مات شيخ السجادة البكرية الشهير الشيخ محمد أبو السعود البكرى في نوفمبر 1812 م، وقبل وفاته بوقت قصير ذهب كل من: العلامة الشيخ محمد الشنواني (وهو شيخ الأزهر في ذلك الوقت)، وعدد من «العلماء»، ورؤساء الطرق؛ بناء على طلب الشيخ محمد أبو السعود شيخ السجادة البكرية مع ابنه محمد إلى الباشا محمد على ؛ ليطلبوا منه تعيين ابنه في مكانه.
ولدى تعيين محمد البكري في منصب شيخ السجادة البكرية، صدر فرمان يتضمن فقرة واضحة وصريحة على سلطته على الطرق في جميع أرجاء مصر؛ بل وعلى جميع التكايا والزوايا والأضرحة.
وكان إصدار هذا الفرمان مثل جزء من اصطلاحات محمد علي، الهادفة إلى جعل الحكومة حكومة مركزية، ولم يكن صدور هذا الفرمان نابعًا فقط من كرم الباشا وطيبة قلبه، واستجابة بريئة لمطلب العلماء؛ بمعنى أن هذا الفرمان لم يكن مثل حدث فردي غير مرتبط بالأحداث الجارية؛ بل ويبدو أن هذا الفرمان كان مثل وسيلة نحو تحقيق أهداف محمد علي باشا السياسية، فقد قوض هذا الفرمان مركز محمد أبو الأنوار السادات، شيخ السجادة الوفائية ونقيب الأشراف بعد ذلك.
ولقد ادعى الكثيرون من رؤساء الطرق، ورؤساء الزوايا والتكايا، والمشرفين على الأضرحة: بأنهم من سلالة الأشراف، وبإعطاء البكري سلطة قضائية عليهم، تقلص نفوذ السادات إلى حد كبير.
بل والأكثر من ذلك: أن السلطة الممنوحة للبكرى، تضمنت إمكانية إشرافه بشكل غير مباشر على إدارة شئون أوقاف الأشراف؛ حيث كان تعيين الموظفين في نظارة الأوقاف، متوقفًا على الموافقة النهائية للبكري.
ولكن يبدو أن إضفاء الصفة القانونية على سلطة البكري، والتوسع في هذه السلطة -كان يقصد به زيادة تقويض مركز «العلماء»، قبل أن يشرع محمد علي باشا في القيام بالإصلاحات الحاسمة المتعلقة بالأراضي والضرائب، في الفترة ما بين عام 1812 وعام 1814 م؛ فهذا قد جعلهم معتمدين من الناحية المالية على الحاكم إلى حد كبير، فالعديد من العلماء المشهورين كانوا يمارسون الطقوس الصوفية، وكان كثير منهم رؤساء للطرق.
وبصفة خاصة نجد أن الخلوتية وفروعها، كانوا من «العلماء» وشيوخ أزهريين، فمنذ عهد الشيخ العارف سيدى مصطفى كمال الدين البكري (1161 هـ/ 1749 م)، شيخ الطريقة الخلوتية فى مصر - كان شيخ الإسلام محمد بن سالم الحنفي شيخ الأزهر من عام (1171 هـ/ 1757 م إلى عام 1181هـ/ 1767 م)، وكان من بين خلفائه علماء مشهورون، تقلدوا وظائف دينية مهمة؛ مثل: العلامة الشيخ إسماعيل الغنيمي شيخ المالكية، والعلامة الشيخ محمد المنير السمنودي شيخ القراء والمحدثين بالأزهر، وشيخ الإسلام العلامة الإمام المحقق الشيخ أحمد الدردير «1127- 1201 هـ/ 1715- 1786م) شيخ المالكية، والعلامة الشيخ العارف سيدى محمود الكردي (1130- 1195 هـ: 1717- 1780م).
وكان شيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشرقاوي -وهو خليفة الكردي- هو أيضًا شيخًا للأزهر، من عام (1208 هـ: 1793 م إلى عام 1227 هـ: 1812 م).
وظهر نوع من الصدام والعداء بين فروع الطريقة الخلوتية التى ازدانت بالأزهريين وبين بعض الطرق الصوفية الأخرى، بشأن مدى تقبل سلطة محمد أبو السعود، بسبب شجب الخلوتية لبعض الممارسات الخاصة ببعض الطرق الصوفية والتى رآها العلماء مخالفة للشرع الشريف، ومع صدور الفرمان وقعت المجموعتان تحت سلطة البكري القضائية؛ حيث أصبح له الحق في التدخل في شئونهم وتعيين رؤسائهم؛ وبذلك فقد تقوضت سلطة «العلماء»، الذين يحتلون مراكز قيادة على الطرق، وانخفضت قوتهم بالتالي.
هذا علاوة على أن منح البكري سلطات استثنائية، على الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق؛ قد خلق منصبًا يوازي منصب شيخ الأزهر في كثير من المجالات؛ حيث تم تفويض البكري في الإشراف على التعليم، والمناهج التي تعطى في الكثير من الزوايا والتكايا والمساجد ذات الأضرحة؛ وبذلك فقد خلق الباشا إطار عمل للتلاعب بالصراع القديم بين علماء الشريعة وبين بعض المنتسبين للصوفية ممن ابتعدوا عن الشريعة، واتخاذ ذلك وسيلة لتخفيض سلطة «العلماء».
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا ، قلت أهمية التصوف من حيث هو فرع من فروع المعرفة التي تدرس بالأزهر؛ ولذلك فقد يكون هذا الفرمان هو السبب الرئيسي في تحول الأزهر إلى قلعة قويمة تقليدية، ومركز للمعارضة ضد أولئك المنتسبين زورا للصوفية والذين ينشرون مفاهيم غير صحيحة عن التصوف الإسلامى.
ولذلك يمكن القول بأن هذه التنظيمات تسببت للأسف فى توسيع الفجوة ما بين العلم الصحيح كما يقدمه الأزهر الشريف وبعض الممارسات الصوفية غير الصحيحة التى لم يجد القائمون عليها ما يضطرهم إلى تصحيحها فى ضوء العلم الشرعى بعد انفصالهم تحت سلطة البكرى، وساهم ذلك في تجميد وتحجير الطرق الصوفية في مصر، طالما أن فرصة رئيس الطريقة في الحصول على التصديق الرسمي من البكري، قد قضت على احتياجه لأن يكون دارسًا للعلوم الشرعية بالأزهر الشريف.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 19-21، بتصرف واسع.