نسخة تجريبيـــــــة
التصوف الإسلامى نشأته ومصادره عند د/عبد الحليم محمود

وقف الإمام شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود موقفا واضحا وصريحا من هذه القضية الشائكة التى دار حولها الكثير من اللغط، واختلفت الأنظار فيها بحسب توجه كل باحث، ويقدم لنا الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود وجهة نظر صافية من المؤثرات الغريبة والغربية ، يقول رحمه الله تعالى:

وأمر آخر أريد أن أعترف به وأن أشرح وجهة نظري فيه:

ذلك أني لم أتحدث عن وسط أبي الحسن وبيئته الاجتماعية، ولم أتحدث عن شيوخه الذين يكثر بعض المؤرخين من ذكرهم، اللهم إلا عن الولي الكبير سيدي عبد السلام بن مشيش.

وإذا كنت لم أتحدث عن الوسط ولا عن الشيوخ، فإنما فعلت ذلك متعمدًا، إنني فعلته عن مبدأ وعن رأي قد ترويت فيه وتأملته.

إنني أرى في صراحة أن هؤلاء الذين يكتبون عن الصوفية فيتحدثون عن الوسط والبيئة، وعن الأساتذة والشيوخ ليقولوا بعد ذلك إن الصوفي تأثر وقلد وأخذ، وأن فكرته هذه يدين فيها لفلان، وفكرته تلك يدين فيها للوسط الفلاني، إن هؤلاء الذين يدينون بالآلية في الفكر الصوفي، أو بأن الصوفي مرآة تعكس صور المجتمع والمربين، وتنعكس فيها أفكار المجتمع والشيوخ، ويأخذون في تحليل آراء الصوفي وتفصيلها وتشريحها من أجل أن يعزوا كل فكرة إلى مصدر يختلف عن مصدر الفكرة الأخرى للصوفي نفسه، إن هؤلاء الذين يصنعون ذلك مخطئون.

فالصوفي لا يكون صوفيًّا بالقراءة أو الدراسة والبحث، حتى ولو كانت هذه القراءة والدراسة في الكتب الصوفية نفسها وفي المجال الصوفي خاصة، وقد يكون شخص من أعلم الناس بهذه الكتب درسها دراسة باحث متأمل، وعرف قديمها وحديثها، ومَيَّزَ بين الزائف منها والصحيح، وصنفها زمنًا وميزها أمكنة، وهو مع ذلك لا سهم له في قليل ولا في كثير في المجالات الصوفية.

ولقد درس الإمام الغزالي كتب الصوفية المحققين، درسها دراسة تعمق وتأمل، لقد درس كتب الحارث المحاسبي، وكتب أبي طالب المكي، وما رُوي عن الجنيد وعن الشبلي وغيرهم، ثم اعترف بأن ذلك لم يجعله صوفيًّا، ولو اقتصر على القراءة، مهما كانت عميقة، لما كان له في التصوف نصيب، ليس قراءة كتب الصوفية سُلَّمًا يرقى به الإنسان في معارج القدس.

وابن سينا درس التصوف في كتبه الأصلية، وخالط الصوفية وتحدث إليهم، وكتب في التصوف فصولًا تَوَّجَ بها كتابه الذي كان يعتز به وهو كتاب «الإشارات والتنبيهات»... ومع ذلك فإن ابن سينا لم يصِر بذلك صوفيًّا ولم تجعله دراسته للتصوف وكتابته عنه في عداد الصوفية.

ثم إنه قد يكون الصوفي أميًّا لم يقرأ فلسفة ولم يجهد نفسه في بحث.

والحديث إذن عن المصادر والبيئة والأساتذة والتقليد والتأثر في مجال التصوف، إنما يقوم على أساس فاسد، وكل من ينهج هذا المنهج من الكتاب عن التصوف، إنما يسير في طريق زائف، ويقف فوق جدار منقضٍّ، ويعتمد على أسس تنقضها حياة الغزالي، وحياة ابن سينا، وحياة الخواص، وحياة العشرات غير هؤلاء.

هذا الطريق الزائف سار فيه المستشرقون، وحاولوا ما استطاعوا أن يقفوا بكل فكرة في الجو الصوفي عند مصدر أجنبي، وأن يجدوا في تراث كل صوفي مسلم ألوانًا من أفكار سابقة من الزمن، مختلفة أو متحدة في البيئة، سار المستشرقون في هذا الطريق الضال فضلوا وأضلوا.

لقد ضلوا ولم يتأتَّ لهم -بعد أكثر من قرن ونصف- أن يصلوا إلى نتائج موحدة أو يقينية أو شبه يقينية، بل لقد ظهروا بمظهر لا يغبطون عليه؛ وذلك أن الكثير منهم كان يرى الرأي اليوم، يؤيده بما شاء من كل شاردة وواردة، ويتلقف من أجله كل خبر ورواية، ويخرجه للناس على أنه الحق الذي لا مِراء فيه، ثم ينقضه هو نفسه من الغد، فيخرج برأي آخر مغاير، يؤيده بما شاء من كل شاردة وواردة، ويتلقف من أجله كل خبر ورواية.

لقد فعل ذلك المستشرق «ثولك»، فأعلن مجوسية التصوف الإسلامي، ثم عدل عن ذلك وأعلن إسلاميته.

وفعل ذلك «نيكولسن» فأعلن أفلاطونية التصوف الإسلامي، ثم أعلن إسلاميته في جوهره.

وأخذ المستشرقون يتحدثون عن مشكلة وهمية هي مشكلة مصادر التصوف، ولا يزالون مختلفين.

وجارى الشرقيون المستشرقين في الحديث عن مصادر التصوف، وكما اختلف المستشرقون فقد اختلف الشرقيون، ولا يزالون مختلفين.

وسيستمر الخلاف؛ لأن النقاش إنما هو عن مشكلة وهمية، وسيستمر الخلاف؛ لأن وضع المشكلة خطأ.

إنهم يتحدثون عن مصادر ثقافية على اعتبار أن التصوف ثمرة ثقافة كسبية، وما دام ثمرة ثقافة كسبية فإنَّه إذن يتأثر بالوسيلة التي أدت إليه؛ أي بالثقافة الكسبية التي كان ثمرة لها.

ولكن التصوف ليس ثمرة لثقافة كسبية، إن الوسيلة إليه ليست هي الثقافة، ولكن الوسيلة إليه إنَّما هي العمل، إن الطريق إليه إنما هو السلوك.

والمعرفة الناشئة عن العمل والسلوك هي إلهام، وهي كشف، وهي ملأ أعلى انعكس على البصيرة المجلوة فتذوقه الشخص حالًا، وأحس به ذوقًا، وأدركه إلهامًا وكشفًا.

فهل يتأتى والحالة هذه أن نتحدث عن مجوسية التصوف الإسلامي، أو عن أفلاطونيته، أو فارسيته، أو هنديته؟.

سار المستشرقون في طريق خطأ، وجاراهم الشرقيون فضَلُّوا بضلالهم؛ بيد أن المؤسف هو أن الناس ألِفُوا الحديث عما سماه المستشرقون مصادر التصوف الإسلامي، وشارك في الحديث عنها القارئون والسامعون، وهكذا لبس الوهم صورة الجِدِّ، واتخذ الزائف مظهر الصحيح، وكان نقاش، وكان جدل، وما زال النقاش، وما زال الجدل، وسيستمر ذلك إلى أن يصحح الوضع.

وتصحيح الوضع إنَّما هو بحذف الوهم الذي اتخذ صورة الجد، وبحذف الزائف الذي لبس مظهر الصحيح؛ أي بحذف ما يعبرون عنه بمشكلة «مصادر التصوف».

ومن أجل ما تقدم لم أكتب عن «مصادر» أبي الحسن، وإذا كنت قد كتبت عن سيدي عبد السلام بن مشيش، فإنما كتبت عنه كمُوَجِّهٍ، موجه فقط، والموجه ليس هو الموحي وليس هو الملهِم، ليس الموجه بصيرة تَرِقُّ وتشف، ولا سرًّا يصير مرآة مجلوة يحاذي بها الصوفي شطر الحق، ولا ملأ أعلى ينعكس على بصيرة الصوفي فيتذوقه ويحسه ويشهده، ولا مبادئ تلقى في الرُّوع فيدركها الصوفي سارية في كيانه كله.

لقد تحدثت عن سيدي عبد السلام بن مشيش كموجِّه، ولا بد للسالك من موجه، لا بد له من شيخ يقوده، لا بد له من خبير يرشده.

يقول الأستاذ رينيه جينو الفيلسوف الفرنسي المعروف:

«ولا بد في التصوف من شرط جوهري هو «التأثير الروحي»، أو بتعبير أدق «البركة»، وهي لا تتأتى إلا بواسطة «شيخ»، ومن هنا كانت «الطرق»، ومن هنا كانت «السلسلة»، وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخًا فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين؟». اهـ.

ويعني الأستاذ رينيه جينو بالبركة «السر» الذي ينتقل من الشيخ إلى المريد حينما تلتقي يد المريد بيد شيخه معاهدًا إياه على الاستقامة.

وإذا كان الأستاذ رينيه جينو يرى ضرورة الشيخ من أجل «السر»؛ فإن الإمام الرازي يرى ضرورة الشيخ لأن: «من سلك الطريق، وعرف مراحلها ومنازلها، واطَّلَع على متالفها ومعاطبها، أمكنه إرشاد الغير إلى سواء السبيل، والإخبار عن كيفية تلك الأحوال على التفصيل». اهـ.

إلام تستمر مهمة الشيخ؟.

إنها تستمر إلى أن يرتبط السالك بالسماء إلى أن يشرق عليه الملأ الأعلى، إلى أن يتمكن في المجال الروحي، ومن هنا كان طبيعيًّا أن يقول أبو الحسن، وقد سئل عن شيخه: «أمَّا فيما مضى فكان سيدي عبد السلام بن مشيش، وأما الآن فأستقي من عشرة أبحر: خمسة سماوية، وخمسة أرضية؛ أما السماوية: فجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، والروح، وأما الأرضية: فأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والنبي صلى الله عليه وسلم ». اهـ. وليس معنى ذلك انفصال المريد عن شيخه انفصالًا تامًّا، وإنما معنى ذلك أن الشيخ رأى بنور الله أن تلميذه قد قطع الطريق، وأنه أصبح جديرًا بأن يرشد السالكين إلى الله، فيأذن له بالإرشاد، ويبارك خطواتِه وتوجيهاته في الدعوة إلى الله، ويشرق بذلك في العالم نور جديد، ويتألقُ في سماء الروح كوكب مشرق، وتسعد الإنسانيةُ بها إلى الله، ويغنى التراث الروحي للإنسانية بإشراقات جديدة قريبة العهد من الله.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص  167 - 172.

 


التقييم الحالي
بناء على 4 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث