نسخة تجريبيـــــــة
جدد حياتك (23): ونهى النفس عن الهوى
بتاريخ: 31-03-2010
 
للقرآن الكريم حديث طويل عن النفس.
وعن عيوبها.
وعن أسباب انحرافها.
وعن الآثار الخطيرة الناتجة من تسلطها على بقية القوى المكونة للإنسان.
وعن صور تفاعل النفس مع العواصف الصاخبة التي تهب عليها.
من نحو: الأهواء، والميول، والتعلقات، والأعراض، والأغراض.
وطوفان الأمور الحسية التي تغرقها في المادية.
حتى تصير أخطر المنافذ التي تتسرب منها العلل إلى المملكة الإنسانية.
وعن اختلاف صور تفاعل النفوس مع تلك العواصف.
حتى برزت أنواع النفوس المختلفة.
من النفس الأمارة بالسوء، إلى النفس اللوامة، إلى النفس المطمئنة
بدرجاتها المتنوعة.
وللقرآن الكريم أيضا حديث طويل في المقابل.
عن مسالك علاج النفس.
وعن كيفية تهذيبها، وتطهيرها.
وعن مقاومة ميولها وأهوائها.
وعن كيفية حملها على مسالك الرشد.
وعن السادة الأكابر
الذين تنورت بواطنهم بمعرفة الحق.
وأقبلوا على النفس بأنوار الوحي.
حتى انصهرت عيوبها.
وتعودت السير في دروب المعرفة والطهر والقناعة والسكينة.
وعرفت شرف التعلق بالملأ الأعلى.
إلى أن برز ذلك المفهوم القرآني الشريف.
الذي جعله الله شعاراً نورانياً.
ومنهجا علوياً ربانياً.
للتعامل مع النفس.
والذي هو:
التزكية
  [الشمس:7-10].
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،
 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا،
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا،
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)
  [الأعلى:14-15].
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى،
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى)
فالتزكية مفهوم قرآني جليل.
يشرح كيفية إقبال القرآن الكريم على النفوس بالهداية.
ويبين كيفية احتشاد الآيات على صناعة تلك النفس.
حتى إن صاحب البصيرة يرى وراء كل كلمة في القرآن مقصودا تربويا يوجه النفس إلى مراد الله منها.
وقد فصل القرآن بعض إجراءات التزكية.
وبعض خطواتها العملية.
فجعل سبحانه مدار التزكية على أمرين:
أولهما: معرفة قوية عميقة بالمولى جل شأنه.
وذلك حين تمتلئ النفوس باليقين.
والارتقاء في شهود عظمة الحق سبحانه.
مما تنكشف به للنفوس من آيات جلال المولى سبحانه.
ما تهون به الدنيا والأهواء والمطامع.
وتقع به للنفوس رهبة وخشية.
تعرف بها عظمة مقام الربوبية.
وقد عبر القرآن عن كل ذلك بقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ).
ثانيهما: إغلاق منافذ الهوى.
وصيانة النفس من التعرض لتلك العواصف.
التي تشعل فيها نيران الشره والطمع والتنافس.
وكف النفس، ومنعها، ونهيها، وصرفها عن تلك المسالك.
وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى).
فكانت النتيجة:
(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازعات:40-41].
وكلا هذين الأمرين يحتاج إلى تدريب للنفوس.
وترويض لها.
وتمرين عملي مستمر على كيفية ردها عن الأهواء والمطامع.
وصرفها عن صخب الحياة وضجيجها.
الذي يملأها بالتشوش.
ويغرس فيها التهالك على حطام الدنيا.
وتفقد به النفس الصفاء.
الذي تستعين به على التعلق بالغيب.
والقيام بواجب إجلال الله وتوقيره.
إلى أن تتعود النفس السير في تلك المسالك.
ولا تصل النفس إلى ذلك أبدا بمجرد سماع المواعظ.
وكثرة الدروس والخطب.
وكثرة الكلام عن عيوب النفوس، وعن شرف التزكية.
فإن كثيراً من الناس يحسنون الكلام في ذلك.
ويحفظون فيه القصص والأخبار والآيات.
ويعرفون تلك المعاني.
ولكنهم رغم معرفتهم بذلك لم يعبروا على منهج تربوي عملي، طويل وشاق.
1- يمارسون فيه بالفعل صور تخلية النفس من التعلق بالأهواء.
2- ويستأصلون به من النفوس بالفعل تلك الشظايا المتناثرة من الولوع بالمطامع.
3- ويقهرون به النفس بالفعل على التخلى عن عاداتها الباطنية القبيحة.
4- ويواظبون فيه على مراقبة الأهواء التي تتلاعب بالنفوس.
فتملأها حقداً وحسداً.
وتنافساً في الدنيا.
وإساءةً إلى الخلق.
واعتداءً وتطاولاً عليهم.
5- ويشغلون فيه النفس بالفعل بكثرة ذكر الله تعالى ومناجاته.
وشدة استحضار عظمته.
مما تذوب به أهواء النفوس بالتدريج.
6- ويلزمون فيه شيخاً مربياً بصيراً.
خبيراً بالنفوس، ودهاليزها، وخفاياها.
مشبعاً بمنهج النبوة في بناء النفوس وتزكيتها.
طويل الممارسة لتربية الخلق على تلك المعاني الشريفة.
صبوراً على تقلبات النفوس ووهنها وتراخيها.
مستحضراً لمسالك القرآن في صناعة النفس وتهذيبها.
وكل هذا يلفت أنظارنا إلى مقصد جليل.
ألا وهو أن التزكية مسلك قرآني مكون من ثلاثة مستويات:
أولها: صناعة النفس وتربيتها وإنشاؤها على مقاصد القرآن وأهدافه.
حتى تتم صياغة النفوس من بدايتها على مراد الله منها.
وحتى تعجن النفوس من أول أمرها باليقين، والتعلق بالغيب.
وتعظيم شعائر الله.
وإيثار مرضاته سبحانه على كل شيء.
وحتى تنشأ تلك النفوس على كثرة ذكر الله تعالى وشكره وتمجيده وتسبيحه.
وحتى تستحضر تماماً أمر الدار الآخرة.
فتنطبع النفس بذلك على المراد الإلهي.
ولا تقع منها بعد ذلك منازعة ولا مراوغة إذا خوطبت بمراد الله منها.
ثانيها: الحفظ والصيانة والرعاية لتلك النفس بعد بنائها من أي شيء يصيبها بالأمراض والعلل.
فبعد ارتفاع بنائها على النحو السابق لا بد من الانتباه والمحافظة.
ودوام المراجعة والمراقبة.
حتى لا يتسلل إلى ذلك البناء المنيع المحكم شيء مما يحيط بها من شدة إغراق الخلق وتنافسهم في شئون المعيشة.
وحتى تتمالك النفس أمرها.
وتقوى مناعتها.
فتقدر على محاصرة كل ما هو دخيل وطارئ.
من الخطرات ووساوس النفوس.
والظلمات والأكدار الناشئة من مخالطة كثير من الناس، من أهل الانحراف والاعوجاج.
وأنت تعرف أن أي بناء مهما بالغ صاحبه في تشييده فإنه يحتاج إلى متابعته، وإصلاح كل ما يختل منه.
ثالثها: التدخل بالمعالجة إن وقع أي خلل.
أو إن أصيبت النفس بالفعل بعد كل ذلك بشيء من الأهواء.  
وحينئذ يكون العلاج سهلا.
ويكون رجوعها قريبا.
لا يحتاج إلى مجهود وتعب.
لأن البناء النفسي محكم الأساس.
فيسهل تجديد تلك المواضع اليسيرة التي ربما أصابها الداء.
والذي يحدث للناس اليوم أنهم يهملون تماما مرحلة البناء ومرحلة الحفظ.
ولا يتعاملون مع الأجيال الناشئة بذلك.
ولا يصنعون الإنسان من بدايته بهذه الطريقة.
ثم يظلون بعد ذلك يعاملونه بالعلاج فقط.
كلما رأوا منه انحرافاً.
فيعانون فيه معاناة شديدة.
لأنه يكون حينئذ عسيراً جداً.
إذ يقوم المربي بالتكسير والتحطيم لأمور قد تكونت وتجمدت داخل النفس.
من العادات، والأهواء، والتعلقات، والمطامع.
مع شدة اعتياد النفس ذلك.
وكل ذلك حتى يتمكن من إعادة البناء من جديد.
فتغيب بذلك عن الناس معالم منهج النبوة في إنشاء الإنسان.
وصناعته من أول أمره.
وللحديث بقية،،،

التقييم الحالي
بناء على 54 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث