عندما انتقل شيخ السجادة البكرية محمد بن محمد أبى السعود البكرىإلى رحمة الله، في رجب 1271 هـ (أبريل 1855 م)، خلفه ابنه الشيخ علي البكرى، ولدى تقلد الشيخ علي البكرى منصبي شيخ السجادة البكرية ونقيب الأشراف بواسطة الخديوي سعيد؛ فإنه حصل صراحة على نفس السلطة التي حصل عليها والده، من حيث الإشراف على الطرق والمؤسسات المرتبطة بالطرق في مصر.
وقبل أن يصدر القرار بتعيين الشيخ علي البكري في هذين المنصبين -وهو القرار الذي صدر عندما كان الشيخ علي البكرى عمره يزيد على خمسين عامًا- وكان يدرس في الأزهر الشريف، تحت إشراف عدد من الأساتذة المشهورين؛ وبذلك اشتهر بحبه للعلم والمعرفة، مما جعله مؤهلًا أكثر من والده لتولي هذه السلطة، التي بدأت تكتسب في أيامه الشرعية القانونية من خلال العرف السائد، هذا بالإضافة إلى أنه قد استفاد بالتأكيد من خبرة والده في مجال عالم إدارة شئون الطرق؛ فأسهمت هذه العوامل في ترسيخ سلطته على الطرق، والمؤسسات المرتبطة بالطرق، وهي السلطة التي حصل عليها بطريقة قانونية.
وكان رؤساء الطرق لهم وضع مختلف. فالأسلوب الذي كانت تسير عليه الطرق الخاصة بهم قد أصبح معتمدًا إلى حد كبير على تواجد إدارة البكري بينما الأسلوب الذي كانت تسير عليه إدارة البكري قد أصبح معتمدًا على شكل الوجود الخاص بالطرق. إذا كانت العلاقة بمثابة علاقة تكافلية اندمج فيها رؤساء معظم الطرق منذ أن بدت المزايا والمنافع -حماية المصالح بالأماكن الريفية المتضمنة في مبدأ حق القدم والضمان ضد انسحاب الأعضاء الذي يتضمنه هذا المبدأ حيث لا يمكن لأي مجموعة تتخذ اتجاهًا مستقلًا أن تطالب بحق القدم- مفيدة ومعقولة. ولذلك كان هناك ما يبرر القول بأن سلطة البكري كانت شرعية وقانونية وأن قانونية هذه السلطة تزايدت عندما تزايدت مساحة الرقعة الخاضعة لسلطته. وكان هذا التوسع بالدرجة الأولى هو توسع في أعداد الجمعيات والموظفين لأن التوسع الجغرافي في مصر العليا لم يكن قد تم. إذا كانت سلطة البكري ضئيلة للغاية في مصر العليا وذلك لأن حق القدم في هذه المناطق لم يكن له على ما يبدو قيمة فعالة من الناحية الاجتماعية. ولذلك لم تستطع إدارة البكري التوغل في المناطق الواقعة إلى الجنوب من القاهرة إلا بعد حلول السبعينات من القرن التاسع عشر. إلا أن سلطته في مصر العليا لم تصل على الإطلاق إلى نفس القوة والأهمية التي وصلت إليها في الدلتا ولذلك نجد أن العديد من الطرق الصوفية الجديدة قد تمكنت من الظهور والانتشار في مصر العليا مع بقائها مستقلة تمامًا عن سلطة البكري.
ولابد أن شرعية سلطة الشيخ على البكري قد تزايدت أكثر وأكثر بسبب الدور البارز الذي لعبه الشيخ على البكري في الأحداث السابقة على خلع الخديوي إسماعيل. فتأييده للخديوي إسماعيل ضد التدخل الأوربي والدور الفعال الذي قام به في توجيه الحملات الرامية إلى بقاء الخديوي على العرش قد خلق منه زعيمًا وطنيًا ودعم سلطاته.
وفي أواخر أيامه كان قد كون لنفسه مركز نفوذ قوي مستقل عظيم للغاية حتى أن الخديوي توفيق الذي جاء بعد الخديوي إسماعيل اعترف أثناء مناقشة الإصلاحات التي ينبغي إدخالها على الطرق الصوفية للمستر ماليت القنصل العام البريطاني أنه لا يمكنه التدخل في شئون هذه المؤسسات إلا من خلال الشيخ علي البكري.
وأثناء الفترة التي شغل فيها الشيخ على البكري منصب شيخ السجادة البكرية تطورت الإدارة على نحو سمح بتحقيق سلطة أفضل على الطرق والمؤسسات المرتبطة بالطرق وهي السلطة الممنوحة لشاغل هذه الوظيفة وفقًا لفرمان عام 1812 م.
وكان مبدأ حق القدم هو المحور الرئيسي لهذه الإدارة. حيث إن هذا المبدأ هو الذي جعل رؤساء الطرق مضطرين للاعتماد على البكري إذا ما أرادوا لطرقهم الصوفية ولأنفسهم كرؤساء على هذه الطرق الاستمرار والبقاء وعلاوة على ذلك نجد أن معظم رؤساء التكايا بالقاهرة قد أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من إدارة البكري ونفس الشيء بالنسبة لكبار الشخصيات الدينية ومشايخ الأضرحة والمشرفين على أهم الأضرحة بالقاهرة الذين أصبحوا من كبار الشخصيات الرسمية عقب صدور قرار الخديوي في هذا الشأن في عام 1276 هـ (1859/ 1860 م).
إلا أن استقرار هذه الإدارة كان عرضة للتقوض والانهيار نظرً لأنها كانت تستقي شرعيتها من شخصية الشيخ علي البكري إلى حد كبير. وعلاوة على ذلك فإن هذه الإدارة كانت تستمر في عملها بطريقة فعالة طالما أن أولئك الخاضعين لها أو المشاركين فيها كانوا لا يزالون يدركون أن الرابطة العضوية لهذه الإدارة مع الوكالات الحكومية تخدم مصالحهم.
وفي أكتوبر 1880 انتقل الشيخ علي البكرى إلى رحمه الله وتم تعيين نجله الشيخ عبد الباقي البكرى في هذا المنصب بقرار من الخديوي توفيق. ولم يكن لدي شيخ السجادة البكرية الجديد أية صفة من الصفات المتميزة التي كان يمتاز بها والده مثل الأهمية السياسية أو الشهرة في مجال المعرفة والعلم- رغم أنه قد قضي بضع سنوات كطالب في الأزهر- ونظرًا لأن سنه كان لا يتعدى الثلاثين عامًا فإنه لم ينل الاحترام الذي يكتنف عادة الناس الكبار في السن.
فبدأ الخديوي يتدخل ليقلل من نفوذ وسلطة شيخ السجادة البكرية وفي أوائل عام 1881 أصدر قرارًا ينص على تحريم ومنع «الدوسة»، ويبدو أن بعض القناصل الأوربيين الوثيقي الصلة بالخديوي قد مارسوا بعض الضعوط لحثه على اتخاذ إجراءات لتحريم الدوسة إلا أن البواعث الحافزة في مكان آخر كانت غائبة.
ولم تظهر الانتقادات للطرق إلا في عدد قليل من الصحف الثانوية. ولم يعبر عن هذه الانتقادات أية مؤسسات أو هيئات رسمية أو غير رسمية كما أن مؤسسة الأزهر الدينية كانت قد أظهرت منذ البداية حماسًا قليلًا إزاء المقترحات الخاصة بمنع الدوسة.
ومن ثم فإن مبادرة الخديوي نحو إلغاء الدوسة قد بدت وكأنها بمثابة تعبير عن رأيه الشخصي مما دفعه إلى إرغام عبد الباقى البكري على اتخاذ المزيد من الإجراءات الرامية إلى القضاء على بعض الممارسات الطقوسية الأخرى التي تعتبر من قبيل البدعة.
المرجع: فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 39، 88 – 89، 92، 95 - 96.