عصر النشأة والحالة الاجتماعية فيه
يعنى مفهوم الحالة الاجتماعية النظر فى الظواهر السائدة فى المجتمع بصورة كلية، أو فى طبقة من طبقاته، والعلاقة الشائعة بين أفراد المجتمع، أو بين فئات المجتمع المختلفة، وكذا الحركات التى تنشأ فيه، ولا سيما إذا كانت تهدف إلى التأثير فيه.
ولتصور الحالة الاجتماعية التى نشأ فيها الإمام أبو الحسن الشاذلى لابد أن نركز على مجتمعين أساسيين مجتمع بلاد المغرب الذى ولد فيه ونشأ فيه بين المغرب وتونس، ومجتمع مصر الذى رحل إليها وأسس طريقته فيها وانتقل إلى جوار ربه فيها.
أ- الحالة الاجتماعية فى بلاد المغرب:
تميز المجتمع فى بلاد المغرب -فى هذا الزمن- بكثرة القبائل والعصبية فيها مما يعاند استقرار الدولة موحدة الأقطار، وللعلامة ابن خلدون كلام نافع فى هذا المعنى ننقله على طوله حيث قال : «والسبب فى ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأى منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها فى كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن فى نفسها منعة وقوة. وانظر إلى ما وقع من ذلك بإفريقية والمغرب منذ أول الإسلام ولهذا العهد، فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغن فيهم الغلب الأول -الذى كان لابن أبى سرح عليهم وعلى الفرنجة- شيئا. وعادوا بعد ذلك الثورة والردة مرة بعد أخرى وعظم الإثخان من المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة.
قال ابن أبى زيد : «ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتى عشرة مرة، ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فيما بعد». وهذا معنى ما ينقل عن عمر رضى الله عنه إن إفريقية مفرقة لقلوب أهلها، إشارة إلى ما فيها من كثرة العصبات والقبائل (الحاملة) لهم على عدم الإذعان والانقياد. ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، إنما كانت حاميتها من فارس والروم والكافة دهماء أهل مدن وأمصار، ... » .
إلى أن قال : «وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتفاض، ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن فى مصر والشام لهذا العهد، إذ هى خلو من القبائل والعصبيات، كان لم يكن الشام معدنا لهم كما قلناه. فملك مصر فى غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب، إنما هو سلطان ورعية، ودولتها قائمة بملوك الترك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا، بعد واحد، ... والخلافة مسماة للعباسى من أعقاب الخلفاء ببغداد.
وكذا شأن الأندلس لهذا العهد، فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية، ولا كانت لها كثرة إنما كانوا أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا من ذلك القل. وذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منه، وملكهم البربر من لمتونة والموحدين، سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم، فأشربت القلوب بغضاءهم ونكراءهم، وأمكن الموحدون السادة فى آخر الدولة كثيرا من الحصون للطاغية([1])، فى سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملك الحضرة مراكش، فاجتمع من كان بقى بها من أهل العصبية القديمة، معادن من بيوت العرب، تجافى بهم المنبت عن الحضارة والأمصار بعض الشيء، ورسخوا فى الجندية، مثل ابن هود وابن الأحمر، وابن مرذنيش وأمثالهم، فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق، وحمل الناس على الخروج على الموحدين، فنبذوا إليهم العهد، وأخرجوهم واستقل ابن هود بالأمر بالأندلس، ثم سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن هود فى دعوته، فدعا هو لابن أبى حفص صاحب إفريقية من الموحدين، وقام بالأمر وتناوله بعصابة قليلة من قرابته كانوا يسمونهم الرؤساء، ولم يحتج لأكثر منها لقلة العصائب بالأندلس، وأنها سلطان ورعية. ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناته...».
إلى أن قال : فإن وطن الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه يغنى عن كثرة العصبية فى التغلب عليهم. والله غنى عن العالمين»([2]).
ويمكن أن نقول إن المجتمع المغربى فى عصر الإمام أبى الحسن الشاذلى كان يتألف من عناصر مختلفة أهمها العنصر العربي، والعنصر البربري، إلى عناصر أخرى مثل الأكراد والجراكسة، إذ تشير المصادر التاريخية أن كثيرا من هؤلاء الجند الذين بعث بهم «صلاح الدين الأيوبي» لقتال «يعقوب المنصور الموحدي» قد استوطنوا طرابلس، والجنوب التونسي([3]).
ب- الحالة الاجتماعية فى مصر:
تسببت الحروب التى كانت بين المسلمين ومن جاء للاعتداء عليهم من الغرب (الإفرنج) ومن الشرق (كالتتر) إلى اختلاط الأجناس البشرية فى مصر، ولم تقتصر على العرب والقبط، حيث انضم إليها الترك، والأرمن، والإفرنج، والتتر.
يقول المقريزى : «فلما كثرت وقائع التتر فى بلاد المشرق والشمال، وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم، وباعوهم، تنقلوا فى الأقطار، واشترى الملك الصالح «نجم الدين أيوب» جماعة منهم سماهم البحرية، منهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز بن أيبك»([4]).
والمجتمع المصرى كان مجتمعا طبقيا، يتكون من عدة طبقات اجتماعية، يوضحها المقريزى حيث يقول : «فالقسم الأول : أهل الدولة، والقسم الثانى : أهل اليسار من التجار، وأولي النعمة من ذوى الرفاهية، والقسم الثالث : الباعة، وهم متوسطو الحال من التجار، يلحق بهم أصحاب المعايش وهم السوقة، والقسم الرابع : أهل الفلح : وهم أرباب الزراعة والحرث وسكان القرى والريف، والقسم الخامس : الفقراء، وهم جل الفقهاء، وطلاب العلم، والقسم السادس : أرباب الصنائع، والأجراء أصحاب المهنة. والقسم السابع : ذو الخصاصة، والمسكنة، وهم السؤّال الذين يتكففون الناس ويعيشون من ذلك»([5]).
ويمكن أن نجمل تلك الطبقات فيما ذكره عبد اللطيف حمزة، حيث ذكر أن طبقات المجتمع فى عهد الأيوبيين تتدرج هرميا على الشكل التالى : فالسلطان على رأس الهرم، تليه حاشيته، ثم يلى ذلك ديوان الإنشاء وديوان الجيش والبحرية، ثم تليهم طبقة الموظفين فى ديوان الإنشاء، ثم طبقة القضاة ورجال الحسبة والشرطة، وقد تعلو هذه الطبقة على السابقة عليهم أحيانا وقد تتساوى معهم، ثم يليهم التجار، ثم طلبة العلم وأخيرا العامة([6]).
وبشأن طبقة السلاطين والأمراء فكانوا يميلون إلى المظاهر والتنعم، وقد دخل الإمام أبو الحسن الشاذلى مصر فى زمن الملك الصالح الأيوبي، وكان مولعا بالأبنية الفاخرة، وكان يباشرها بنفسه، يقول المقريزى : «وعمر بمصر ما لم يعمره أحد من ملوك مصر، فأنشأ قلعة الروضة تجاه مدينة فسطاط بمصر، وأنفق فيها أموالا جمة، وأسكن بهذه القلعة ألف مملوك من الترك، وقيل ثمانمائة –سماهم البحرية- فجاءت هذه القلعة من أجل مبانى السلطان، وبنى على النيل قصورا بلغت الغاية من الحسن، وبنى قصرا فيما بين القاهرة ومصر سماه الكبش على الجبل بجوار جامع ابن طولون، وبنى قصرا بالقرب من العلاقمة بأرض السائح وجعل له مدينة سماها الصالحية»([7]).
إلا أن الدولة الأيوبية فى مصر لم تكن كالدولة الفاطمية فى البذخ والترف والمبالغة فى إحياء الحفلات، وإنما غلبت عليها عقيدة الجهاد، مما لم يترك مجالا للتوسع فى الاحتفالات والترف. فبينما نقرأ عن الخلفاء الفاطميين أن كلا منهم مات وترك فى خزائنه أكوام المال وعديد التحف، إلا أنه يروى عن صلاح الدين الأيوبى أنه مات ولم يترك فى خزائنه إلا سبعة وأربعين درهما من الفضة وجراما من الذهب. لقد استنفذ الجهاد كل دينار فى خزائنه([8]).
وقد اقتصد الأيوبيون فى إقامة الحفلات، وألغوا ما يتعلق منها بأعياد الشيعة، وحولوا البعض الآخر بما يتفق مع تحول البلاد إلى المذهب السني. مثلا يوم العاشر من محرم وهو يوم عاشوراء كان يوم حزن تغلق فيه الأسواق أما عند الأيوبيين فكان يوم فرح يوسعون فيه على عيالهم، ويصنعون الحلوى ويطبخون الحبوب([9]).
وبشأن الفقهاء والعلماء، فقد كانت طبقتهم على قسمين؛ الأول : من يتصل بالأمراء والسلاطين، أو يعملون فى مناصب الدولة، وكانوا من الميسورين بفضل ما يغدقه عليهم الأمراء والسلاطين، فكان قاضى القضاة «تاج الدين ابن الأعز» بيده سبعة عشر منصبا، يقول ابن كثير : «وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها القضاء والخطابة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة وتداريس الكبار، وصادره بنحو أربعين ألف، غير مراكبه وأشياء كثيرة»([10]).
الثانى : هم الفقراء وهم من بَعُدَ من العلماء والفقهاء عن القصور فكانوا فقراء غالبا لا يجدون ما يمكن من العيش الكفاف عند أكثرهم، وهذا مما جعل المقريزى يذكرهم فى طبقة الفقراء، حيث كان أغلب الفقهاء والعلماء ينتمون لهذا القسم، فكان من العلماء من كان يتكفف الناس، وقد جاء فى رسالة بعث فيها جمال الدين محمد بن مالك إلى السلطان يستدر بها عطفه ما نصه : «رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك يقبل الأرض وينهى إلى السلطان أيد الله جنوده، وأيد سعوده، أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو، واللغة وفنون الأدب، وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين -خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه- على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين بصدقة تكفيه هم عياله وتغنيه عن التسبب فى صلاح حاله»([11]).
وكانت الحالة المعيشية العامة فى مصر جيدة، وبالأخص أهالى الإسكندرية، فقد كانوا فى نهاية من الترفية واتساع الأحوال([12]). وكانت الرفاهية تعم البلاد، يقول المقريزى :«وكانت البلاد فى أيامه مطمئنة، والطرق سابلة»([13]).
ومع ذلك فقد تعرضت البلاد لمجاعات خطيرة ومفجعة. مثل تلك المجاعة الكبرى التى حصلت أيام الملك العادل حوالى سنة 600 هـ، ومما شاع أيضا فى تلك المجاعة نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحومهم. ومن عظم تلك المجاعة أن الإمام قد صلى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركة واحد انتقلت فى مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا([14]).
وتسببت تلك المجاعات فى كثرة الاستغلال، وبرز الاحتكار، ولقد ساعد هذا إلى لجوء كثير من العوام إلى التصوف والطرق، يقول الإمام القسطلانى : «ورأيت ما ظهر فى زماننا هذا من اعتناء العوام بأهل الادعاء والاتباع للأهواء، لفقد نور العرفان المميز بين مراتب الأصفياء... ظنوا أن الفقر والتصوف أذكار مشهورة، ومنامات مستورة، وخيالات مذكورة جعلوا التلبس بالمعاشرة عن المبادرة للطاعة مكسلة، وتلك حالة لمن تأملها مشكلة، وفتنة لمن تعقلها مذهلة»([15]).
وتميزت مصر وما زالت تتميز بالعناية بالأغراب الذين يفدون إليها وخاصة فى الإسكندرية، وقد أفاض ابن جبير فى وصف ما رتبه صلاح الدين الأيوبى فى ذلك([16]).
ولعل ما ذكر يصف الحالة الاجتماعية التى سادت بلاد المغرب ومصر فى زمن الإمام أبى الحسن الشاذلي.
(1) والطاغية اصطلاح كان يطلقه العرب فى بلاد المغرب العربى ويقصدون به ملوك الفرنجة الذين كانوا فى الأندلس. راجع تحقيق مقدمة ابن خلدون للدكتور حامد أحمد الطاهر فى هامش ص 214 من المقدمة ط دار الفجر للتراث
(2) ابن خلدون، المقدمة ، ص 213 : 215.
(3) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسى والدينى والثقافى والاجتماعي، 4/629، الطبعة الأولى بيروت دار الأندلس سنة 1967. وانظر تاريخ ابن خلدون 6/395.
(4) تقى الدين المقريزي، الخطط والآثار، 2/221، طبعة مؤسسة الحلبى وشركاه [د،ت] القاهرة.
(5) عاطف جودة نصر ، عمر بن الفارض، ص 53، 54 الطبعة الأولى دار الأندلس 1982، بيروت.
(6) د. عبد اللطيف حمزة ، الحركة الفكرية فى مصر فى العصريين الأيوبى والمملوكى الأول، ص 66، الهيئة المصرية علامة للكتاب، القاهرة، ط2 1999م.
(7) تقى الدين المقريزى ، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1 ، ق 2، ص 342.
(8) راجع : د. سعيد عاشور، مصر والشام فى عصر الأيوبيين والمماليك ، ص 143 : 145 ، دار النهضة بيروت ، د.ت.
(9) راجع : د. سعيد عاشور، مصر والشام فى عصر الأيوبيين والمماليك، ص 145 دار النهضة بيروت د.ت .
(10) ابن كثير ، البداية والنهاية، 1/189.
(11) السيوطي، حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة، ؟؟؟ ****** [نقلا عن : محمد أبو زهرة، ابن تيمية، ص 152، دار الفكر العربي، القاهرة.
(12) ابن جبير، الرحلة ، ص 145 .
(13) المقريزى ، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1 ق 2 ص 340 ، الطبعة الأولى دار الكتب المصرية 1934 .
(14) راجع : عبد اللطيف البغدادى ، الإفادة والاعتبار، ص 89 ، 90 ، تحقيق أحمد غسان سبانو، دار قتيبة، دمشق ط1 سنة 1983.
(15) قطب الدين القسطلاني ، اقتداء الغافل بالعاقل، ، نقلا عن : السيوطى ، تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية، ص 4-5 .
.
(16) راجع : د. سعيد عاشور، مصر والشام فى عصر الأيوبيين والمماليك ص 147 دار النهضة بيروت د.ت .