نسخة تجريبيـــــــة
الشيخ الصوفي الزاهد والقائد المجاهد عمر المختار

«اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة»

 الاسم والنسب:

هو الشيخ عمر المختار محمد فرحات أبريدان أمحمد مؤمن بوهديمة عبد الله علم مناف بن محسن بن حسن بن عكرمة بن الوتاج بن سفيان بن خالد بن الجوشافي بن طاهر بن الأرقع بن سعيد بن عويده بن الجارح بن خافي (الموصوف بالعروة) بن هشام بن مناف الكبير، من كبار قبائل قريش.

من بيت فرحات من قبيلة «بريدان»، وهي بطن من قبيلة «المنفة» أو «المنيف»، والتي ترجع إلى قبائل بني مناف بن هلال بن عامر أولى القبائل الهلالية التي دخلت «برقة».

أمه: عائشة بنت محارب.

 المولد والنشأة:

- ولد الشيخ عمر المختار سنة 1858م في قرية «جنزور الشرقية» منطقة بئر الأشهب شرق «طبرق» في بادية البطنان في الجهات الشرقية من «برقة»، التي تقع شرقي «ليبيا» على الحدود المصرية.

نشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة، التي استمدوها من تعاليم الطريقة «السنوسية» القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

تربى يتيمًا، حيث وافت المنية والده وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وكانت زوجته عائشة بصحبته، فعهد -وهو في حال المرض- إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني -شقيق شيخ زاوية «جنزور» الواقعة شرق «طبرق»- بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققًا رغبة والدهما،  فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى.

وقد ظهر نبوغ الشيخ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين؛ ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في «ليبيا» و«إفريقيا»؛ لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة، ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير على يد كبار علماء السنوسية ومشايخهم، في مقدمتهم الإمام السيد المهدي السنوسي قطب الطريقة الصوفية السنوسية، فدرس علومَ اللغة العربية، والعلوم الشرعية، وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولكنه لم يكمل تعليمه كما تمنى.

شيوخه:

من أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم:

- السيد الزروالي المغربي.

- السيد الجواني.

- العلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني.

 وغير هؤلاء كثير، وقد شهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.

 تصوفه وعبادته:

كان الشيخ عمر المختار شديدَ الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يختم القرآن الكريم كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: «يا عمر، وردك القرآن»، وذلك حينما استأذن في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري، وعندما دخل على المهدي تناول مصحفًا كان بجانبه وناوله للمختار، وقال: هل لك شيء آخر تريده، فقال له: يا سيدي إن الكثيرين من الإخوان يقرؤون أورادًا معينة من الأدعية والتضرعات أجزتموهم قراءتها، وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات، فأطلب منكم إجازتي بما ترون. فأجابه بقوله: «يا عمر، وردك القرآن»، فقبل يده وخرج يحمل هذه الهدية العظيمة «المصحف»، ثم حكى عن حاله مع أمر شيخه فقال: «ولم أزل بفضل الله أحتفظ بها في حلي وترحالي، ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم، وصرت مداومًا على القراءة فيه يوميًّا لأختم السلكة كل سبعة أيام، وسمعت من شيخنا سيدي أحمد الريفي: أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئًا (بالفاتحة) إلى (سورة المائدة)، ثم إلى (سورة يونس) ، ثم إلى (سورة الإسراء)، ثم إلى (سورة الشعراء)، ثم إلى (سورة الصافات)، ثم إلى (سورة ق)، ثم إلى آخر السلكة، ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب».

أخلاقه:

تفوق عمر المختار على أقرانه بصفات عدة، منها: النجابة، ورزانة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة؛ فاستحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه السيد المهدي السنوسي؛ مما زاده رفعة وسموًّا، فتناولته الألسن بالثناء بين العلماء ومشايخ القبائل وأعيان المدن، حتى قال فيه السيد المهدي واصفًا إياه: «لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم»، ولثقة السنوسيين به؛ ولَّوه شيخًا على زاوية القصور بـ«الجبل الأخضر»؛ فقد وهبه الله تعالى ملكات، منها: جشاشة صوته البدوي، وعذوبة لسانه، واختياره للألفاظ المؤثرة في فن المخاطبة، وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة على مستمعيه.

 شجاعته:

إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر، ففي عام (1311هـ- 1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى «السودان»، وفي «الكفرة» وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي «الزوية» و«المجابرة» ، وتجار آخرين من «طرابلس» و«بنغازي» تتأهب للسفر إلى «السودان»، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها، وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من «السودان»، قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وَعِرٍ لا مسلك لنا غيره، ومن العادة -إلا في القليل النادر- أنه يُوجد فيه أسدٌ ينتظر فريستَه من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيرًا كما يترك الانسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام، واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل، ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلًا: «إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أُبطلت، فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان، إنها علامة الهوان والمذلة، إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا».

 وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلًا: «إنني أخجل عندما أعود، وأقول: إنني تركت بعيرًا إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي، وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها».

وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر، فقال أحد التجار -وقد خاف من هول المنظر، وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد لأن أتنازل عن بعير ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته -وكانت من النوع اليوناني- ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل، فكان له ما أراد.

ومن المواقف العظيمة التي نالت إعجاب شيوخه من الحركة السنوسية: أنهم عندما خرجوا لمساندة إخوانهم في «تشاد»، بعد أن زحف الاستعمار الفرنسي على مراكزهم، أصيبت الإبل التي كانت تحمل الأثقال للمجاهدين بمرض الجرب، وكان عددها لا يقل عن أربعة آلاف بعير، وكانت تلك الإبل هي قوام الحياة بالنسبة للمجاهدين، واهتم السيد المهدي السنوسي بشأن علاجها، ووقع اختياره على عمر المختار ليكون المسئول عن هذه المهمة التي شغلت بال المجاهدين، فأمره بأن يذهب بالإبل إلى موقع «عين كلك» نظرًا لوفرة مائه ولصلاحيته، وكان على عمر المختار مهمة أخرى، وهي الاحتياط والحرص الشديد واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع، واختار عمر المختار من المجاهدين مجموعة خيرة، وذهب لتنفيذ أمر القيادة، وكان توفيق الله له عظيمًا في مهمته العسيرة؛ فنال إعجاب السيد المهدي.

 جهاده:

إنه الصفحة المشرقة التي تلألأت بالجهاد الصوفي ضد المحتلين في العصر الحديث، سائرا على درب من سبقوه من أئمة الصوفية فكان نارًا على أعداء الله كما كان نورًا لأوليائه.

جهاده قبل الاحتلال الإيطالي:

عندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في «تشاد»، نظمت الحركة السنوسية نفسها، وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان عمر المختار من ضمنهم، فقارع الاستعمار الفرنسي مع كتائب الحركة السنوسية المجاهدة في «تشاد»، وبذل ما في وسعه، حتى لفت الأنظار إلى حزمه وعزمه، وفراسته وبعد نظره وحسن قيادته، وبقي عمر المختار في «تشاد»، يعمل على نشر الإسلام ودعوة الناس وتربيتهم، إلى جانب جهاده ضد فرنسا، فحمل الكتاب الذي يهدي بيدٍ، والسيف الذي يحمي باليد الأخرى، وظهرت منه شجاعة وبطولة وبسالة نادرة في الدفاع عن ديار المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى أمرها أمنع من عرين الأسد، ولا يخفى ما في ذلك من إدراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه وعقيدته وأمته.

وفي عام 1906م رجع عمر المختار بأمر من القيادة السنوسية إلى «الجبل الأخضر»؛ ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يستمر طويلًا؛ فقد بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة «البردي» و«مساعد» و«السلوم» على الحدود الليبية المصرية.

ولقد شهد عام 1908م أشد المعارك ضراوة، وانتهت بضم «السلوم» الى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد الشيخ عمر المختار الى زاوية «القصور» وبرزت شخصيته بين زملائه مشايخ الزوايا، وبين شيوخ وأعيان القبائل، ولدى الدوائر الحكومية العثمانية، وظهرت مقدرته في مهمته الجديدة بصورة تلفت النظر، وأصبح متميزًا في حزمه في إدارة الزاوية، وفي تعاونه مع زملائه الآخرين، وفي معالجته للمشاكل القبلية، وفي ميدان الإصلاح العام مضربًا للأمثال.

- الاحتلال الإيطالي لليبيا:

عندما اندلعت الحرب الليبية الإيطالية عام 1911م، كان عمر المختار وقتها بواحة «جالو»، فخفَّ مسرعًا إلى زاوية «القصور» وأمر بتجنيد كل من كان صالحًا للجهاد من قبيلة «العبيد» التابعة لزاوية «القصور»، فاستجابوا لندائه، وأحضروا لوازمهم، وحضر أكثر من ألف مقاتل، وكان عيد الأضحى على الأبواب –أي: كان ذلك قبل العيد بثلاثة أيام فقط- فلم ينتظر السيد عمر المختار عند أهله حتى يشاركهم فرحة العيد، فتحرك بجنوده وقضوا يوم العيد في الطريق، وكانت الذبائح التي أكل المجاهدين من لحومها يوم العيد مقدمة من الشيخ عمر المختار شخصيًّا، ووصل المجاهدون وعلى رأسهم الشيخ عمر المختار وبرفقته أحمد العيساوي إلى موقع «بنينة»، حيث معسكر المجاهدين الذي فرحوا بقدوم نجدة عمر المختار ورفقائه، ثم شرعوا يهاجمون العدو ليلًا ونهارًا، وكانت غنائمهم من العدو تفوق الحصر، ويصف أحد الذين كانوا معه في معركة «السلاوي» أحواله في المعارك، فيقول: «وقد فاجأنا العدو فقابله من المجاهدين الخيَّالة، بينما كان العدو يضربنا بمدافعه الرشاشة، واضطررنا للنزول في مكان منخفض مزروعًا بالشعير، وكانت السنابل تتطاير بفعل الرصاص المنهمر، فكأنها تحصد بالمناجل، وبينما نحن كذلك إذ رأينا مكانًا منخفضًا أكثر من المكان الذي نحن فيه، وأردنا أن يأوي إليه السيد عمر المختار بسبب خوفنا عليه، فرفض بشدة حتى جاءه أحد أتباعه يدعى السيد الأمين ودفعه بقوة إلى المكان الذي اخترناه لإيوائه، وحاول الخروج منه فمنعناه بصورة جماعية».

تولي السيد عمر المختار القيادة:

بعد أن ذهب الأمير محمد إدريس السنوسي إلى القاهرة لإدارة المعركة من هناك تولى السيد عمر المختار أمر القيادة العسكرية بـ«الجبل الأخضر»، فأخذ في تهيئة النفوس لمجابهة العدو، وبدأ جولاته في أنحاء المنطقة للاتصال بالأهالي وزعمائهم، بل وبالأفراد، كخطوة أولى للعمل الجديد الشاق في نفس الوقت، وقام بفتح باب التطوع للجهاد، فأقبل الليبيين من أبناء قبائل «الجبل» بوجوه مستبشرة وقلوب مطمئنة وتلهف على مجابهة العدو الغادر، وكانت ترافقه لجنة مكونة من أعيان وشيوخ قبائل المنطقة لمساعدته في عمله العظيم، فزار أغلب مناطق «الجبل» و«البطنان»، وما كاد السيد عمر ينتهي من جولته هذه ويطمئن للنتائج حتى قرر الالتحاق بالأمير في «مصر» ليعرض عليه نتيجة عمله، ويتلقى منه التوجيهات اللازمة.

وأثناء ذلك: حاولت «إيطاليا» بواسطة عملائها بـ«مصر» الاتصال بالسيد عمر المختار، وعرضت عليه بأنها سوف تقدم له مساعدة إذا ما تعهد باتخاذ سكنه في مدينة «بنغازي» أو «المرج»، وملازمة بيته تحت رعاية وعطف «إيطاليا»، وأنها مستعدة بأن تجعل من عمر المختار الشخصية الأولى في «ليبيا»، وإذا ما أراد البقاء في «مصر»، فما عليه إلا أن يتعهد بأن يكون لاجئًا، ويقطع علاقته بإدريس السنوسي، وفي هذه الحالة تتعهد حكومة «روما» بأن توفر له راتبًا ضخمًا يمكنه من حياة رغدة، وهي على استعداد أن يكون الاتفاق بصورة سرية، وتوفير الضمانات لعمر المختار، ويتم كل شيء بدون ضجيج تطمينًا لعمر المختار.

وقد أكد عمر المختار هذا الاتصال وهو في «مصر» لما سئل عن ذلك، وقال: «ثقوا أنني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأيي واتجاهي، فإن الله سيخيبه، ومن (طياح سعد) إيطاليا ورسلها هو جهلها بالحقيقة. وأنا لم أكن من الجاهلين والموتورين فأدعي أنني أستطيع عمل شيئًا في «برقة»، ولست من المغرورين الذين يركبون رءوسهم ويدعون أنهم يستطيعون أن ينصحوا الأهالي بالاستسلام، إنني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الأيام مطية للعدو وأذنابه فأدعو الأهالي بعدم الحرب ضد الطليان، وإذا -لا سمح الله- قُدِّر عليَّ بأن أكون موتورًا فإن أهل «برقة» لا يطيعون لي أمرًا يتعلق بإلقاء السلاح، إنني أعرف أن قيمتي في بلادي، إذا ما كانت لي قيمة أنا وأمثالي فإنها مستمدة من السنوسية».

 عاد عمر المختار من «مصر» وعيون الطليان تترصده، لكن لم تفلح محاولاتهم في الترصد له فحاولوا أن يكيدوا له كيدًا آخر، تحدث عنه السيد عمر المختار، بقوله: «كنا لا نتجاوز الخمسين شخصًا من المشايخ والعساكر، وبينما تجمَّع هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سمو الأمير، وكنا صائمين رمضان، وإذ بسبعة سيارات إيطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق؛ لأن مجيئها كان محلَّ استغرابنا ومفاجأة لم نتوقعها، وكنا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسية، فأخذنا نستعد في هدوء والسيارات تدنو منا في سير بطيء، فأراد علي باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً: لا بد أن نتحقق قبلًا من الغرض ونعرف شيئًا عن مجيء هذه السيارات؛ كي لا نكون البادئين بمثل هذه الحوادث، وبينما نحن في أخذٍ وردٍّ، وإذ بالسيارات تفترق في خطة منظمة المراد منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يُراد بنا، فأمطرناهم وابلًا من رصاص بنادقنا، وإذ بالسيارات قد ولت الأدبار إلى منتجع قريب منا، وعادت بسرعة تحمل صوفًا، ولما دنت منا توزعت توزيعًا محكمًا، وأخذ الجنود ينزلون ويضعون الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا.

وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان، وأخذت النار تلتهم السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ما كان معهم من الأسلحة».

وبدأت المعارك بين المجاهدين بقيادة عمر المختار وبين المحتلين بصورة قوية؛ مما اضطر قوات الاحتلال إلى القيام بالاعتقالات الجماعية للقبائل، وذلك بعد أن تم تعيين الجنرال «غراتسياني» حاكمًا لـ«برقة»، وكان نصرانيًّا حقودًا على الإسلام والمسلمين، لم يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فقد قام بأعمال عسكرية شنيعة للغاية في «فزان» واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد فيها.

 المختار أسيرا:

في 11 سبتمبر من عام 1931م، بينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع جنوده  في «الجبل الأخضر» في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قواتها لحصاره وألحقها بتعزيزات، واشتبك الفريقان في وادي «بوطاقة» ورجحت كفة العدو، فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائيًّا؛ فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه، فسرعان ما حاصره العدو من كل الجهات وتعرفوا على شخصيته، فنقل على الفور إلى «مرسى سوسه» في «الجبل الأخضر»، ومن ثم وضع على طراد، الذي نقله رأسًا إلى «بنغازي»، حيث أُودع السجن الكبير بمنطقة «سيدي أخريبيش»، ولم يستطع الطليان نقل الشيخ برًّا؛ لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.

وكان لاعتقاله في صفوف العدو صدىً كبيرًا، حتى إن غراتسياني لم يصدِّق ذلك في بادىء الأمر، وكان غراتسياني في «روما» حينها كئيبًا حزينًا منهار الأعصاب في طريقه إلى «باريس» للاستجمام والراحة؛ تهربًا من الساحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في «الجبل الأخضر»، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في «إيطاليا» تنال منه، والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه مشكِّكة في مقدرته على إدارة الصراع، وإذ به يتلقى برقية عاجلة من «بنغازي»، مفادها: إن عدوه اللدود «عمر المختار» وراء القضبان؛ فأصيب غراتسياني بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر، فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشيًا على قدميه محدثًا نفسه بصوت عال، ويشير بيديه ويقول: «صحيح قبضوا على عمر المختار؟»، ويرد على نفسه: «لا، لا أعتقد»، ولم يسترح باله فقرر إلغاء إجازته، واستقل طائرة خاصة وهبط بـ«بنغازي» في نفس اليوم، وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه لكي يراه بأم عينيه.

 وصل غراتسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر، وأعلن عن انعقاد المحكمة الخاصة يوم 15 سبتمبر 1931م, وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة، رغب غراتسياني في الحديث مع عمر المختار، يذكر غراتسياني في كتابه «برقة الهادئة»: «وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل, رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة, وكان وجهه مضغوطًا؛ لأنه كان مغطيًا رأسه (بالَجَرِدْ)، ويجر نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال، له منظره وهيبته، رغم أنه يشعر بمرارة الأسر ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح.

غراتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟

أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني.

غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم؛ لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله.

غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟

فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أي شيء …وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح».

ويستطرد غراتسياني حديثه، فيقول: وعندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به؛ فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد, فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد».

وقد عُقدت للشيخ الشهيد محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي بـ«بنغازي» مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع، في 15 سبتمبر 1931م، وبعد ساعة تحديدًا صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقًا حتى الموت، عندما تُرجم له الحكم، قال الشيخ: «إن الحكم إلا لله …لا حكمكم المزيف ... إنا لله وإنا إليه راجعون».

 قالوا عنه:

- شيخه محمد المهدي السنوسي: «لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا».

- الشاعر خليل مطران:

 

أبيت والسيف يعلو الرأس تسليمًا

*

وجدت بالروح جود الحر أن ضيما

لله يا عمر المختار حكمته

*

في أن تلاقي ما لاقيت مظلومًا

إن يقتلوك فما أن عجلوا أجلا
 

*

قد كان مذ كنت مقدورًا ومحتومًا
 

 - الجنرال (رود ولفو غراتسياني) في بيان له عن السيد عمر المختار: «إن عمر المختار يختلف عن الآخرين، فهو شيخ متدين بدون شك، قاس وشديد ومتعصب للدين ورحيم عند المقدرة، ذنبه الوحيد أنه يكرهنا كثيرًا، وفي بعض الأوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة مثل الجبليين، كان دائمًا مضادًّا لنا ولسياستنا في كل الأحوال، لا يلين أبدًا، ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن مبادئَه فهو دائمًا موضع الاحترام في التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا».

ثم يصفه بوصفٍ أدق، فيقول:

«عمر المختار يتمتع بذكاء حاضر وحاد، وكان مثقفًا ثقافة علمية ودينية، له طبع حاد ومندفع، ويتمتع بنزاهة خارقة، لم يحسب للمادة أي حساب، متصلب ومتعصب لدينه، وأخيرًا كان فقيرًا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا».

- أمير الشعراء أحمد شوقي:

 

يا أيها السيف المجرد بالفلا
 

*

يكسو السيوف على الزمان مضاء
 

تلك الصحارى غمد كل مهند
 

*

أبلى فأحسن في العدو بلاء
 

وقبور موتى من شباب أمية
 

*

وكهولهم لم يبرحوا أحياء
 

لو لاذ بالجوزاء منهم معقل
 

*

دخلوا على أبراجها الجوزاء
 

فتحوا الشمال سهوله وجباله
 

*

وتوغلوا فاستعمروا الخضراء
 

  وفاته: 

في يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931م عند الساعة التاسعة صباحًا نفذ الطليان في «سلوق» جنوب مدينة «بنغازي» حكم الإعدام شنقًا في شيخ الجهاد وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.

ودفعت الخسة بالإيطاليين أن يفعلوا عجبًا في تاريخ الشعوب، وذلك أنهم حرصوا على أن يجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان «بنغازي»، وعددًا كبيرًا من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ، فحضر ما لا يقل عن عشرين ألف نسمة. على حد قول غراتسياني في كتاب «برقة الهادئة».

ويقول الدكتور العنيزي: «لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على حضور المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن -شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي- لم أكن أستطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور .

ويالها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

لقد كان الشيخ الجليل يتهلل وجهه استبشارًا بالشهادة وارتياحًا لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلى مكان المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار؛ إذ ربما يتحدث إليهم أو يقول كلامًا يسمعونه، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.

وهناك أعمل فيه الجلاد حبل المظالم، فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخطًى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه، ومنهم ليبيون، أنه صعد سلم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ أذان الصلاة، وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} [الفجر: 27-28].

لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل، وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه، فلقد كان يقول: «اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة».


التقييم الحالي
بناء على 101 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث