الشاذلية – مدخل عام - مكانتها وثناء العلماء عليها
المتأمل فى حياة الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى اللهى تعالى عنه ، منذ بداية سلوكه ، يلاحظ أنه استقى تصوفه من خمسة أساتذة من كبار شيوخ التصوف ، حيث التقى بهم وأخذ عنهم مباشرة ، وهؤلاء الشيوخ هم : أبو عبد الله محمد ابن حرازم ، وأبو سعيد الباجى ، وأبو محمد المهدوى ، وأبو الفتح الواسطى ، والقطب عبد السلام بن بشيش ، وهؤلاء الشيوخ جميعهم يمثلون التصوف السنى الذى يتقيد أصحابه بمفاهيم ومعانى الكتاب والسنة ويربطون أحواله ومقاماته بهما ([1]) .
ويتضح لنا أن شيوخ المغرب ، الذين تتلمذ عليهم الشيخ الشاذلى رضى الله تعالى عنه ، كانوا من مدرسة الصوفى الكبير أبى مدين الغوث ، وبناء على ذلك فقد سارت الطريقة الشاذلية – فيما بعد – على نهج الطريقة المدينية ([2]) . كما يتضح أن هذه المصادر جميعها تعتمد فى تصوفها على نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وعلى هدى وسلوك النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته .
وقد جاء تصوف المدرسة الشاذلية متمشيا ومتفقا مع المصادر التى استقى مؤسسها منها تصوفه ، فكان امتدادا طبيعيا لرجال سلسلته الذى يمثلون الاتجاه السنى فى التصوف .
وقد احتلت المدرسة الشاذلية مكانة مرموقة بين الطرق الصوفية ، وشهد كبار علماء الشريعة والحقيقة لشيوخها بعلو المقام وطول الباع ، فها هو شيخها الشاذلى رضى الله تعالى عنه ، يحضر لميعاده بالمدرسة الكاملية ([3]*) بالقاهرة ، أكابر العلماء وفطاحل الفقهاء وعظماء الأئمة ، أمثال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، والشيخ تقى الدين بن دقيق العيد ، والشيخ زكى الدين عبد العظيم المنذرى ، والشيخ أبى عمرو عثمان بن الحاجب ، وابن الصلاح ، ومكين الدين الأسمر ، وغيرهم . وهؤلاء كانوا سادة العلوم الشرعية ، وأمراء الفهوم الربانية ، وكانوا يجلسون فى حضرته لازمين الأدب متتلمذين بين يديه ، حيث كان يشرح التفسير الوجيز لابن عطية الأندلسى ، والشفا للقاضى عياض ([4]) .
فإذا نظرنا إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وجدناه شيخاً للإسلام وقاضياً للقضاة ، وكانت له فتاوى لها خطرها من الناحية الفقهية ، تولى رئاسة المدرسة الصلاحية ثم المدرسة الكاملية ، وكان من كبار علماء الشريعة والفقه فى القرن السابع الهجرى ([5]) وكان يلقب بشيخ العلماء وبسلطان العلماء ، انتهت إليه الإمامة ، وبلغ منزلة الاجتهاد مع الزهد والورع ، وأخذ التصوف عن شهاب الدين السهروردى رضى الله تعالى عنه ، ثم سلك على يد الشيخ أبى الحسن الشاذلى ، فقال : ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعى على الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه وأرضاه ([6]) .
ولنستمع الآن إلى شهادة سلطان العلماء للشيخ الشاذلى رضى الله عنه بعلو المكانة ، وذلك حين استمع لتقريره فى الحقائق ، وشاهد حسن إفصاحه عن العلم اللدنى ، فصاح قائلا : " تأملوا هذا الكلام القريب العهد من الله " ([7]) .
وإذا نظرنا الى الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد وجدناه أيضا شيخاً للإسلام ، وقاضياً للقضاة ، وكان ممن آلت إليه رئاسة المدرسة الصلاحية ، ثم دار الحديث المعروفة باسم المدرسة الكاملية ([8]) ، يقول عنه تاج الدين بن عطاء الله فى لطائف المنن : سمعت الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد يقول : " ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبى الحسن الشاذلى " ([9]) .
ومما لا شك فيه أن شهادة العالمين السابقين لها وزنها وأهميتها ، خاصة إذا عرفنا أنهما من سلاطين علماء الشريعة شرقا وغربا فى عصرهما ([10]) .
ويقول الحافظ الكبير ابن الملقن فى شأن الشيخ أبى الحسن الشاذلى: " كان كبير المقدار؛ عالي المقام، له نظم ونثر ومتشابهات، وعبارات فيها رموز"([11]).
وامتدت مكانة الشيخ الشاذلى ، إلى تلميذه وخليفته الشيخ أبى العباس المرسى رضى اللهى تعالى عنهما ، حيث كان يحضر مجلسه كبار الأئمة ، يقول تلميذه الشيخ تاج الدين فى لطائف المنن : كان علماء الزمن يسلمون له هذا الشأن ، حتى كان شيخنا العلامة شمس الدين الأيكى ، والأصفرانى ، يجلسان بين يديه جلوس المستفيد ،آخذين عنه ومتلقين ما يبديه ([12]) .
وورث الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله الاسكندرى ، عن شيخه أبى العباس المرسى رضى الله تعالى عنهما الحظوة والمكانة العالية ، فقد كان يحضر مجلس وعظه كبار الأئمة ، مثل الشيخ تقى الدين السبكى ، إمام وقته تفسيراً وحديثاً وفقهاً وكلاماً وأصولاً ومنقولاً ومعقولاً ، المجتهد الذى لم يأت بعده مثله ، وقد ذكر السبكى فى بعض كتبه أنه أخذ عن الشيخ تاج الدين وحضر مجلسه ، ونقل عنه بعض كلامه ، وقال عنه أنه متكلم الصوفية على طريق الشاذلية . وذكر السبكى فى المعجم المخرج ، أنه قرأ على ابن عطاء الله كتابه الحكم ، وذكر فيه قطع منه ، قال : قرأت عنه واتصلت بالسند إليه ([13]) .
وفى شهادة بالغة الأهمية للطريقة الشاذلية ، يسجلها ابن السبكى فى " جمع الجوامع " حين يصف طريقة الجنيد وأتباعه بأنها خالية من البدع ، جارية على قوانين الشريعة ، وأن طريق الشاذلية فى المتأخرين هى طريق الجنيد ، فإنها كما يعرف من تأمل كلام الشاذلى فى التعاليق التى رويت عنه ، وكلام الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فى كتبه ، دائرة مع الكتاب والسنة واقفة مع الشرع، زاجرة عن الخواطر التى لم توزن بميزان الشريعة ([14]) . فلو كان فى طريق الشاذلية أدنى عوج ، ما أثنى عليها شيخ الإسلام تقى الدين السبكى ولا ولده الإمام تاج الدين ابن السبكى ولا أئمة عصره ([15]) .
ويقول الشيخ ابن عياد الشافعى عن طريقة الشيخ أبى الحسن الشاذلى: " طريقته من أوضح الطرق وأشهرها وأنورها وأقربها وأيسرها "([16]).
(1) دكتور أبو الوفا التفتازانى : مدخل الى التصوف الاسلامى ، ص 145 .
(2)Trimingham (J.S) : the Sufi orders in Islam ,London, 1971, p. 47
(3) * هى دار الحديث وليس بمصر دار حديث غيرها ، وهى ثانى دار عملت للحديث ، فإن أول من بنى دار حديث على وجه الأرض ، الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بدمشق ، ثم بنى الكامل هذه الدار ، وكملت عمارتها فى سنة إحدى وعشرين وستمائة . راجع: السيوطى ، حسن المحاضرة ، ج 2 ، ص 188 .
(4) انظر فى ذلك : ابن عقبة الميرغنى ، تفضيل الطريقة الشاذلية ، مخطوطة رقم 3383 تصوف ، ورقة 2ب ؛ وأيضا : حسن السندوبى ، أبو العباس المرسى ، ص 16 ، 17 .
(5) السيوطى ، حسن المحاضرة ، ج 2 ، ص 189 .
(6) انظر : الشعرانى ، لطائف المنن والاخلاق ، ج1 ص 50 .
(7) ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية ،ص 47 .
(8) السيوطى ، حسن المحاضرة ، ج 2 ص 189 .
(9) انظر : السيوطى ، تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية ، ص 59 ؛ وأيضا : حسن المحاضرة ، ج 2 ، 247.
(10) ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية ، ص 19 .
(11) ابن الملقن، طبقات الأولياء، ص 459.
(12) السيوطى ، تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية ، ص 59.
(13) انظر فى ذلك : المصدر نفسه ، ص 60 .
(14) انظر فى ذلك : السيوطى : تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية ،ص 60 ؛ وأيضا : العطار ، حاشيته على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع : ج 6 ،ص 222 .
(15) السيوطى : تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية ، ص 60 .
(16) المرجع : أحمد بن محمد بن عياد الشافعي، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1381هـ/1961م، ص 4.