءات محمد شمس الدين لا أساس لها من الصحة وأن الإجراء الذي اتخذه البكرى هو إجراء قانوني ويقع في نطاق اختصاصه.
ولذلك فإن النتائج غير المباشرة الناجمة عن الحركة التي قام بها محمد شمس الدين كانت مفيدة للغاية بالنسبة للبكرى لأنها أكدت رسميًا على سلطات البكرى القانونية على الطرق الصوفية وهو أمر لم يكن متواجدًا أثناء تولى والده لهذا المنصب.
ومما لا شك فيه أن نتائج هذه الأحداث قد دعمت سلطة الشيخ محمد توفيق البكرى إلى الحد الذي جعله يجرؤ على التدخل في شئون الطريقة العروسية والقادرية في نهاية عام 1892 م وفي السنة التالية. (راجع: الشاذلية - فروعها - العروسية الشاذلية - مدخل عام).
وفيما يتعلق بتنازل محمد توفيق البكري عن منصبه كنقيب للإشراف في عام 1895 فإنه يذكر لنا بنفسه في «بيت الصديق» أنه قد تنازل عن هذا المنصب باختياره عندما اتضح له أن الخديوي عباس حلمي كان يشك في وجود دوافع سياسية من وراء الاقتراح الذي تقدم به لمجلس شورى القوانين بشأن ضرورة رصد مبلغ ألف جنيه من ميزانية الدولة سنويًا لصالح الأزهر كمساهمة في رواتب الدارسين بالأزهر.
إلا أنه يتضح لنا من مصادر أخرى أن الخديوي قد أمر محمد توفيق البكري بالتنازل عن هذا المنصب وبالتالي فهو لم يترك هذا المنصب بإرادته الحرة وعن طيب خاطر وعلاوة على ذلك فإن الاقتراح في حد ذاته قد وُوفق عليه جملة وتفصيلًا وبدون ظهور أي معارضة من جانب الخديوي وفي ضوء هذا فإنه يبدو أن «الدوافع السياسية» التي جعلت الخديوي يرتاب في توفيق البكري لم تكن سوى الشك في أنه قد تقدم بهذا الاقتراح لتقوية مركزه باكتساب سمعة طيبة كنصير وارع للمصالح المالية للدارسين الملتحقين بالأزهر. ولذلك كقرار استبدادي من جانب الخديوي ينبع من رغبته في كبح جماح تطلعات البكري نحو تحقيق الشهرة السياسية لنفسه وهو الأمر الذي أوضحه ماهر حسن فهمي الذي كتب سيرة حياة محمد توفيق البكري يعتبر قولًا ومعقولًا بل ويبدو أن تضمين بعض القيود على سلطة البكري في تنظيمات عام 1895 كان على الأقل متمشيًا مع رغبات الخديوي إن لم يك بتحريك مباشر من الخديوي.
وعدم وجود أي دليل يشير إلى احتجاج محمد توفيق البكري على الإقالة يوحى لنا بأنه قد تقبل هذا الإجراء العدائي من جانب الخديوي بدون أي قلق أو انزعاج وهذا أمر لا يدعو للدهشة في ضوء المضامين الواردة بالتنظيمات فيما يتعلق بنقابة الأشراف والتي كان الإعلان عنها على وشك الحدوث في ذلك الوقت فهذه المضامين قد جعلت شاغل هذا المنصب مجرد موظف في ديوان الأوقاف وخاضع لناظر الأوقاف وعلاوة على ذلك فإن المكافآت المالية الخاصة بهذا المنصب لم تعد مغرية نظرًا لأن شاغل المنصب كان مضطرًا لأن يقدم للديوان عقب الانتهاء من النفقات أي فائض من الدخول التي تنشأ عن إدارته لأوقاف الأشراف وكان أول نقيب أصبح خاضعًا للتنظيمات الجديدة هو الشيخ على محمد الببلاوي الذي كان خطيبًا وشيخًا لمسجد الحسين وقد تولى مهام منصبه الجديدة بعد مرور شهرين على تنازل محمد توفيق البكري عن هذا المنصب.
وهذا الحدث يعتبر بداية فترة شهدت تدهور العلاقات بين البكري والخديوي وخاصة عندما سعى الخديوي للحصول على التدعيم العثماني لمحاولاته الرامية إلى تأكيد سلطته أمام اللورد كرومر الحاكم العسكري البريطاني فأي تدعيم للروابط بين مصر والباب العالي (الإمبراطورية العثمانية) كان مرفوضًا تمامًا من الشيخ البكري نظرًا لأن هذا كان يناهض القومية المصرية ، والذى كانت له تصريحات عدائية ضد سياسة الخديو وكان سيتعرض للمحاكمة القانونية بسبب طعنه في الذات الملكية أكثر من مرة لولا تدخل كرومر وربما كان تدخل كرومر لحماية شخصية دينية كبيرة مثل البكري ناجمًا عن أن البكري كان ينشر المشاعر المناهضة للخديوي وكان هذا الإجراء يدعم مركزه في صراع السلطة بينه وبين الخديوي .
وبالنسبة لمحمد توفيق البكري نجد أن تدخل كرومر لصالحه كان يضعه في موقف غير مريح على أساس أنه إحدى الشخصيات المتمتعة بحماية كرومر وهو أمر غير مرغوب فيه في ضوء الروح الوطنية القومية التي يتمسك بها.
وفي مطلع القرن العشرين غَيّر الخديوي سياسيته واتجه نحو الوطنيين المصريين في محاولة منه لتحقيق التحرر من السيادة البريطانية الطاغية فأدى هذا الاتجاه الجديد إلى تحسين كبير في العلاقات بين البكري والخديوي الذي قام بتعيين البكري مرة أخرى في منصب نقيب الأشراف خلفًا للشيخ على الببلاوي عندما عين الأخير شيخًا للأزهر في أوائل عام 1903 م، وبالنسبة للبكري كان المكسب الوحيد المتبقي والذي يمكن تحقيقه من وراء هذا المنصب هو الهيبة والنفوذ والمرتب المتعلق بالمنصب نظرًا لأنه تخلى بإرادته الحرة عن حقوقه الخاصة بإدارة أوقاف الأشراف وبتوزيع الريع للديوان.
ونتيجة للتقارب ما بين الخديوي عباس حلمي والبكري أصبح البكري أكثر تورطًا في سياسة الخديوي وخاصة في جهوده الرامية إلى خلع محمد عبده مفتي مصر الذي كان إحدى الشخصيات المتمتعة بحماية كرومر وذلك عندما كان الخديوي يستدعيه للتوسط في مواقف ومناسبات مختلفة.
وبالإضافة إلى قيامه بدور الوساطة فإنه قدم نفسه على الصعيد السياسي كمناصر لقيام حكومة برلمانية وراح يدعو لذلك ليس فقط في داخل المجلس التشريعي ولكن أيضًا خارجه عن طريق الصحافة ويتضح هذا بصفة خاصة بعد أن تقدم بمطالبه للإصلاح السياسي في خطاب مفتوح نشر بالجريدة الوطنية اليومية «المؤيد» في إبريل1906 وكان ذلك الخطاب المفتوح موجهًا لموجهًا لأمير ويلز (جورج الخامس فيما بعد) الذي كان يزور مصر في ذلك الوقت وقد أثار الخطاب قدرًا كبيرًا من القلاقل والهياج والإثارة وأضفى على البكري هالة من الأهمية السياسية وأصبح مكروهًا من الإنجليز وخاصة بعد أن ساهم أيضًا في الأنشطة الرامية إلى تدعيم حركة الجامعة الإسلامية الشاملة .
إلا أن العلاقات بين الشيخ محمد توفيق البكري والخديوي تعرضت للتوتر مرة أخرى اعتبارًا من عام 1907 م فصاعدا وذلك عندما حاول الدون جورست الذي خلف كرومر في منصب الحاكم العسكري في مطلع تلك السنة إبعاد الخديوي عن الوطنيين المصريين الذي كان يعمل معهم قبل استقالة كرومر مباشرة. وقد أدى هذا إلى تدهور العلاقة بين الشيخ محمد توفيق البكري والخديوي فساد بينهما عدم الثقة المتبادل ومشاعر العداء المتبادلة مما أدى بالتأكيد إلى شدة الشك والارتياب التي أرغمت الشيخ محمد توفيق البكري على التنازل عن كافة مناصبه في نهاية عام 1911.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 125 – 126 ، 181- 183 .