نسخة تجريبيـــــــة
جدد حياتك (8): صائد اللؤلؤ (2)
بتاريخ: 19-11-2009
العقل المستنير.
ذلك الغواص الماهر.
طويل النَفَس.
واسع الأفق.
نافذ البصيرة.
ذلك الغواص الذي يسبح فيتجاوز سطح الأحداث والمواقف والأشخاص.
وينصرف عن المظاهر والشكليات.
ولا يهدر العمر في الوقوف عند تصرفات البشر، وضجيج حياتهم، ومجريات أحداثهم.
بل يغوص إلى ما يكمن وراء ذلك من أفكارٍ تحرك.
أو بواعث تدفع.
أو مناهج تتدافع.
ثم لا يزال يغوص إلى الأعماق البعيدة.
حتى يصطاد اللؤلؤ.
ويلتقط جواهر المعرفة.
ويمعن في الذكر والفكر.
فيصنع الحكمة.
ويعالج الأزمات عن بصيرة.
ويدرك كيف يصنع الإنسان.
وكيف ينتج العلوم والفنون والآداب والمعارف.
وكيف يبني الحضارة.
ثم هو يرتقي إلى شهود حكمة المولى.
فيفهم عن الله.
ويدرك مراده.
ويستلهم شرعه.
ويدرك سننه وقوانينه.
فيزداد توقيرا للحق سبحانه، وتعظيما له، وشهودا لعظمته، وانقيادا لأمره.
ويزداد بصيرة وحكمة في التعامل مع الخلق.
هذا العقل له مرحلتان.
يتدرب من خلالهما على الإبحار والسباحة والغوص.
ويتعلم كيف يصل إلى الأعماق البعيدة الغامضة.
ويتعلم كيف يظفر بالأصداف.
ويستخرج ما فيها من اللؤلؤ.
والمرحلتان هما:
مرحلة التكوين.
ومرحلة العمل.
مرحلة التكوين التي تتم فيها مكوناته.
ومرحلة العمل التي تظهر فيها ثمراته.
أما مرحلة التكوين فإنها مرحلةٌ يقوى فيها يقينه.
وتخالط بشاشةُ الإيمانِ قلبه.
وتزكو فيها معرفته بربه.
ويمتلئ جنانه توقيرا وتعظيما للحق جل شأنه.
وينطلق لسانه بذكر الله تعالى، وكثرة تسبيحه وتمجيده.
وينكشف عنه غطاء الغفلة، فيشهد آلاء الله تعالى، وصنوف إنعامه.
ويشهد مظاهر الحكمة في فعله سبحانه وصنعه وتقديره.
ويترقى في أطوار إجلال الحق.
ويغوص وراء جلائل الحكم الربانية، والسنن الإلهية.
فلا تقف معرفته بربه عند مستوى إدراك العوام.
بل تتحول معرفته بالباري سبحانه إلى يقينٍ، وشهودٍ، ومحبةٍ، وتعلقٍ، وفهمٍ، وإيمانٍ، وذكر.
كل ذلك مع قراءة واسعة.
وثقافة رفيعة.
وعملٍ ذهني منظم.
يتعلم فيه العقل كيف يرتب الأمور المعلومة.
ليتوصل منها إلى الأمور المجهولة.
ويتعلم الذهن من خلاله كيفية الربط.
والمقارنة.
والتحليل.
والاستنتاج.
ويتعود الذهن طرق التفكير المنضبط المستقيم.
ويعرف كيف يلحق الفروع بالأصول.
وكيف يرتب المعلومات والمعطيات والمقدمات.
وكيف يستخلص النتائج.
فتنمو قدراته الذهنية.
ويصفو فكره.
ويزداد عقله تألقا، واقتدارا على الفهم.
وتصقل عنده أدوات التفكير.
وتتفجر مواهبه.
ويتحرك عقله بعد طول جمود وكمون.
حتى تتحول كل الأحداث والأخبار والمواقف إلى وقودٍ لذلك العقل المتوقد المتأجج المنطلق.
بحيث يتم اعتصار الأحداث والأخبار حتى تتقاطر منها عصارة الحكمة.
فتتضح الأسباب والبواعث.
فيبني قراراته في كل شيء على بصيرة ومعرفة.
ولا يعامل الخلق بالمظاهر والعوارض.
فيأنس الناس منه الحكمة والاتزان.
وعمق النظرة.
وسداد الرأي.
وهو عقل يصبر على التعلم.
ويتعود تماما أن يكف عن التعجل.
وأن يبتعد عن التسرع.
وأن يتحلى بالصبر على التفكر.وألا تستخفه تدافعات الأحداث والمواقف.
ولا ضجيج البشر وتعجلهم.
فلا ينخدع بسرعة الأمور الحياتية، فينزلق في القرارات الهوجاء، والتصرفات العمياء.
ولا يصدر رأيه عن أول بديهة تخطر له.
ولا يفقد في الأزمات وقاره، وسكينته.
بل ينظر في كل أمر بأناة وتمهل.
ويرى كل شيء برويّة وتأمل.
حتى يرى مداخله ومخارجه.
وحتى يجول قلبه وفكره في كل احتمالات ذلك الأمر.
وفي كيفية التعامل معها.
وينظر في كل ذلك مرارا وتكرارا.
ثم يقرن كل ذلك بقوة معرفته بالله تعالى.
وقوة يقينه في توفيقه سبحانه ومعونته وفتحه ونوره وإمداده.
مع ضراعة قلب.
واستكانة جنان.
وحضور فؤاد.
ويقين راسخ في لطف الله وعونه.
ومع التعود والاستمرار والمداومة على هذا النمط يقل الوقت اللازم.
ويزداد الإنسان مقدرة على القيام بكل ذلك في وقت قياسي.
حتى تصير كل تلك الآداب النفسية والذهنية سريعة العمل.
شديدة الحضور.
سهلة التداعي.
فيتحول العقل إلى عقل حكيم.
معجون بالبصيرة.
يسبق الناس كلهم إلى رؤية مداخل الأمور ومخارجها.
والتبصر باحتمالاتها ومآلاتها.
مع الربانية والسمو.
بل يرى حينئذ في كل أمر زوايا وجوانب لا يستطيع الناس رؤيتها.
وتلوح له احتمالات لا يتوصل الناس إليها.
ويقتدر على تحليلها وتفكيك مشكلاتها.
ويستطيع أن يدرك أسبابها.
فإذا بالرؤية أمامه أوضح.
وإذا برؤيته للأمور أشمل.
وإذا بأفقه أرحب وأوسع.
وإذا به قادر على الغوص إلى الأعماق البعيدة
ليصطاد اللؤلؤ
وإذا امتزجت كل هذه المكونات.
وتداخلت.
وتفاعلت.
أثمرت إنسانا أخلاقيا راقيا.
مستنير العقل.
صافي السريرة.
نافذ البصيرة.
رحيما بالخلق.مرتبطا بالحق.
يسع الناس أجمعين.
ويصبر على جهل الجاهل، وحمق الأحمق.
ويبصر الناس ويعلمهم برفق.
فيقترب بالتدريج من النموذج المحمدي الجليل.
صلى الله عليه وسلم
ويعرف أن كمال الخلق ناشئ في الحقيقة من اتساع دائرة المعرفة.
مع الربانية.
وتلوح له بذلك لمحة من أسرار قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
ويعرف كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بتوفيق ربه سبحانه أن يبني أمة في مدة سنوات.
وأن يصنع حضارة.
وأن يبني عقولا عبقرية مستنيرة.
وللحديث بقية،،،
التقييم الحالي
بناء على
56
آراء
أضف تعليق