نسخة تجريبيـــــــة
الإمام محمد عز الدين القسَّام

الشيخ المجاهد

محمد عز الدين القسَّام

رائد الكفاح في فلسطين في العصر الحديث

باع بيته واشترى  بثمنه سلاحًا لمريديه المجاهدين

الاسم والنسب:

محمد عز الدين بن عبد القادر بن مصطفى القسَّام، يتصل نسب الأسرة الكريمة بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

* أما عن تسمية الأسرة بهذا الاسم، فهناك رواية ذكرتها خيريَّة القسَّام؛ حيث تقول: إن جدَّ الأسرة كان من الأولياء الصالحين، وقد ظهرت أفعى كبيرة في مراعي القرية أزعجت أهلها؛ فخرج إليها الجد وصرخ بصوت عال، فقسمها نصفين، فسمي بالقسَّام.

صفاته الخِلْقية والخُلُقية:

* كان الشيخ عز الدين القسَّام في وصفه أميل إلى القصر منه إلى الطول، وأقرب إلى النحافة، أسمر اللون، أسود العينين، كثَّ اللحية، طلق المُحيَّا، مهيب الطلعة، وقورًا سديد الرأي، صادق الفراسة، ثبت الجنان، شجاعًا، حاضر البديهة، سريع الخاطر، محدثًا لبقًا واثقًا من نفسه، مستبشرًا دائمًا ومتفائلًا، إيمانًا منه بالله وبقضائه وبقدره، كان رحيمًا بالناس متواضعًا، وراضيًا باليسير من المأكل، وكان صادقًا إذا قال، دؤوبًا على العمل، شديد التحمل للمشاق، كما كان عالمًا بالشريعة، ومصلحًا اجتماعيًّا، قوي الإيمان بالله، عظيم الاعتماد على هذه القوة منذ مطلع حياته العملية ومنذ حمل رسالة التوجيه، وكان ذا غيرة على الدين ونقائه، وسيفًا مصلتًا على أعدائه، وكان يدعو إلى الاجتماع الوطني، والتعاون بين العرب على اختلاف مذاهبهم، ويَعُدُّ الخروجَ على هذا الإجماع خيانةً للأمة.

المولد والنشأة:

* في بلدة (جبلة) في محافظة اللاذقية بسوريا، ولد الشيخ عزُّ الدين القسَّام في 20 من نوفمبر1882م.

* نشأ الشيخ في أسرة كريمة عُرفت بالعلم والتقوى؛ فأبوه: الشيخ عبد القادر مصطفى القسَّام، من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه: حليمة قصاب، من (آل نور الله) حملة العلم ومصابيح الهدى في بلاد الشام.

* كان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث دَرَّس في كُتّاب القرية القرآنَ الكريمَ والعربيةَ والخطَّ والحسابَ، وبثَّ روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقًا في المحكمة الشرعية.

* وكان جدُّه وشقيقُ جدِّه - اللذان قدما إلى جبلة من العراق - شيخين بارزين فى الطريقة القادرية، كذلك كان والده عبد القادر معروفًا بأنه مرشد الطريقة القادرية، وهناك قول آخر بأنَّ والده كان يتبع الطريقة النقشبندية أيضًا، وهي التى لعبت دورًا ملحوظًا فى مكافحة الاحتلال فى القرن التاسع عشر فى سوريا.

* ولعل هذا الاتجاه والتكوين الأسري ساعد على أن يتشرب عزُّ الدين القسَّام مفاهيم وقيم عائلته، وهذا ما جعل نبوغه وتفوقه على أقرانه يظهر سريعًا ويُعْجَبُ به أستاذه، وكان أستاذه غالبًا ما يلهج لسانُه بذكر مزايا عز الدين؛ بل وربما ساعد هذا على أن يترعرع عزُّ الدين منذ طفولته في أحضان الإسلام بما يحمله من صفاء وسموِّ خلق، وسيرة محمودة، وثورة على الظالمين.

* امتاز الشيخ عز الدين القسَّام بالميل إلى الانفراد والعزلة وطول التفكير، الأمر الذي أثر في مستقبله وجعله أكثر قدرة على فهم ما يدور حوله من أحداث، وإدراك الأسباب والكوامن السياسيَّة خلفها.

* تعلم منذ نشأته الأولى الاعتمادَ على النفس، وهذا ما سجله له التاريخ في حادثةٍ تدل على عصاميته واعتماده على نفسه، فقد عانى هو وزميله عزُّ الدين التنوخي من انقطاع المصاريف الواردة من الأهل، ونفاد ما بحوزتهما، وفقد التنوخي الأمل بإمكانية الخروج من المأزق، وظلَّ يحاور القسَّام عما يفعلانه، فاقترح القسَّام قائلًا: سنعمل هريسة ونبيعها للطلاب. فاستفظع التنوخيُّ الأمرَ، وفي محاولة منه للمتلص قال: ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة، فأجابه القسام: أنا أصيح على بضاعتنا. وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة، والقسام يصيح والتنوخي يلازمه وقوفًا.

وذات يوم جاء والد التنوخي لزيارته في القاهرة وقبل دخوله الأزهر وجد ابنه إلى جوار القسَّام وكليهما خلف صينية الهريسة، فسأل مستفسرًا: ما هذا؟! فأجابه ابنه في محاولة لرد التهمة عن نفسه: عزُّ الدين عَلَّمَني، وهو صاحب الفكرة. ولم يصدق الابن حين سمع أباه يقول: حقًّا لقد علمك الحياة.

المسيرة العلمية:

* تلقى دراسته الابتدائية في كُتَّاب بلدته، وفي زاوية الإمام الغزالي.

* هيأ تفوق القسَّام في مدرسته الأولى، واهتمام أسرته بالتعليم، فرصةً للسفر إلى الأزهر وطلب العلم هناك، فسافر الشيخ عز الدين سنة 1896م وبرفقته أخوه فخر الدين، وابن خالته ناجي أديب، وعز الدين التنوخي، وغيرهم.

* تتلمذ فترة دراسته بالأزهر على يد الشيخ محمد عبده - وقد كان رئيس رواق الشام في الأزهر الشريف في عصره - فارتوت نفسه من العلم الحقيقي. كذلك كان من أشياخه: العالِمُ محمد أحمد الطوخي.

وعندما عاد عزُّ الدين القسَّام إلى قريته «جبلة» حاملًا شهادته من الأزهر عام 1903، عُيِّن الشيخ عزُّ الدين القسَّام مدرسًا للجامع الكبير في جبلة، بجامع إبراهيم بن أدهم.

جهودة العلمية:

بعد أن أتم القسَّام تعليمه في الأزهر، عاد إلى بلدته جبلة، ثم رحل منها إلى تركيا في محاولة منه لاكتشاف الأساليب الحديثة في التعليم والتعلم، بحيث ينهل من هذه الثقافات التي عايشها وعاصرها في هذه البلاد، سعيًا وراء إيجاد جيل جديد يعرف ما له وما عليه، سواء كان هذا تجاه دينه أم تجاه وطنه وقومه.

وحين عاد القسَّام من تركيا عكف على التدريس في زاوية والده، وفي جامع السلطان إبراهيم بن أدهم، قطب الزاهدين، وأخذ دورَ والده في تدريس أطفال القرية، وتجاوز الحدود التقليدية في حفظ القرآن وتجويدهإلى العلوم الأولية والقراءة والكتابة، وتولى خطابة الجمعة في مسجد المنصوري، الذي يتوسط البلدة، وقدَّم لسكان قريته الإسلام كما آمن به وتعلمه، فدب في القرية حماس ديني شديد، فكانت شوارعُها تُرى مُقْفِرة إذا أُذن لصلاة الجمعة.

وبنشاطه في الدعوة والتعليم ذاع صيته وانتشر اسمه، وأصبح موئلًا ومقصدًا، وكانت سيرته الشخصية مثال الفضيلة والكمال، لا ينهى عن خلق ويأتي مثله، ولا يدعو إلى طريق إلا ويكون أول سالك له، فكثر أتباعه ومريدوه وعظم شأنه، وذاع صيته.

جهوده في خدمة الدين :

* إخلاص العقيدة لله واتباع السنة النبوية:

أخذ عز الدين ثقافته الإسلامية من القرآن والسنة الصحيحة ونهل من السيرة النبوية المشتملة على بيان شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، التي يكون للمسلمين بها أسوة حسنة، ودرس سِيَر الصحابة، وعرف أسباب التغيرات التي طرأت على سلوكهم في الإسلام فصدر بعد كل هذا عن عقيدة سلفية لم تتأثر بمذهب قديم أو اتجاه حديث. 

فكان همه الأول تخليص الدين من الشوائب وإخلاص العقيدة لله وحده، لأن العقيدة الخالصة لله هي مصدر القوة، فنبَّه الناس برفق، وقد يعنف إذا واجه المعاندين، ففي سبيل إخلاص العقيدة لله وحده، وطلب العون منه حارب القسَّام حَجَّ النساءِ إلى (مقام الخضر) على سفوح جبل الكرمل لذبح الأضاحي شكرًا على شفاء من مرض، أو نجاح في مدرسة وكنَّ - بعد تقديم الأضحية - يرقصن حول المقام الموهوم فدعا القسَّام الناس إلى أن يتوجهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله تعالى فقط؛ لأنه – وحده - القادر على النفع والضر وأما أصحاب القبور فلا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فكيف ينفعون الآخرين؟!

وفي سبيل الاستفادة من السيرة النبوية، أنكر القسَّام قراءة المولد النبوي بالغناء والتمطيط والمبالغة بتوقيعه على ألحان الموسيقى، والاكتفاء بسيرة الولادة فقط، مع ما أُدخل فيها من الأمور التي لم تثبت، ودعا إلى العناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، أحوالِه وشمائلِه، والسنة العملية من سيرته لتكون نبراسًا يستضيء به المسلمون.

* دراسته للواقع ووصفه للعلاج:

وقد أثرت شخصية القسَّام الجريئة في خطبه وأحاديثه فكانت تتناول الحال السائدة والتغيرات السياسية وهذا مما أغضب الإنجليز؛ لأنه فاجأهم بعرض جديد للدين لم يكونوا يظنون أن أحدًا يعرفه، أو يجرؤ على قوله؛ فالإنجليز لا يعترضون على أداء المسلمين شعائر العبادات في المساجد، ولكنهم فوجئوا بنوعية من الرجال تعرض الإسلام بصورته الشاملة، وتهتم بقضايا المجتمع، وتبرز السياسة الإسلامية في الجهاد؛ ولذلك اهتز الإنجليز لأنهم أصبحوا يواجهون الإسلام بشكل غير الذي أرادوه - مقصورًا على العبادات.

فدعوة القسَّام كانت إحياءً لإسلام الصحابة الفاتحين وعُبَّاده المجاهدين، وهو ما يخشاه الاستعمار البريطاني؛ فلم يكن غريبًا أن يوضع القسَّام تحت المراقبة وأن تحصى عليه حركاته ويُحاسَب على أقواله.

المثل التربوية في سيرته:

كان عزُّ الدين القسَّام أمةً وحده في وقته، يعطي ما لا يستطيع الآخرون، ويقصده الناس لأخذ ما لا يجدونه عند الآخرين.

وجمع الله في شخص عزِّ الدين مواهب شتى؛ فكان معلِّمًا مؤثرًا وعسكريًّا مدربًا، واقتصاديًّا مدبرًا وسياسيًّا محنكًا؛ وأثبت الإحصاء أن هذه القدرات المتفوقة كان لها تطبيق في أرض الواقع، وكان هو القائم بها وحده في بداية الدعوة، فلم يُعرف من أصحاب القسَّام -  في بداية الطريق أو في وسطها - من تخرجوا في المعاهد العليا أو الجامعات، وكان جُلُّ أتباعِه من العمَّال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقَّفهم في المسجد وفي البيت والحفلات العامة، وجعلهم أكفاء للمهمَّات الجهادية.

رحلاته:

* رحل إلى مصر ليتلقى تعليمه في الأزهر.

* رحل إلى تركيا ليتعرف على أهم طرق التدريس في جوامعها، وعلى خطب الجمعة ودروس ما بعد العصر والمغرب.

قالوا عنه:

1- ميمنة بنت عزِّ الدين القسَّام:

«الحمد لله، ثم الحمد لله الذي شرفني باستشهاد أبي وأعزني بموته، ولم يذلني بهوان وطني واستسلام أمتي».

2- أكرم زعيتير:

«ليس لنا من سبيل إلى الخلاص إلا الجهاد الدامي وقد فتح فقيدُنا القسَّام الباب فلنلجه وإنا لفاعلون».

3- الدكتور أمين رويحة:

«لقد أحيا القسَّام وإخوانه في نفوسنا الأمل بعد أن كدنا نفقده وليتني علمت بعصابتهم لكنت – والله – أولَ من ينضم إليه؛ فهذا - والله - سبيل الخلاص وحده».

4- جمال الحسيني:

«القسَّام القسَّام ... اسم سوف يبقى في فلسطين، يتردد في أجوائها، فيوقع الرعب في قلوب الذين يسيطرون عليها بحرابهم، ويُتلى في صفحات تاريخها الخالدة فيملأ نفس القارئ إكبارًا وإعجابًا».

5- فؤاد الخطيب:

أولت عمامتك العمائم كلها
 

*

شرفًا تقاصر دونه التيجان
 

إن الزعامة والطريق مهولة
 

*

غيرُ الزعامة والطريق أمان
 

يا رهط عز الدين حسبك نعمة
 

*

في الخلد لا عنت ولا أحزان
 

 

6- أبو سلمى:

قوموا انظروا القسَّام يشرق نوره فوق الصرود
 

يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلود
 

7- الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، صاحب جريدة «الجامعة الإسلامية»:

«وعسى الأمة العربية في فلسطين أن تخلد ذكرى هذا البطل - عزِّ الدين القسام - ورفاقه الميامين، بالاستكثار من التسمي بأسمائهم والتوفر على دروس سيرتهم».

8- حمدي الحسيني:

«إن القسَّام عدَّل من هذه القضية ما اعوج».

9- عجاج نويهض:

«سافر القسَّام، وكان جواز سفره الأكبر مصحفًا في جيبه وقلبه».

10- صبحي الخضراء:

«إن القسَّام قضى على الردة التي أفسدت على البلد اتجاهه، إننا لا نؤبِّن ملكًا ولا زعيمًا ولا رئيسًا، ولكن نؤبن رجلًا من صميم الشعب صار حديث البلد وشغل دولة بأسرها».

11- الشيخ سليمان التاجي:

«يا جيران القسَّام، نَحُجُّ إلى بلدكم كما نحج إلى كعبتنا، القسَّام نقل القضية من دور الكلام إلى دور العمل».

12- الشاعر محمد صادق عرنوس يردد:

 

من شاء فليأخذ عن القسام

*

أنموذج الجندي في الإسلام

وليتخذه إذا أراد تخلصًا

*

من ذله الموروث خير إمام

ترك الكلام ورصفه لهواته

*

وبضاعة الضعفاء محض كلام

أو ما ترى زعماءنا قد أتخموا الـ

*

آذان قولاً أيما إتخام

كنا نظن حقيقةً ما حبروا

*

فإذا به وهم من الأوهام

جهوده العملية في خدمة الدين:

* أولًا: الشيخ عزُّ الدين القسَّام معلمًا:

 عمل الشيخ عز الدين القسَّام مدرسًا ومحفظًا للقرآن الكريم في بلدته مكانَ والده.

 بعد أشهر من قدومه إلى حيفا عمل مدرسًا أوائل عام 1921 أو سنة 1922 في مدرسة (الإناث الإسلامية) أولًا، وفي مدرسة (البرج الإسلامية) ثانيًا، وهاتان المدرستان تشرف عليهما الجمعية الإسلامية في حيفا.

وخلال هذه الفترة حرص القسَّام على التوجيه المهني للطلاب؛ فوجه الطلاب إلى ما يناسب قدراتهم التي وهبهم الله ويسأل التلاميذ عن أمنياتهم المستقبلية، ويفتح أمامهم آفاق المستقبل ليختار الطالب ما يوافق ميوله.

* ثانيًا: الإمامة والخطابة والتوجيه والإرشاد:

في بلدته عمل إمامًا لمسجد إبراهيم بن أدهم.

ثم كان إمامًا لأربعة مساجد جامعة في حيفا:

- جامع الجرينة الكبير.

- جامع الاستقلال.

- جامع الحاج عبد الله أبو يونس في حي حليصة بحيفا.

- الجامع الصغير.

* عمل أيضًا في الفترة التي توجه فيها إلى فلسطين مأذونًا.

* جمعية الشبان المسلمين:

ترأس الشيخ عزُّ الدين القسَّام جمعية الشبان المسلمين والتي أنشئت سنة 1928م.

فقد جرت انتخابات جمعيات الشبان المسلمين في المدن، وفاز في حيفا برئاسة الجمعية الشيخ عزُّ الدين القسَّام.

وترأس الجمعية أيضًا بعد الانتخابات التي جرت سنة 1930م وفي سنة 1932م كان القسَّام ممثلًا لجمعية حيفا في مؤتمر الجمعيات الرابع المنعقد في عكا، وانتخب يومها القسَّام رئيسًا مؤقتًا للمؤتمر بوصفه أكبر الأعضاء سنًّا، وبعد مداولات الحاضرين اتخذ المؤتمر القرارات التالية:

- محاربة التنصير.

- الدعوة إلى تدريس أبناء المسلمين في المدارس العربية وتجنيبهم المدارس التنصيرية.

- نشر الوعظ الديني والتعليم في القرى وفي جمعيات الشبان المسلمين.

- إصدار منشور يناشد (المعارضين) بأن يتخلوا عن الحزبية والعصبية القبلية وأن يتَّحِدوا من أجل مصلحة الأمة، ومن خلال عمله في جمعيات الشبان المسلمين استطاع القسَّام أن يوجه عشرات من الشبان للتخلص من ربقة الفساد والضياع والانخراط في العمل الجاد المثمر لبناء النفس والوطن، وهكذا، فإن القسَّام قد حقَّق هدفه من رئاسة الجمعية، ومن عضوية لجنتها القيادية وكان نشاطه في الجمعية إعدادًا وتحضيرًا ليوم الجهاد.

التصوف في حياته:

أدرك شيخنا أهمية التصوف، وأنه لا بد من شيخ له قدم راسخة في الحياة الروحية، فوجد ضالَّته ومبتغاه في أقرب الناس إليه، وهو والده، فسلك على يديه طريق التربية الروحية، بِهَمَّة عالية لا تلين، وإقبال علىٰ الله شديد، وقد امتاز القسَّام منذ صغره بالميل إلىٰ الانفراد والعزلة، وهو الأمر الذي أثر في مستقبله، وجعله أكثر قدرة علىٰ فهم ما يدور حوله من أحداث.

وبعد وفاة والده، قام مقامه، وأصبح - كما يترجم له صاحب «الأعلام الشرقية»: «شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية».

* عَلاقته بالتجانية:لقد كان للشيخ عزِّ الدين القسَّام عَلاقات وطيدة مع علماء الطريقة التجانية بالجزائر، وخاصَّة منطقة الجنوب، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ محمد بن عبد المالك بن العلم السائحي، الذي كان له الفضل في تعريف عز الدين بدار سيدي أحمد التجاني، وكان له الفضل أيضًا في تعريف أهل المشرق كالسيد أحمد الدارسي مقدم القدس، والعلَّامة علي الدقر.

* وتجدر الإشارة إلى أنّ عز الدين القسَّام قد انفرد بتنظيم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في حيفا، علىٰ نحو خاصٍّ في إقامة الزينات.

 ولعلنا نستخلص رأيه في الاجتماع علىٰ إنشاد الأشعار والمدائح النبوية، عندما ذكر- رحمه الله - جواب العلَّامة ابن حجر في هذه المسألة: «إذا كان فيه تشويق للتأسّي بأحوال الصالحين، والخروج عن النفس ورعونتها وحظوظها، والجدّ في التحلي بمراقبة الحق في كل نَفَس، ثم الانتقال في شهوده في كل ذرَّة من ذرّات الوجود، فكل المنشدين والسامعين مأجورون مثابون، إن صلحت نيّاتُهم، وصفت سرائرُهم، وأما إن كان بخلاف ذلك، فهم عاصون آثمون».

الجهاد في حياة الشهيد:

* أقام الشيخ المجاهد في مصر فترة تلقى خلالها تعليمه؛ والذي يظهر أن الشيخ تأثر بالحركات السياسيَّة التي كانت موجودة آنذاك لمقاومة الاحتلال الإنجليزي.

فالأزهر منذ القدم معقل العلماء والمعايير المنضبطة لاستقامة الحياة، وما وقوفه في وجه الغزو الفرنسي ببعيد، وهيأت مصر- التي كانت آنذاك مصب التيارات الفكرية المتعددة داخل الشرق الإسلامي - فرصة لتوعية الشاب القروي عزِّ الدين وتنويره بما يدور في العالم من صراع.

* ففي الفترة التي درس فيها عزُّ الدين القسَّام في مصر - وهي ما بين 1896م إلى 1904م - كانت الحياة السياسية في أوجِّها، فقد شهد الأزهر في هذه المرحلة حملة التجديد التي قادها الشيخ محمد عبده، وقد مايز الشيخ محمد عبده بين الإسلام وبين الاستسلام، فأكد أن من أسباب حفظ الأمة عدم الاعتماد على الأجنبي، وأن من سمات الأمة الصالحة ألا تقبل الأمراء والحكام الفاسدين الظالمين. ثم كان بعد ذلك أن تقدم الزعامة السياسية الشعبية في مصر الزعيم مصطفى كامل لمقاومة الاحتلال، وكان يعتمد على المناظرات السلمية والخطب والمؤتمرات والندوات والمقالات والأشعار.

فأثرت هذه الفترة التي عاشها الشيخ القسَّام مع أستاذه الشيخ محمد عبده من الناحية الفكرية، وكذلك أيضا أثرت من حيث الناحية السياسية، فقد سبق هذه الفترة هزيمة عرابي في معركة التل الكبير، وتبعها تجربة الزعيم مصطفى كامل، أحد الأصوات الثورية في تاريخ مصر.

هكذا عرف الإمام المجاهد في مصر الاستعمارَ الغربي وجهًا لوجه، ورأى هجوم المفكرين المتغربين على الإسلام فكرًا وحضارةً وتاريخًا، وفيها عرف عن الحركة الصهيونية وليدة الاحتلال الغربي وربيبته، وسمع عن تطلعها وأطماعها بفلسطين.

* بدأ الجهاد في حياة الشيخ فور قيام الإيطاليين بمحاصرة ليبيا عام 1911م، حيث قاد الشيخ المجاهد مظاهرة طافت شوارع البلدة وهي تهتف «يا رحيم يا رحمن، غرق أسطول الطليان»، ثم انتقل الأسطول من المحاصرة إلى الاحتلال، فانتقل القسَّام من المظاهرات إلى التطوع القتالي، وانتقى 250 متطوعًا، وقام بحملة تبرعات كي يؤمِّن معاش هؤلاء الرجال وعائلاتهم، واتصل بالسلطات العثمانية، فأبدت ترحيبًا حارًّا، وطلبت من هؤلاء المتطوعين السفر إلى الإسكندرية، كي يستقلوا باخرة إلى طرابلس الغرب، وبعد أن وصلوا إلى إسكندرونة، انتظروا فيها أربعين يومًا دون جدوى، ثم تلقوا الأمر من السلطات بالعودة إلى بلدهم ، فبنوا مدرسة بمال التبرعات لتعليم الأُميين.

وفي هذا دلالة على أن الشيخ القسَّام اعتبر محاربة الجهل وتعليم المسلمين من الجهاد في سبيل الله، يصرف عليه من الأموال المخصصة للجهاد، وهذا ما يعكس وعي القسَّام وفهمه العميق لرسالة الإسلام.

* ولما احتل الفرنسيون ساحل سوريا، قاومهم بشدة، ونادىٰ في تلامذته ومريديه: بأن الجهاد أصبح واجبًا.

وخلال هذه الفترة حاولت فرنسا أن تقنع القسَّام بترك الثورة والرجوع إلى بيته، فأرسلت إليه زوج خالته ليقنعه بذلك على أن توليه فرنسا القضاء وأن تجزل له العطاء، فرفض الشيخ عز الدين القسَّام؛ فأصدرت السلطات الفرنسية عليه حكم الإعدام، فبقي متخفِّيًا فترة من الزمن.

* وخلال الحرب العالمية الأولىٰ، كان القسَّام قد وثّق صلاته بمشايخ الجبل وكل الوطنيين في الساحل السوري وفي الداخل، وأبرزهم المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي ت 1950م.

وعندما نادى المنادي في أرجاء اللاذقية أن يا خيل الله اركبي، كان القسَّام أول من لبى وأجاب، فتقلد السلاح جنديًّا في خدمة الإسلام، وكان معه طائفة من مريديه وأتباعه الذين علمهم وهذبهم.

بقي الشيخ يجاهد ضد الفرنسيين في سوريا مع من تبقى من أتباعه مدة لا تقل عن سنة، استفاد خلالها من التجارب التي خاضتها الثورة، فكانت بتنوع تجاربها وتحالفها مدرسة تربى في قلبها الشيخ عزُّ الدين القسَّام، وعرف كيف يُحوِّل الفلاحين إلى مجاهدين ليواجهوا الجيوش المدربة أحدث تدريب، يتحدونها بإرادتهم الصلبة وعقيدتهم التي لا تلين.

* وقد كان القسَّام يمزج وعظه الديني بأحاديث ومأثورات، تبين المكانة العظمىٰ للشهيد في الجنة، وكذلك فإن الجهاد بالمال لا يقل أهمية عن الجهاد بالنفس.

* الانتقال إلى فلسطين وقيام الثورة المسلحة:

التجأ القسَّام مع ستة من رفاقه إلى فلسطين حيث وصل إلى (حيفا) أواخر صيف 1921 ثم لحقت به أسرته بعد حين وكان وصوله إلى فلسطين إيذانًا ببداية مرحلة جديدة ومجيدة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد قوات الانتداب البريطاني، وقطعان اليهود التي جاءت تغتصب الأرض، وتقيم وطنها القومي الذي وعدهم به بلفور، وزير خارجية بريطانيا، على حساب عرب فلسطين.

آمن القسَّام مستفيدًا من دروس النضال التي عاشها، بأن الثورة المسلحة هي وحدها القادرة على إنهاء الانتداب، والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين، ومن الطبيعي أن تحتاج الثورة المسلحة إلى تخطيط سياسي وعسكري، وإلى تعبئة الجماهير نفسيًّا لتأييد الثورة والاشتراك فيها، وإلى تنظيم سرِّيٍّ ثوري يُربى فيه المقاتلون عسكريًّا وسياسيًّا.

وفاته:

في صباح يوم 19 تشرين الثاني زحفت قوات البوليس الإنجليزي إلى جبال جنين، وطوقت منذ طلوع الفجر قرى: يعبد، واليامون، وبرقين، وكفر دان، وفقوعة، وكان الشيخ القسَّام مع أحد عشر مناضلًا في أحراش قرية (يعبد) في خربة الطرم في الجهة الشمالية الشرقية من (يعبد).

أما إخوانه فهم: الشيخ محمد الحنفي أحمد، والشيخ يوسف الزيباوي، والشيخ حسن الباير، والشيخ أحمد جابر، والشيخ أسعد كلش، والشيخ نمر السعدي، وعرابي البدوي، وتوفيق الزيري، وناجي أبو زيد، ومحمد يوسف، وداود خطاب.

وعرفت القوات الإنجليزية أنَّ الشيخ القسَّام هو قائد الثورة، وأنه يقيم في أحراش (يعبد)، فأرسلت إليه خمسمائة جندي، وفرضت عليه طوقًا بحيث لا يمكنه الانسحاب، كما لا يمكن للنجدات أن تصل إليه.

«وحين طُلب منه أن يستسلم؛ أجاب: إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل اللّه؛ والتفت إلى زملائه قائلًا: موتوا شهداء».

ودارت معركة بين قوتين غير متكافئتين بالعدد والعدة، وكان كل مجاهد يقاتل أربعين جنديًّا، ونشبت المعركة في الفجر، واستمرت حتى الظهر، فانتهت بموت قائد الثورة الشيخ عزِّ الدين القسَّام، والشيخ محمد الحنفي أحمد، رفيق جهاده في سوريا، والشيخ يوسف الزيباوي، كما جرح جميع إخوانه.

ووقع في الأسر الجرحى من المناضلين، وهم: أحمد جابر، وعرابي البدوي، ومحمد يوسف، وتمكن الآخرون من الإفلات من طوق الجنود، وقد قتل من الإنجليز عدد كبير، إلا أن البلاغ الرسمي لم يعترف إلا بمقتل ثلاثة جنود.

ثم أصدرت السلطات البريطانية بلاغًا نعتت فيه القسَّام وصحبه بالأشقياء، وجرت بعد ذلك محاكمات تاريخية للأسرى من الجرحى وغير الجرحى.

وبذلك تمكن الإنجليز من القضاء على قائد الثورة وعدد من إخوانه الأبرار، وفشلت الخطة المقررة لاحتلال دوائر الحكومة في حيفا، والاستيلاء على الأسلحة التي ستسلم إلى المجاهدين للقيام بأعمال ثورية واسعة، لمنع إقامة دولة يهودية في أي جزء من أرض فلسطين.

وبعد استشهاد العالم القائد المجاهد الشيخ عز الدين القسَّام واثنين من إخوانه الأبرار في ساحات الشرف والكرامة، واعتقال خمسة منهم، اضطر الآخرون إلى الاختفاء في الجبال لإتمام رسالة القسَّام الثورية المقدسة في الوقت المناسب.

ولقد أكرم سكانُ مدينة حيفا البواسل الشهداءَ الأبرار، وتحدَّوا السلطات الغاشمة، وجرت جنازة مهيبة، اشترك فيها عشرات الألوف من أبناء الشعب، وجرت مظاهرات وطنية أثناء تشييع جنازة الشهداء، حيث هاجم أبناء الشعب الثائر دوائر البوليس، والدوريات الإنجليزية بالحجارة.

ونشرت تلك المظاهرات وعيًا في صفوف الشعب الفلسطيني العربي المسلم، وأخذ كل فرد يفكر بالثورة المسلحة على الظلم والطغيان، وأخذ إخوان القسَّام من العلماء يحرضون الشعب على القتال، وكان للعالم الشيخ كامل القصَّاب وزملائه دورًا بارزًا في استلام زمام المبادرة بعد القسَّام.

وسار موكب الجنازة مجللًا بالأعلام العربية، حيث صُلي على الشهداء  في المسجد الكبير، وشُيِّع القسَّام إلى قبره في قرية (الياجور) التي تبعد عن (حيفا) نحو عشرة كيلومترات، سارها المشيعون على الأقدام حاملين نعشه - رحمه الله.

وبذلك يكون المجاهد الشيخ عز الدين القسَّام أول من عمل عملاً مركزًا للثورة، وترك للأمة عشرات المخلصين قاموا بالدور الرئيسي البارز بالثورة الكبرى التي اندلعت في (15) نيسان سنة 1936.

وقد أزعج القسَّام السلطة المنتدبة حتى بعد موته، فقد استدعى مدير المطبوعات أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها، وحظر عليهم كتابة شيء عن القسَّام، وهدد بمحاكمتهم وتعطيل صحفهم.

وبموت الشيخ القسَّام انطوت صفحة مجيدة من صفحات البطولة والتنظيم والتخطيط الإسلامي في معارك فلسطين، إلا أن ثورة القسَّام لم تمت بموته، بل بقيت منارة لأحرار فلسطين يؤمنون بأنه لا حياة لهم ولا كرامة بدون السير على خط ونهج القسَّام، الذي عمل على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.

المراجع:

* الثورة والوعي- دراسة في جهاد وحياة الشهيد عز الدين القسَّام: سميح حمودة.

* عز الدين القسَّام: علي حسين خلف.

* شهادة العصر والتاريخ: أنور الجندي.

* عز الدين القسام- رواية تاريخية: عاصم الجندي.

* الرائد الأول للجهاد في فلسطين عز الدين القسَّام: جمال غريسي.


التقييم الحالي
بناء على 80 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث