عصر النشأة والحالة السياسية فيه
كانت الدولة الإسلامية فى زمن الإمام أبى الحسن الشاذلى منقسمة وغير موحدة تحت خليفة واحد، فكانت دولة الموحدين فى المغرب، والتى خرجت عليها دولة الحفصيين فى تونس، وكانت دولة الأيوبيين فى مصر والشام، والخلافة العباسية الشكلية فى بغداد، إلا أن الدولة الأيوبية كانت تخضع شكليا أو رسميا للخلافة العباسية، أما دولة الموحدين فكانت مستقلة عنها وكانت تعد نفسها خلافة إسلامية تضاهى الخلافة العباسية، وكذلك كانت دولة الحفصيين.
وللتعرف على الحالة السياسية فى زمن أبى الحسن الشاذلي، لابد من ذكر الخلفاء والسلاطين الذين حكموا الأقطار الإسلامية التى تنقل بينها الإمام أبو الحسن، وكيف كانت الحالة السياسية والعسكرية فى هذه الأقطار.
أ- ذكر الخلفاء والسلاطين بالمغرب فى زمن الإمام الشاذلى والحالة السياسية بها: ولد أبو الحسن الشاذلى سنة 593 هـ فى زمن دولة الموحدين الممتدة فى بلاد المغرب والأندلس، والتى قامت على يد ابن تومرت([1])فى أوساط القرن السادس الهجرى على أنقاض دولة المرابطين. وكان الخليفة فى بلاد المغرب زمن ولادته هو أبو يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن أبى محمد عبد المؤمن بن علي، القيسى الكومي([2])، المعروف بالمنصور صاحب الفتوح المظفرة فى الأندلس، والذى اشتهر بإكرامه للفقهاء، والصالحين، وأهل الفضل، حيث أجرى على أكثرهم الإنفاق من بيت المال([3]).
وقد كان الخليفة أبو يوسف يعقوب يقوم بهذا كله فى حق الفقهاء والصالحين تعويضا لما نالهم فى زمن أبيه الخليفة أبى يعقوب يوسف الذى كان يضطهد العلماء والفلاسفة ورجال الفكر، وأصابتهم فى عهده محن شديدة فاتهم ابن رشد فى عهده بالزندقة وحوكم سنة 591 هـ، وكذلك اضطهد الصوفى الكبير أبو مدين، وأرسل الخليفة يستدعيه لمحاكمته، فأتى مكبلا بالحديد حتى إذا وصل إلى تلمسان مرض ومات عام 594 هـ.
إلا أن عصر الخليفة أبى يوسف يعقوب اتسم بالثورات الداخلية والحروب الخارجية، فقد واجه فى بداية حكمه ثورات ابن غانية الذى خرج عن طاعته واحتل بجاية سنة 581هـ، وامتد ملكه إلى الجزائر ومليانة، ومازونة والقلعة، وقد واجه الخليفة أبو يوسف حتى تمكن من التغلب عليه سنة 584هـ.
كما واجه الخليفة العدو التقليدى من النصارى الإسبان، ودارت بينهم معركة عنيفة عند قلعة الأرك سنة 591 هـ، انتهت بنصر للخليفة وهزيمة للنصارى الإسبان، واستولى المسلمون على قلعة الأرك ورباح المنيعتين([4]).
وقد مات الخليفة أبو يوسف يعقوب سنة 595 هـ، وكان عُمر أبى الحسن الشاذلى وقتها عامين، وجددت البيعة لابن الخليفة أبى عبد الله محمد الناصر فى نفس العام الذى مات فيه والده، والذى بويع على الخلافة فى حياته والده قبل ذلك ([5]).
وبعدما استتب الأمر واستقر الحكم أراد الخليفة أبو عبد الله محمد الناصر القضاء على «ابن غانية» نهائيا، الذى أزعج ملك أبيه، فواجهه وقضى عليه سنة 602هـ([6]). إلا أن الأمر مع العدو التقليدى الخارجى -وهم نصارى الإسبان- كان على خلاف ذلك، حيث أدت الهزيمة التى ألحقها بهم والده إلى الثأر والانتقام، فكثرت تحرشاتهم حتى اضطر السلطان محمد الناصر لمواجهتهم، فكانت موقعة حسن العقاب فى سنة 619 هـ، والتى انتهت بهزيمة المسلمين، بعد استشهاد أعداد كبيرة منهم([7]).
ب- ذكر حكام تونس فى زمن أبى الحسن الشاذلى:
دخل الإمام أبو الحسن الشاذلى تونس سنة 620 هـ وعمره حينئذ سبعة وعشرين عاما، وكانت تونس فى ذلك الحين تحت حكم أبى زكريا يحيى عبد الواحد الحفصى واليا لدولة الموحدين، ثم استقل وأسس دولة الحفصيين سنة 627 هـ ومكث الإمام أبى الحسن الشاذلى بتونس حتى سنة 642هـ.
ولعل الهزيمة التى لحقت بدولة الموحدين سنة 619 هـ أضعفت دولة الموحدين فى بلاد المغرب، وهذا ما شجع أبا زكريا يحيى عبد الواحد إلى إعلان استقلاله التام بتونس عن حكومة الموحدين المركزية سنة 627هـ، وكانت هذه بداية الدولة الحفصية كدولة مستقلة عن دولة الموحدين، التى تمكنت فى زمن قصير من ضم القطر الجزائري، وامتدت إلى القطر المغربى فضمت سلجماسة ومكناسة وسبتة وطنجة([8]).
وفى بداية العهد الحفصى حدث احتلال النورمان لعديد من المدن الساحلية، وتشتت الحكم المركزى الذى كان بالقيروان وتوزعه إلى مدن الطوائف حيث انتصب أمراء عديدون من جراء الغزوة الهلالية لإفريقيا.
وبعد وفاة أبى زكريا الحفصى خلفه ابنه محمد المستنصر بالله سنة 667 هـ الذى اغتر بقوة دولته، وأعلن أنه خليفة المسلمين، ودعا الناس لمبايعته، وممن بايعه حاكم مكة «ابن نمي» وكتب نص هذه البيعة الفيلسوف الصوفى ابن سبعين([9]).
ولعل قوة الدولة الحفصية كانت على حساب دولة الموحدين التى سقطت نهائيا سنة 668هـ وانتهت بذلك أكبر دولة عرفت فى بلاد المغرب العربي. كما أن دولة الحفصيين لم يكتب لها الاستمرار كذلك.
ج- ذكر السلاطين فى مصر فى زمن أبى الحسن الشاذلى:
وأما الدولة الأيوبية فمنذ وفاة السلطان صلاح الدين تقاسمها بنوه وأخوته، وأصبح بين أقسامها جميعا تنافس كثير، والصليبيون يضغطون عليهم من مختلف الأطراف والجهات كلما أحسوا بضعف أو سنحت لهم الفرصة.
فقد انقسمت الدولة الأيوبية بين مصر والشام، فكانت مصر تحت حكم الملك العزيز بن صلاح الدين الأيوبى بمصر الذى تولى حكم مصر 589 هـ حتى 595 هـ. والشام تحت حكم الملك العادل أخى صلاح الدين، فلما مات الملك العزيز بن صلاح الدين الأيوبى أصبح الملك العادل أخو صلاح الدين سلطان مصر والشام جميعا سنة 595 هـ، وكان لينا مع الصليبيين مما جرأهم على البلاد وشنوا حملة على مصر سنة 616هـ وسقطت دمياط بأيدى الصليبيين وتم جلائهم عنها سنة 618هـ([10]).
ومن أشهر الحملات الصليبية التى تصدت إليها الدولة الأيوبية بعد عهد صلاح الدين الأيوبي، تلك الحملة التى قادها «لويس التاسع» ملك فرنسا، وكانت مصر تحت حكم الملك الصالح نجم الدين أيوب الذى حكم مصر من سنة 636 هـ - 647هـ، واستمرت هذه الحملة محققة الانتصار حتى وصلت إلى دمياط سنة 647 هـ -وهو العام الذى مات فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتولى «توران شاه»- بدون أدنى مقاومة، وبدأت أحداث المعركة تختلف بمجرد دخول الصليبيين المنصورة حيث دارت بين الجيش الإسلامى المصرى معركة حاسمة مع الصليبيين، وقد خاض الإمام أبو الحسن الشاذلى تلك الموقعة العظيمة وشارك فيها رضى الله عنه، فانهزم الصليبيون فى المنصورة واستسلم باقى الجيش، وتم أسرهم، وكان الملك «لويس التاسع» ممن أُسر مع عشرين ألف جندي، إلا أنه افتدى نفسه بخمسمائة ألف دينار([11]).
إلا أن الدولة الأيوبية انتهت سنة 648 هـ بعد عام تقريبا من تلك الموقعة التى انتصر فيها المسلمون بقيادة توران شاه ابن الملك الصالح، وكان سبب ذلك ما ظهر على توران شاه من خفة وطيش، وأمور خرج عليه بسببها مماليك أبيه، فقتلوه، وملكوا مكانه «عز الدين بن أيبك التركماني» الملقب بالملك المعز، فكان أول سلاطين المماليك([12]).
وبإيجاز يمكن أن نقول أن أبا الحسن الشاذلى دخل مصر سنة 642هـ وظل فيها أربعة عشر عاما؛ منها خمسة أعوام فى زمن الملك الصالح الأيوبى الذى توفى سنة 647هـ، وعامين ونصف تقريبا فى عهد الملك توران شاه ابن الملك الصالح الذى توفى سنة 648هـ، وستة أعوام ونصف فى عهد شجرة الدر والمعز أيبك حتى انتقل أبو الحسن الشاذلى إلى جوار ربه سنة 656هـ.
د- ذكر الخلافة العباسية فى بغداد فى زمن الإمام الشاذلى ووضعها السياسى:
وكان فى هذا الوقت الخليفة العباسى ببغداد هو الناصر محمد الذى تتبعه شكليا الدويلات الإسلامية المحيطة، وكانت الحالة السياسية متشابهة فى جميع الأقطار الإسلامية، فكانت تمتاز بعدم الاستقرار فى الداخل والخارج، فكانت الخلافة العباسية المترامية الأطراف التى تبدأ من حدود الصين وتنتهى إلى الشام ليس للخليفة العباسى فيها إلا السلطان الاسمي، أما السلطان الفعلى فموزع بين دويلات مستقلة استقلالا ذاتيا إذا استثنيا دولة الإسماعيلية ببلاد الجبل جنوبى بحر قزوين، تلك التى ترفض سلطان الخليفة العباسى الاسمى والفعلي، فدولة خوارزم شاه، ثم دول الأتابكة ثم السلاجقة.
ويضغط على هذه الدول جميعها المغول فيقوضون أركانها الواحدة بعد الأخرى حتى كانت النتيجة تقويض الإمبراطورية العباسية جميعها واحتلال بغداد سنة 656هـ.
ويشير ابن خلدون فى مقدمته إلى هذا التشرذم والانقسام بين الأقطار الإسلامية فى تلك الفترة، فيقول : «ومثل هذا وقع لبنى العباس، فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالى من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم، ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة، فلم يكن يعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم([13])، وملكوها وصار الخلائف فى حكمهم، ثم انقرض أمرهم، وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا فى حكمهم، ثم انقرض أمرهم، وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحو رسم الدولة.
وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، واستمرت لهم الدولة مقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقيا. وربما انتزى([14])بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها، والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم، حتى تأذن الله بانقراض الدولة وجاء الموحدون بقوة قوية من عصبية المصامدة، فمحوا آثارهم.
وكذا دولة بنى أمية بالأندلس، لما فسدت عصبيتها من العرب، استولى ملوك الطوائف على أمرها، واقتسموا خطتها، وتنافسوا بينهم، وتوزعوا ممالك الدولة وانتزى كل واحد منهم على ما كان فى ولايته وشمخ بأنفه. وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية، فتلقبوا بألقاب الملك، ولبسوا شارته، وأمنوا ممن ينقض ذلك عليهم أو يغيره؛ لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره، واستمر لهم ذلك كما قال ابن شرف :
مما يزهدنى فى أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صورة الأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالى والمصطنعين والطراء([15])على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناته وغيرهم، اقتداء بالدولة فى آخر أمرها فى الاستظهار بهم، حين ضعفت عصبية العرب، واستبد ابن أبى عامر على الدولة. فكان لهم دول عظيمة، واستبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس، وحظ كبير من الملك نسبة الدولة التى اقتسموها، ولم يزالوا فى سلطانهم ذلك حتى أجاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة، فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحو آثارهم، ولم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم»([16]).
وقد ألم بالعالم الإسلامى فى الفترة التى نشأ به الإمام أبو الحسن الشاذلى أزمات ومعارك كثيرة أثرت على المسلمين وجعلتهم أكثر اتجاها إلى الحياة الروحية، والرجوع إلى الله من هذه الأحداث : هزيمة الصليبيين فى دمياط بقيادة لويس التاسع عام 647هـ، وكذلك هجوم هولاكو على بغداد، وقتل الخليفة العباسى المستعصم آخر الخلفاء العباسيين عام 656هـ، وفرار ولده المستنصر إلى مصر ونودى به خليفة للمسلمين، وهزيمة التتار فى موقعه عين جالوت عام 658هـ على يد سيف الدين قطز.
كان هذا العرض الموجز محاولة لتصور الحياة السياسية فى البلدان التى ولد الإمام أبو الحسن الشاذلى فيها ونشأ بها، وانتقل فيها وانتقل إلى رحمة الله فيها.
(1) هو أبو عبد الله محمد المغربى السوسي، مؤسس الدولة الموحدية، توفى سنة 524 هـ، راجع : ابن خلكان ، وفيات الأعيان، 5/45 : 55.
(2) ولد سنة 554 هـ، وبويع بالخلافة بعد وفاة أبيه سنة 580هـ، توفى رحمه الله سنة 595 راجع ترجمتهفى : ابن خلكان ، وفيات الأعيان، 7/3 : 15.
(3) أحمد السلاوى الناصري، الاستقصاء فى تاريخ المغرب الأقصى، 1/164.
(4) أحمد السلاوى الناصري، الاستقصاء فى تاريخ المغرب الأقصى، 1/175 : 180.
(5) ابن العماد ، شذرات الذهب، 5/ص43، 44.
(6) أحمد السلاوى الناصري، الاستقصاء فى تاريخ المغرب الأقصى، 1/165.
(7) أحمد السلاوى الناصري، الاستقصاء فى تاريخ المغرب الأقصى، 1/193.
(8) حسن حسنى عبد الوهاب ، خلاصة تاريخ تونس، ص 110، 111.
(9) ابن خلدون ، العبر وديوان المبتدأ والخبر، 6/435.
(10) راجع : د. سعيد عاشور، مصر والشام فى عصر الأيوبيين والمماليك، من ص 9 – 89.
(11) راجع مرآة الجنان، وعبرة اليقظان، لليافعى 4/116.
(12) راجع مرآة الجنان، وعبرة اليقظان، لليافعى 4/117، 118.
(13) انتزى : وثب.
(14) راجع : على سالم عمار، أبو الحسن الشاذلى عصره-تاريخه-علومه-تصوفه، 1/36 : 38 ، ط دار رسائل الحبيب الإسلامية الطبعة الأولى.
(15) الطراء : هم من طرأوا على المكان أى جاءوا من أماكن أخرى.
(16) ابن خلدون، المقدمة ، تحقيق د. حامد أحمد الطاهر ص 202، 203 ط1 2004 دار الفجر للتراث.