نسخة تجريبيـــــــة
جدد حياتك (28): حتى لا تتحير
بتاريخ: 06-05-2010
لتزكية النفس ثلاث خطوات:
"التخلي"، و"التحلي"، و"التجلي".
أما "التخلي" و"التحلي" فهما من فعل العبد.
وهما عبارة عن مجاهدات.
ورياضات نفسية باطنية.
وتعب، ومنازعة.
وترويض، وتهذيب من الإنسان لنفسه.
ثم تطعيمها بالمعاني العلوية الشريفة الراقية.
والمواظبة على إروائها بالذكر والشكر، وصدق التوجه والسير إلى الله.
وأما التجلي فهو نتيجة.
وهو من فعل الله تعالى، حينما يرى من عبده صدق المجاهدة.
فيقابل الله تعالى ذلك بفتح أبواب التوفيق.
ومد أسباب المعونة.
واصطفاء ذلك الباطن لمناجاته وشرف معرفته.
فهو شأن إلهي، وتصرُّف رباني، يفعله الله تعالى بتلك النفوس التي قامت بالتخلي والتحلي.
بحيث يفيض الله على تلك النفس أنوار معرفته.
وينظر إليها نظر الرحمة واللطف.
ويجعل الله تعالى تلك النفس كرياض الجنان.
اتساعاً، وطهراً، وإقبالاً على الله.
وتزكية، وسمواً، ورقياً، وعرفاناً، نوراً، وبصيرة.
أما "التخلي" فإنه أشق تلك المراحل.
وأصعبها، وأشدها.
وأكثرها ثقلاً على النفس.
لأنه مخالفة، وجراحة، واستئصال للتشوهات النفسية.
وتنقية من الشوائب التي صارت النفس تألفها وتعتادها وتعيش بها سنوات طويلة.
ألا تتذكر السنوات الأولى من تربية الطفل.
ألا تتذكر الصبر الشديد، وكظم الغيظ.
حتى يتم ترويض الطفل على منظومة الآداب التي لا بد منها.
وحتى يخرج من طور الجهل والاندفاع واختراق عادات البشر الراقية الآدمية.
وحتى يفهم بالتدريج أنك عندما تمنعه مما يرغب فيه ويتعلق به..
فإنك إنما تحميه من نفسه.
وأنك أشد شفقة عليه من نفسه.
لأنه يتعلق بما قد يسبب له الموت والاحتراق والهلاك.
وأنت تمنعه من ذلك بكل ما تملك.
فيخيل إليه أنك تمنعه مما يحب.
فتأمّل وتذكّر مقدار ما يقع في تلك السنوات من مخالفة لرغباته، وأخذه ببعض الشدة.
مع ما يقع منه من بكاء وممانعة ومنازعة.
فكذلك النفس في مراحل التخلي.
و"التخلي" أيضا يتحقق بأن تغوص بداخل النفس.
إلى أعمق أعماقها البعيدة.
حتى تصل إلى قاعها.
وحتى تقف عند تلك الآلات.
التي تصنع المعاني التي تُسَيِّرُ النفس.
فهناك في أعماق نفسك تكمن تلك المصانع، التي تنتج الشحناء، والبغضاء.
والعلل، والوهن، والتراخي، والأهواء.
والتشبث، والتطفل، والنهم إلى ملاحقة أخبار الناس، وأحداث الحياة اليومية الضيقة.
وتنتج العيوب الخطيرة التي تنحرف بالنفس انحرافًا بعيداً.
في غاية الخفاء والغموض، بحيث لا تشعر النفس بوجوده لشدة خفائه.
مما ينتج الظلم، والمكر، والخداع، والتحايل، والحرص الشديد الزائد، والطمع، والشَّرَه.
إلى آخر تلك المعاني الظلمانية.
التي تملأ الباطن بالكدر.
وتوقظ أسوأ ما في النفس من عادات وأخلاق وردود أفعال.
فلا بد من أن تغوص في تلك الأعماق، لتُجري جراحة دقيقة.
تستأصل بها من داخل النفس تلك التشوهات، وذلك الاعوجاج الذي تراكم وتجمّد.
ولتنظف باطنك من تلك النجاسات المعنوية الرديئة.
ولتكسر تلك الأحجار المشوّهة، التي تراكمت على الباطن فأظلم وتكدّر.
وكل ذلك حتى لا يكون التغيير شكلياً.
فإن كثيراً من الناس يغوصون على عيوبهم.
ويؤمنون بوجوب تغيير تلك العيوب واستئصالها.
ويتكلمون كلاماً نظرياً كثيراً.
في أنهم يعانون من نفوسهم، ومن عيوبها، ومن منظومة أخلاقها الرديئة.
ويظل هذا مجردَ ألفاظٍ تُقال.
ويجري بها اللسان.
دون أن يمتد التغيير إلى مصانع النفس الداخلية.
فتبقى الآلات التي تصنع أفعال الإنسان وردود أفعاله على حالها.
ويفاجأ الإنسان عند أول موقف صاخب ثائر.
تنطلق فيه النفس على سجيتها.
دون تصنع أو افتعال.
يفاجأ بأن العيوب ما زالت على حالها.
وبأن النفس ما زالت ممتلئة بعللها وعيوبها.
وانتبهوا إلى أنه لا يمكن للإنسان أن يصنع نفسه.
ولا أن يقوم بإجراءات التخلي والاستئصال وحده.
ولا أن يجري تلك الجراحة النفسية الدقيقة.
التي تزيل عيوبها المتراكمة، وعاداتها الرديئة.
بل لا بد من المربي.
الذي هو الطبيب الخبير بتلك المسالك.
البصير بعلل النفوس.
صاحب منهج نوراني في تزكيتها.
قد عبّر على تلك المجاهدات من قبل.
وقد عرف الطريق ومزالقه.
وعرف ما ينبغي فعله في كل مرحلة.
وفوق كل ذلك أن تكون آفاقه قد اتسعت.
فعرف مناهج الأكابر في بناء النفوس.
وتغلغل وغاص القرآن الكريم.
ورأى منهجه في بناء النفس البشرية.
وكيفية ربطها بالمنهج الإلهي.
وكيفية نزع حجب الجهل والاندفاع والضيق والحمق عنها.
فذلك الأستاذ المربي هو طوق النجاة.
الذي يأخذ بيدك في طريق الله.
ويراقب معك أفعالك في المواقف المختلفة.
ويلفت نظرك في كل موقف إلى مواضع الخطأ والمخالفة فيه.
لا سيما وهو يقارن أفعالك ويعرضها على أخلاق الأكابر.
من الأئمة والنبيين والمرسلين.
ثم يغوص معك بداخل نفسك.
ويصحح معك المفاهيم التي تنتج توجّهك.
وتصنع رؤيتك.
وتحدد وتملي عليك ما سوف تقوم به في كل تصرف، وفي كل موقف.
ولا يصنع الرجال والأبطال إلا أمثال هذا المربي.
وبمثل هذه الطريقة صنع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام.
وكذلك صنع الأئمة في كل زمن أجيال العظماء من تلامذتهم.
وإلا فإن الوعظ العام، والتوجيه اللفظي، لا يصنع إنساناً.
ولا يغير طبعاً معوجّاً.
بل يظل فقط ثقافة.
يستعذب الإنسان الحديث عنها.
ويحفظ كلام الأكابر في ذلك.
بينما تظل آلات نفسه من داخل تجري وتعمل وفق المفاهيم التي تكون عليها.
فلا بد من المربي البصير.
الذي يراقب معك كيفية تنفيذك للقيم التي تحفظها.
ويكشف لك من كيفيات التنفيذ ما لم يكن يخطر لك على بال.
وقد انتبه الإمام الكبير المتقي الهندي -رحمه الله- إلى أن وجود مثل هذا المربي في أزماننا الأخيرة قد صار نادراً جداً.
بل في غاية الندرة.
وإن وُجِد فقد يصعب على الإنسان في ظروف زماننا هذا أن يلازمه تلك الملازمة.
التي تبني شخصية، وتورث حالاً.
نعم.
لاحظ الإمام المتقي الهندي ذلك كله.
وقدّر أن أبناء الزمان سوف يعانون معاناة كبيرة.
ولا يتوصلون إلى مثل ذلك المربي.
أو أنهم يُتركون بدون منهج تربوي حقيقي يصنع الشخصية.
بعيداً عن المواعظ والثقافة الأخلاقية الكلامية المحضة.
فيتم تشكيل شخصياتهم وفق أعراف الشارع، وقيم السوق، ومنظومة الأخلاق الدنيوية المحضة.
التي لا وجود فيها لقضية الآخرة.
لاحظ رحمه الله ذلك، فألف كتاباً في غاية الأهمية.
أتدرون ماذا سمّاه.
لقد سمّى كتابه باسم عجيب جداً.
سماه:
(هداية ربي
عند فقد المربي)
حاول فيه أن يسعف الإنسان بإجراءات يقوم بها.
إن لم يرزق بمثل ذلك المربي.
الذي يصنعه على بصيرة.
فما هو ذلك الإجراء الذي نصح به؟؟؟
أحدثك عن ذلك في لقاء قادم.
التقييم الحالي
بناء على
42
آراء
أضف تعليق