نسخة تجريبيـــــــة
جدد حياتك (29): هداية ربي عند فقد المربي
بتاريخ: 16-05-2010
أرأيت لو أن الطريق قد انقطع بك.
في جوف الليل.
وأنت على سفر.
وقد نفد وقود سيارتك.
وقد انقطع مرور البشر من ذلك الطريق.
وقد انقطعت سبل الاتصالات، ووسائل المواصلات، من حولك.
ولم تعد هناك وسيلة معروفة تصل بها إلى البشر.
هنالك
تمتلئ نفسك بالشعور بالعجز.
وانتهاء قدرات البشر.
وينبعث في أعمق أعماق فؤادك شعور
قوي.
عظيم.
حار.
عميق.
يصعد من أعماقك إلى أعلى عليين.
حتى تنتهي بك خواطرك وقد سجدت أمام عظمة الربوبية.
وقد حصل عندك يقين قطعي مؤكد بأنه لا ملجأ من الله إلى إليه.
ففي هذه اللحظة الفارقة.
التي لا تمحى من الذاكرة.
تتضاءل أمام نظرك وخاطرك وبصيرتك كل قدرات البشر.
ويحصل لك اليقين والتضرع والاستمداد من الله تعالى وحده.
أرأيت لو أنك في موسم الحج الجليل المهيب.
وقد ازدحمت ملايين البشر من مشارق الأرض ومغاربها.
ثم انفصلت أنت عن رفاقك.
ومعهم زادك وأوراقك وكل متعلقاتك.
وبقيت أنت وحيداً مجرداً من كل حول وقدرة.
وقد اشتبهت عليك معالم الطرق والأماكن.
وتقاذفتك أمواج البشر المتلاطمة.
أرأيت إلى مقدار ما يملأ خاطرك ساعتها من الشعور برقة الحال.
وشدة الافتقار.
وعدم الاعتماد على قدرات البشر مهما عظمت.
بالله عليك.
ألا يمتلئ خاطرك في مثل هذه اللحظات بالشعور بالتجرد والفاقة والافتقار.
ألا تتصاغر عندك الأوهام.
ألا تنجلي عنك حينئذ كل أوهام القدرة، والقوة، والطغيان.
ألا تشعر بحق بأنك قد أتيت ربك فرداً.
ألا تشعر بأنه قد انقطع الرجاء من الخلق أجمعين.
وأن فؤادك قد خضع وسجد ولجأ واعتصم وارتمى بين يدي المولى جل شأنه.
ففي مثل هذه اللحظات الفارقة.
التي لا ينساها العبد أبداً
يحصل في القلب أثر عجيب.
ألا وهو التجرد من كل الأوهام.
والخروج من كل الدعاوى والتخيلات.
حيث تمتلئ النفس فجأة بشعور خارق حار شديد العمق.
يخترق بالعبد كل معاني الوهن، والترهل، والتفريط، والكسل، والتحايل، والرخاوة.
ويخترق بالعبد كل المعاني والعلل النفسية الرديئة.
التي تجعله يضيع العمر في تتبع أحوال الخلق والانشغال بهم.
ويخترق بالعبد أحوال الخلق أجمعين.
ويزول الكون كله من الخاطر.
ولا يبقى للعبد في مثل تلك اللحظات إلا الله جل جلاله.
وهذا الشعور الخارق الجارف.
الذي يخترق بك في أمثال تلك اللحظات كل الأوهام والعلل والأمراض الباطنية.
لا يزال يرتقي بك.
حتى يحط رحالك بباب الله تعالى.
ويطوي لك المسافات.
ويخترق بك الحجب.
ويقرّب لك البعيد.
ويجعل لهذا الباطن الحار صوتاً مسموعاً ومدوياً في الملأ الأعلى.
وبينما اللسان في سكوت وسكون مطبق.
إذا بالفؤاد صاخب، هادر، جارف.
يجرف كل العيوب والتشوهات النفسية الباطنة.
التي تحجب عن الله تعالى.
ففي مثل تلك اللحظات.
تنصهر العيوب.
وتذوب الشوائب.
وتفيق النفس من الأوهام.
وتسقط القيود والأغلال عن القلب.
وتنجلي الحجب عن البصيرة.
وينطق قلبك الذي طالما سكت.
وتشتعل النفوس بنار التحرق والضراعة.
فيزول عنها الصدأ.
وتصير ذهباً مصفّى.
ولا يتوقف وصولك إلى الله عندها على سير وآداب ورسوم وأوراد وأذكار.
وتصير فجأة -بعد ابتعادك وخوضك في الآثام- في غاية القرب.
وتنزل في حال أهل الرعاية والعناية من الله.
وهذه هي:
هداية ربي
عند
فقد المربي.
وهذا المعنى من العجائب.
وهو من أسرار السير إلى الله.
حيث لا تزال تتسع سبل السير إلى الله.
على القانون المعتاد.
من معاناة التربية وتعديل الطباع بالتدريج.
حتى إذا ما فقدت الوسائل المعتادة.
وظن الناس أن الأبواب قد ضاقت.
إذا بالمولى جل شأنه يفتحها على مصراعيها.
وبدون أدنى شرط ولا قيد.
فيأتي الفرج من حيث ظن الناس انعدام الأمل.
وكلما ضاق الأمر اتسع.
فليس لك عند فقد المربي إلا أن تلقي بنفسك على باب الحق سبحانه.
مع كامل التجرد والخضوع.
والانخلاع من كل حول وطول وقوة.
والخروج من كل الأعراض والأغراض.
حتى يتصاعد منك اليقين والرجاء.
الذي يجرف كل شيء يحول بينك وبين ربك.
فلا يزال بك حتى يرفعك إلى أعلى عليين.
وفي الوقت الذي تظن فيه أن الصعوبات والعوائق قد استحكمت.
وأن المنافذ قد غلقت.
إذا بالمولى جل شأنه يفتح لك باباً أقرب مما تصور.
وكأنه سبحانه يدعوك إلى أن تترك التدبير كله.
وأن تخطو إليه خطوة واحدة.
تكون بها عنده.
وكم هو صعب هذا المعنى رغم وضوحه.
لأن من يريد السير إلى الله يرتقب أن يسير لمدة سنوات.
على نمط من التهذيب، والترقي، والمجاهدة، والتخلق.
مع الاسترشاد بأحوال الأكابر من أهل الصدق مع الله.
فكلما ضاقت عليه الطريق لجأ إلى التفتيش والبحث والتحسب.
حتى يرهق نفسه ويظن أن السير إلى الله كله عسر ومشقة وعنت.
فكأن الله تعالى يناديه:
أنا أقرب إليك.
وكلما تعقدت الأمور.
واشتبهت عليك المسالك.
وارتفعت أمامك الأسوار.
دع كل ذلك.
وخذ خطوة جانبية إليّ.
تفضي بك إليّ
فسبحان القريب المجيب.
وقد قال أهل الله قديما:
(الطريق إلى الله.
صعوبته
في
سهولته).
فهداية ربي
عند فقد المربي
ترجع إلى أصول معدودة.
منها:
أن يفتقر العبد إلى الله
افتقاراً
يتجرد معه من كل الأهواء والحجب النفسية
ويلقي بنفسه على باب الله تعالى.
ثم إن كل هذه المعاني تجري في باطن العبد في خفاء
ولا يشعر بها الناس من حوله.
فيظل ظاهره بين الناس رفيعاً مهيباً.
ويظل يسعى في الأرض بالعمران.
ويصنع الحضارة.
ويبني النهضة.
وقلبه يمتلئ في كل ذلك بالافتقار إلى الله.
وشدة الانكسار بين يديه.
التقييم الحالي
بناء على
28
آراء
أضف تعليق