يؤثر الزمان والمكان والأحداث فى صفات الإنسان الخَلقية والخُلقية، ولأثر ذلك فى تكوين صفات عديدة فى الإنسان نتلمس فى هذا الفصل أحوال الزمان الذى عاش فيه الإمام أبو الحسن الشاذلى من الناحية السياسية، والناحية الدينية والعلمية، والناحية الاجتماعية، وذلك فى محاولة منا لإدراك تأثير تلك الأحداث فى شخصية ذلك الإمام العظيم الذى امتد أثره على تلاميذه ومريديه وأتباعه إلى يومنا هذا، وسيمتد بمشيئة الله إلى آخر الزمان.
وكل من انتسب إلى شيخ من مشايخ الطريقة، وأعلام الحقيقة؛ ينبغى له أن يعرف مبنى طريقة شيخه، ويعرف أذكار شيخه وأوراده وكراماته، ومناقبه ونسله وسلسلته ونسبته وصفته؛ لتزيد فيه رغبته، وتتأكد محبته، ولتتضح له طريقته؛ فيقتفي أثره فيها، ويستعمل ما وصل إليه من أذكاره وأوراده وأحزابه، أو ما تيسر له وقدر عليه؛ ليكون داخلًا معه، بقدر ما عرف منه وأخذ عنه، وإن من انتسب إلى أحد من أئمة الشريعة أو الطريقة، من غير معرفة كلامه فيها؛ فليس له من تلك النسبة إلا اسمها فقط، ومن هنا يمكن القول: بأن الشاذلى هو من انتسب إلى أبى الحسن الشاذلى وعرف مبنى طريقته وأذكاره وأوراده ومناقبه ... إلخ([1]).
ولقد كان الشاذلي هو الحلقات الأولى في هذا الطريق الذى نسب إليه، وأخذت هذه الحلقات تتسلسل متحدة لألاءة على مر الزمن، فكانت مدرسة بدأها في قوة قوية أبو الحسن، وتابعه وترسم خطاه على هدى وعلى بصيرة من تبعه، وكان على رأس التابعين أبو العباس المرسى، ثم تلاه ابن عطاء الله السكندرى ، وغيره من الأعلام الكبار الذين ازدانت بهم المدرسة الشاذلية([2]).
لقد شهدت تونس البدايات الأولى لنشأة الطريقة الشاذلية، حيث أقام الشاذلى سنوات بأمر شيخه ابن مشيش، بتونس أول ظهوره ، وتصدره لتربية المريدين ، وكان يتعبد بمغارة ما زالت معروفة عامرة بالسادة الشاذلية إلى يومنا هذا([3])، ثم شهدت مصر انطلاق هذه الطريقة بقوة وانتشارها، وبقية هى الموطن الأخير وبلد الوفاة لمؤسسيها الأول : الشيخ أبى الحسن الشاذلى، والشيخ أبى العباس المرسى ، والشيخ ابن عطاء الله السكندرى، والعديد من كبار تلاميذهم : كياقوت العرشى، ومكين الدين الأسمر، وداود بن باخلا ، ومحمد وفا ، وعلى وفا ، وغيرهم.
وعندما أعيد تنظيم الطرق الصوفية فى مصر، وأعلنت لائحة الطرق الصوفية ، وأخذت الطرق تنضم إلى هذا التنظيم الجديد، كان بحلول سنة 1906 م قد انضمت (33) طريقة إلى مشيخة الطرق الصوفية، منها (12) فرعا من فروع الطريقة الشاذلية، مما يعنى أن حوالى ثلث الطرق فى مصر كان للطريق الشاذلية وحدها، بينما تتقاسم الثلثان سائر الطرق الكبرى بمصر كالخلواتية ، والأحمدية، والقادرية، والبرهامية وغيرها ([4])، هذا بخلاف الفروع الشاذلية التى لم تنضم بصورة رسمية آنذاك للمشيخة الطرق الصوفية، والمطلع على واقع الطرق الصوفية بمصر يعرف أنها أكثر عددا وأتباعا ممن انضم بالفعل.
وفى القرن الثالث عشر ظهر محمد أبو المعالي الجوهري بوصفه رئيسًا أعلى للطرق الشاذلية في مصر، وكان والده محمد أبو الهادي قد أخذ العهد، ودخل إلى الطريقة الشاذلية بواسطة محمد العربي، كما أخذ العهد ودخل إلى الطريقة التهامية بواسطة جده أحمد، وقد لعب كل من أحمد وابنه محمد أدوارًا بارزة في مصر العثمانية، وشيدا لأنفسهما مركزًا مرموقًا؛ مما أدى إلى الاعتراف الرسمي بسلطتهما على معظم الطرق الشاذلية في مصر([5]).
ولقد كانت المدرسة الشاذلية - ما زالت - هى الطريقة الأوسع انتشارا فى المغرب الإسلامى ومصر، كما امتد انتشارها وانتشرت انتشارا واسعا فى المشرق الإسلامى ، وذلك لما "اشتملت طريقتُه على السُّلوك، والجذب، والمُجاهدة، والعناية، والأدب، والقرب، والرعاية، وتشيدت بالعلمين الظاهر والباطن من سائر أطرافها، وقرنت بصفات الكمال شريعةً وحقيقةً من جميع أكنافها. وقد نقل الأستاذ زرُّوق عن بعض المشايخ من أهل الورع أنَّه كان
يقول: للحالف أن يحلف ولا يستثني على أنَّ طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة"([6]).
والحديث عن نشأة الطريق الشاذلى يأتى فى عدة مداخل:
الشاذلية - مدخل عام - عصر النشأة والحالة الاجتماعية فيه
الشاذلية - مدخل عام - عصر النشأة والحالة السياسية فيه
الشاذلية - مدخل عام - عصر النشأة والحالة الصوفية والعلمية فيه
(1) أحمد بن محمد بن عياد الشافعي، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1381هـ/1961م، ص 3-4.
(2) د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، ص 176 .
(3) انظر بخصوص هذه المغارة ، وما تعمر به من نشاط صوفى شاذلى فى العصر الحالى، والتى تقع أعلى جبل الجلاز، وإلى جوارها ضريح الشيخ العارف ماضى بن سلطان ، خادم الشيخ أبى الحسن، الذى لازمه سنوات طويلة حتى وفاته ثم عاد إلى تونس: د/ أحمد الطويلي، مقدمة تحقيق "الدر الثمين فى التعريف بأبى الحسن الشاذلى وأصحابه الأربعين" لمحمد بن عثمان الحشايشي ، ص 19-31، وملاحق الكتاب أيضا ص 77-106.
(4) راجع بيان بأسمائها : فريد دى يونج ، تاريخ الطرق الصوفية فى مصر فى القرن التاسع عشر، ص 178 - 179 . وانظر للمزيد من المعلومات حول فروع الشاذلية ومؤسسيها : المصدر السابق نفسه ، ص 100 - 102 ، 106 - 110، 143 - 144، 175 - 176.
(5) المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 34.
(6) الكوهن ، طبقات الشاذلية الكبرى، ص 58 - 59.