نسخة تجريبيـــــــة
جدد حياتك (7): صائد اللؤلؤ (1)
بتاريخ: 12-11-2009
 
هيا بنا لنبدأ البناء.
بناء الإنسان.
فلقد وضعنا الأسس.
ورفعنا القواعد من البيت.
فعرفنا لمحة من جلال المولى، وعرفنا الإنسان، وأنه عند الله غالٍ، وعرفنا إمامنا وقائدنا وعشق قلوبنا، صلى الله عليه وسلم، وهبت رياح الهمم، فامتلأ الشراع، وشرعت سفينة البناء في المسير، وصحبنا الصادقين فكانوا خير رفيق.
وكل ذلك حتى نبني الإنسان في عقله، وقلبه، وروحه، ونفسه، وجسده، وكافة مستوياته ومكوناته.
وقد تمت عندنا الأدوات.
وتكاملت المطالب.
فبدأ البناء.
العقول ثلاثة:
عقل سطحي، وعقل عميق، وعقل مستنير.
أما العقل السطحي فهو الذي تعوّد أن يقف عند ظواهر الأمور.
ويكتفي بإدراكها والعبور عليها.
دون غوص ولا فكر ولا تحليل.
فهو مشغول دائما بالأحداث والأشخاص.
يلهث وراء مجريات الحياة التي لا تنتهي.
ويغرق في ضجيج الحياة، وأحوال الأشخاص، وشئون معيشتهم.
وهو شغوف بمعرفة من باع ومن اشترى، ومن خاصم ومن صالح، ومن تزوّج ومن طلّق.
ومعرفة الأسواق، والأسعار، والأقارب، وما جرى بينهم، ومن مرض منهم، ثم كيف شفي، ولماذا.
ومعرفة ما يقع يوميا من الأولاد وزملائهم، والجيران وجيرانهم، ورفاق العمل ومشكلاتهم.
وكثيرا ما يقع لهؤلاء جميعا إشكالات ووقائع، وقضايا، فيغرق ذلك العقل فيها، وفي تطوراتها، وفي تداعياتها.
ويظل طوال العمر وهو يغوص في تلك الرمال المتحركة.
حتى يتحول ذلك العقل بالتدريج إلى مستوى شديد التفاهة.
لا يعرف من الأمور إلا ضجيجها وتسارعها وتقاطعها.
فلا ينتج فكرا.
ولا يصنع عمرانا.
ولا يزداد إيمانا.
ولا يبدع حضارة.
بل يذهب منه العمر هباء.
العقل الثاني: عقل عميق.
ينظر إلى الأحداث والأشخاص والأحوال والوقائع.
فيعرفها ويدركها.
لكنه لا ينشغل بها.
ولا يتوقف عندها، ولا يكتفي بسردها والحديث عنها.
بل يرتقي إلى تأمل ما ورائها من قضايا.
وما يتسبب فيها من أفكار.
وكلما طرأت عليه أحداث الحياة بضجيجها وصخبها وزحامها، انصرف عن ذلك كله إلى ما يحرك كل ذلك من عوامل.
فتتجرد في نظره كل الأحداث من أثوابها وزخارفها، حتى يرى بوضوح من أين تبدأ وتنشأ، وإلى أين تمضي وتؤول.
فهو يرى كل أحداث الحياة من منصة عالية، تسمو فوق أحداثها الصاخبة المتلاحقة اللاهثة.
فلا ينجرف في جزئياتها، ولا تغمره بأمواجها.
بل يراها من أعلى.
من منظور (عين الطائر) كما يسميه هواة التصوير.
فكأنه طائرٌ حرٌّ، محلقٌ فوق كل الأحداث، يراها من أعلى، فإذا هي أمامه واضحة، من بدايتها إلى نهايتها.
يعرف منشأها ومآلها.
فيحكم على كل حدث وعلى كل شيء حكما سديدا، مستوعبا.
فهذا العقل العميق هو الذي يصلح للقيادة.
وهو الذي يعرف كيف يفكّر.
وهو الذي ينشأ على يده البحث العلمي المنهجي.
وهو الذي ينتج الاكتشافات والاختراعات.
وهو الذي يعرف الناسُ منه الحكمة.
وهو الذي يصنع العمران.

العقل الثالث: عقل مستنير.
يعرف الأحداث والأشخاص، ويرصد كل ذلك، ويلم بمجريات الحياة كالعقل الأول.
ثم يغوص إلى أعماقها، ويرى ما ورائها كالعقل الثاني.
ثم يربط كل ذلك بالله.
فإذا به عقل أنارت أمامه الكائنات والحادثات والوقائع، وزادته ربطا بالمولى سبحانه.
وهو عقل يتأمل، ويحلل، ويفكّر، فيرى الله تعالى في كل شيء.
فإذا كل واقعة، وكل شخص، وكل حدث، وكل أمر، وكل قضية، تسمو به وترتقي، فتذكّره بالله.
وهو يغوص في أحداث الحياة، فلا يكون حظه فقط أن يصل إلى الأعماق.
بل هو يصطاد اللؤلؤ.
ويلتقط جواهر المعرفة.
ويخرج من كل حدث بزيادة في إيمانه، وارتقاء في سعة معرفته بربه.
وهو يرى الحكمة الإلهية في كل واقعة.
وتبصر عينه مشاهد الجلال والصنع الإلهي في كل حدث.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران:190]، فالسموات، والأرض، واختلاف الليل والنهار، وما يستكن فيهما من أحداث الخلائق، وشئون البشر، وأمور المعيشة، وتعاملات الناس، كل ذلك آيات لأصحاب العقول.
فتعالوا لنرى مسلك أصحاب تلك العقول في التفكير:
أولا: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران:191]، فذكرُ الله تعالى حاضرٌ على ألسنتهم وفي وجدانهم، في كل وقت، وعلى كل حال.
وجلال الربوبية حيٌّ نابضٌ حاضرٌ في أفئدتهم.
يتداعى سريعا إلى أذهانهم كلما أرادت الفكر.
فلا ينشغلون بأحداث الحياة، وزحامها، وتدافع البشر فيها، رغم معرفتهم بكل ذلك.
بل تنصرف عقولهم إلى ما وراء ذلك من الحِكَمِ والدوافع.
فينطلق العقل حرا من الأثقال والأغلال.
مصحوبا بأنوار ذكر الله تعالى.
يستنير بها، ويهتدي بأنوارها.
فانظر ماذا كانت النتيجة بعد ذلك.
لقد انطلق العقل ليفكر.
ذاكرا.
حرا.
مستنيرا.
محلقا.
فكانت النتيجة:
(وَيَتَفَكَّرُونَ).
وهو المبدأ الثاني بعد الذكر.
نعم.
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [آل عمران:191]، فأمعنت عقولهم في البحث العلمي التجريبي، المتعلق بعلوم الأرض والفضاء، وأمعنوا النظر والتأمل والتدبر والبحث والتفتيش في شئون السموات والأرض.
فارتبط كل ذلك عندهم بالمولى سبحانه.
ورأوا فيه مشهد الجلال الرباني.
وشهدوا فيه الحكمة والتدبير والتقدير:
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].
فتأمل الآية جيدا.
تجد أن العقل المستنير مكون من أمرين اثنين، لا ثالث لهما:
  • (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).
  •  (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ).
  • يذكرون، ويتفكرون.
ذكرٌ، وفكر.
ذكرٌ ينير الطريق، ويوصل إلى الله.
وفكرٌ يبدع ويتألق.
ويحللُ فيهتدي.
ويعرف فَـيَـتَّقِي.
ويخترع فيرتقي.
ويكتشف فينتقي.
فهذا العقل المستنير المتألق.
هو الذي ينطلق، ويفكر، ويبدع.
ويذكر الله كثيرا، وعلى كل حال.
ويفهم مراد الله منه.
ويعظم شعائره.
ويحب أوليائه.
ويكون مع الصادقين.
يؤثر الآخرة.
ويتعلق بالكمالات النفسية والأخلاقية.
ويغوص على أسرار الموجودات.
ويستلهم قوانين الأكوان.
فتنشأ الحضارة.
وتفيض العلوم، والفنون، والآداب.
وتهتدي الخلائق.
فهذا هو المسلم، الذي جاء الشرع لبنائه وتكوينه.
وهذا هو المسلم الذي يكون رحمة للعالمين.
وهذا هو المسلم الذي يعبّر بحق عن هذا الدين.
وهذا هو الإنسان الذي أراده الله.
وأنزل لأجله الكتب.
وبعث لأجله الرسل
فالعقل المستنير تكون أحداث الحياة بالنسبة له كالأمواج، التي ترفعه إلى أعلى، وهو يسبح بينها بأمان.
والعقل العميق يحسن السباحة بينها فقط.
والعقل السطحي يغرق فيها.
أما العقل المستنير فإنه ينتج الإيمان والعمران.
وأما العقل العميق فإنه يصنع العمران فقط.
وأما العقل السطحي، فإنه لا يصنع عمرانا، ولا يزداد إيمانا.
فاذكروا الله تعالى ذكرا كثيرا.
وتحرروا من أغلال الأحداث الحياتية اليومية.
ودعوا هذا العقل ليستنير ويبدع ويهتدي.
وانطلقوا لتحقيق مراد الله فيكم ومنكم.
                                                             وللحديث من وراء ذلك بقية،،،

 


التقييم الحالي
بناء على 43 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث