نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى فى القرن الخامس ودور الغزالى فيه

حجة الإسلام الغزالى :

ويعتبر الإمام الغزالي أكبر مدافع في الإسلام عن التصوف السني، وهو التصوف القائم على عقيدة أهل السنة والجماعة، وعلى الزهد، والتقشف، وتربية النفس وإصلاحها. وإن كان قد سبقه إلى هذا الاتجاه الإمامين القشيرى ، والهروى ، (راجع: @الطريق الصوفى فى القرن الخامس ودور القشيرى فيه@)، (@الطريق الصوفى فى القرن الخامس الهروى ودور فيه@)، (@الطريق الصوفى فى القرن الخامس@).

ويتفق الغزالي في هذا مع صوفية القرنين الثالث والرابع ، ومع القشيري والهروي وغيرهم من السابقين عليه الذين ينتمون إلى نفس الاتجاه. على أن الغزالي أعظم هؤلاء جميعًا من ناحية شخصيته، وثقافته، وتصوفه، وعلمه. وهو يعد بحق من أعظم صوفية الإسلام، وأثره على التصوف من بعده كبير للغاية.

والإمام الغزالي هو محمد بن محمد بن أحمد الملقب بــ: (أبي حامد)([1])، والمعروف لعلو مكانته بــ: (حجة الإسلام). كان والده – فيما يذكر بعض المترجمين له- يشتغل بغزل الصوف، ولهذا عرف صُوفِيُنَا بالغزَّالي (بتشديد الزاي) وإن كان قد عرف –أيضًا- بالغزَالي (من غير تشديد الزاي) نسبة إلى بلدة تسمى (غزالة)، كما نُقِلَ عن السمعاني في كتاب (الأنساب).

وقد ولد بطوس من أعمال خراسان عام 450هـ (وقيل451هـ). ويذكر السبكي أنه تربى تربية صوفية في بيت صديق لوالده متصوف هو وأخوه بعد وفاة والده([2]). 

وقد تتلمذ الغزالي في صباه على أحد فقهاء طوس، وهو أحمد الراذكاني، ثم سافر إلى جرجان ليأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وعاد بعد ذلك إلى طوس، ثم قدم نيسابور، واختلف إلى دروس أحد الأئمة المشهورين من المتكلمين الأشعرية هو أبو المعالي الجويني الملقب بــ: (إمام الحرمين) وقد «جدّ واجتهد حتى برع المذهب، والخلاف، والجدل، والأصلين -علم الكلام وأصول الفقه-، والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كل ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبًا أحسن تأليفها»، وكل ذلك «في مدة قريبة»حتى «صار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه –الجويني-»([3]). على حد تعبير ابن خلكان.

وظل الغزالي ملازمًا أستاذه الجويني إلى أن توفي هذا الأخير سنة 478هـ، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير المشهور نظام الملك، فأكرم وفادته، وعظمه وبالغ في الإقبال عليه.

وقد أدرك نظام الملك مكانة الغزالي، وتُرْوَى في ذلك رواية مؤداها أنه قد جرت بينه وبين بعض العلماء بحضرته مناظرة في عدة مجالس فظهر الغزالي عليهم جميعًا. وعندئذ اشتهر اسمه، وعهد إليه نظام الملك بالتدريس في مدرسته بغداد، وهي المعروفة بــ: (النظامية)، فقدم بغداد سنة 484هـ، وألقى بها دروسه فأعجب بها أهل العراق.

وكان الغزالي إبان هذه المراحل من حياته قد حَصَّلَ كثيرًا من العلوم وتعمق فيها، ومن بين هذه العلوم : الفلسفة، ولعله أقبل على دراستها لكي يزيل ما بدأ يساوره من شكوك إبان تدريسه، ولكنه لم يتوصل من تلك العلوم على اختلافها إلى ما فيه راحة نفسه، واستبد به القلق النفسي إلى حد أدى به إلى أزمة عنيفة، وصفها لنا وصفًا شيقًا في كتابه (المنقذ من الضلال) الذي يشبه كتاب القديس أوغسطين (الاعترافات) (Confessions).

وكان من نتائج هذه الأزمة أن انصرف الغزالي عن تدريس ما كان يدرسه من العلوم، وأقبل على العزلة عن الناس، مع أنه كان قد أصاب في التدريس شهرة واسعة، وحقق لنفسه من الجاه والنفوذ ما يصبو إليه العاديون من الناس.

ولم يحمل الغزالي على هذا في رأينا إلا صدقه مع نفسه، إذ كان يعلم منها أنه لم يدفعه إلى طلب العلوم الدينية وتدريسها إلا طلب الجاه وانتشار الصيت، فاستحقر حاله هذه، وطلب الخلاص عن الرياء.

ويصور لنا الغزالي أزمته تلك قائلًا: «ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق -التعلقات الدنيوية-، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أنني على شفا جرف هار([4])، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال ... فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقةتلك الأحوال يومًا، وأحل العزم يومًا، وأقدم فيه رِجْلًا، وأُؤَخِّرُ عنه أخرى، لا تصفو لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا  ويحمل جند الشهوة حملة فَيُفَتِرُهَا عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلاالقليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، ثم يعود الشيطان فيقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال.

«فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر... وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذا أقفل الله على لساني حتى اُعْتُقِلَ عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا تطييبًا لقلوب المختلفين إليَّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة، ولا أستطيعها البتة، ثم أورثت هذه العُقْلَةُ في اللسان حزنًا في القلب، بطل معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب، فكان لا يساغ لي شربة، ولا ينهضم لي لقمة. وتعدى (الأمر) إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سري إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم... .

ثم أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجأة المضطر الذي لا حيلة له»([5]).

وهكذا نشأت النزعة إلى التصوف عند الغزالي. وكانت هذه المرحلة من حياته الروحية بمثابة الاستعداد النفسي لسلوك طريق التصوف، وهي مرحلة تتركب من عدة حالات وجدانية كالشك، والقلق النفسي، والكآبة، والحزن العميق، والخوف من المجهول، ومحاولة إدراك حقيقة الكون، وكشف المحجوب، وإحساسات أخرى غامضة تنتهي كلها بالاتجاه إلى الله.   

كان الاتجاه إلى الله إذًا هو الدواء الشافي لأزمة الغزالي، وهو يصور لنا شفاءه قائلًا: «فأعضل هذا الداء ودام قريبًا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظَنَّ أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضَيَّقَ رَحْمَةَ الله الواسعة»([6]).

أصبح الغزالي يستضيء في سلوكه بنور الإيمان، ولكنه ظل يبحث عن الحقيقة في المذاهب المختلفة التي كانت موجودة في عصره، وذلك في استقلالية فكرية أراد أن يرتفع بها -على حد تعبيره هو- من حضيض التقليد إلى يفاع([7])الاستبصار، واتخذ لنفسه قاعدة منهجية عبر عنها بقوله: «إن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم»([8]). وهي قاعدة تذكرنا بالقاعدة الأولى من قواعد منهج الفيلسوف الفرنسي المحدث ديكارت التي تجعل من بداهة الفكرة، أو وضوحها وتميزها، أساسًا ليقينها([9]).  

ثم حصر الغزالي بعد ذلك طالبي الحق في العصر في أربعة أصناف:

المتكلمين، والباطنية (أو التعليمية)، والفلاسفة، والصوفية. ونقد المتكلمين، والباطنية من الشيعة، والفلاسفة في (المنقذ من الضلال)، وقد نقدهم –أيضًا- في (إحياء علوم الدين)، وانتهى إلى أن الصوفية هم أرباب الحق، مبينًا أن حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة؛ حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله. وابتدأ الغزالي بتحصيل علم الصوفية من مطالعة كتبهم، وكلام مشائخهم حتى يقف على كنه مقاصدهم العلمية، فَحَصَّلَ ما أمكنه تحصيله من طريقهم بالتعلم والسماع، ولكنه ظهر له أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق، والحال، وتبدل الصفات. فعلم يقينًا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وتبين له أن لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، ورأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله.

أقبل الغزالي بعد ذلك على حياة من نوع جديد، وهي حياة الزهد والعبادة، والتكمل الروحي والأخلاقي، والتقرب إلى الله. وفي سنة 488هـ خرج من بغداد([10])وقصد الحج، ولما انتهى من الحج ذهب إلى الشام سنة 479هـ، وأقام بدمشق يدرس بزاوية الجامع في الجانب الغربي منه، وانتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة. وقيل: إنه قدم مصر وأقام بالإسكندرية مدة.

ثم عاد إلى طوس واشتغل بالتأليف. ويقول ابن خلكان إنه: «ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها  بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاه -بيتًا- للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، وَوَزَّعَ أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس إلى أن انتقل إلى ربه([11])، وكان ذلك في يوم الاثنين رابع عشر من جمادى الآخرة سنة 505هـ».

ولقد كان الإمام الغزالي مفكرًا خصب الإنتاج، واسع الثقافة، وهو قد ألف عددًا ضخمًا من الكتب والرسائل قَدَّرَهَا بعض شراح (الإحياء) بما يقرب من ثمانين، وهي في مجالات عدة: كالفقه وأصوله، وعلم الكلام، والأخلاق، والجدل، والفلسفة، والتصوف.([12])وسنشير هنا فقط إلى أبرزها.

ففي مجال الفلسفة نجده قد ألف كتابه المشهور (مقاصد الفلاسفة)؛ ليعرض فيه علومهم الطبيعية والإلهية عرضًا موضوعيًّا وذلك طبقًا لمذهب ابن سينا في الجملة([13]). وكتابه (تهافت الفلاسفة) الذي يفند فيه مذاهبهم مبينًا ما فيها من التناقض والقصور، والظاهر أنه ألفه قبل مغادرة بغداد سنة 488هـ، وهو قد كفرهم كما هو معلوم في مسائل ثلاث، وهي: قولهم بقدم العالم، وإنكار علم الله بالجزئيات، وإنكار الحشر الجسماني.

وفي مجال علم الكلام نجد له كتبًا تشهد له بالتعمق في مباحثه، مثل: (الاقتصاد في علم الاعتقاد)، و(إلجام العوام عن علم الكلام). وهو كمتكلم يعتبر من أئمة الأشعرية من أهل السنة.

وللغزالي –أيضًا- كتاب مشهور في علم المنطق هو (معيار العلم).

ونحن واجدون للغزالي في مجال الفقه: الوسيط، والبسيط، والوجيز، والخلاصة.أما في مجال أصول الفقه فله كتاب مشهور هو (المستصفى).

أما كتبه ورسائله في التصوف فكثيرة أهمها (إحياء علوم الدين)، وقد أبان فيه بالتفصيل عن مذهبه في التصوف رابطًا إياه بالفقه والأخلاق الدينية، و(المنقذ من الضلال) الذي صور فيه حياته الروحية أجمل تصوير، و(منهاج العابدين)، و(كيمياء السعادة)، و(الرسالة اللَّدُنيِّة)، و(مشكاة الأنوار)، و(المضمون به على غير أهله)، و(المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى) وغير ذلك.

وقد وصف ابن خلكان([14])كتب الغزالي بأنها: «كثيرة وكلها نافعة»، ووصف (إحياء علوم الدين) بأنه: «من أنفس الكتب وأجملها». وقد عكف الناس على كتبه قديمًا وحديثًا؛ لما عرفوه عن مُصَنَّفِهَا من علو المكانة، ولما وجدوا فيها من الفائدة المحققة، وتأثروا بها. فكانت فتحًا جديدًا في تاريخ الحياتين الفكرية والروحية في الإسلام.

وقد عرف المدرسيون (The Scholastics) في أوربا الغزالي وفلسفته، وذلك من خلال ما ترجم من كتبه في العصر الوسيط، فقد ترجم جنديسالفو (Gundisalvo) (مقاصد الفلاسفة) إلى اللاتينية، ونشر في فينيسيا (Venice) سنة 1506م. وترجم كالونيموس (Calonymus) كتابه (تهافت الفلاسفة) إلى اللاتينية –أيضًا-. وترجم من مؤلفاته إلى العبرية نفس الكتابين اللذين ذكرنا، وبعض رسائل أخرى قصيرة، وترجمت أجزاء من (إحياء علوم الدين) إلى بعض اللغات الأوربية كالإنجليزية والإسبانية. وترجم هومس (Homs) وألباني (Albany) (كيمياء السعادة) إلى الإنجليزية سنة 1873م، وترجمه دي فيلد (dE Field) في لندن سنة 1910م. وترجم باربييه دي مينارد (Barbier de Miaard) (المنقذ من الضلال) إلى اللغة الفرنسية، ونشر في (المجلة الآسيوية) (Journal Asiatique) سنة 1878م، وترجمه –أيضًا- شمويلدرز (Schmoelders) إلى اللغة الفرنسية، كما ترجمه دي فيلد إلى الإنجليزية سنة 1909م. وعني بلاثيوس (Palacios) بدراسته وبترجمة كثير من فصول كتبه الأخرى إلى الإسبانية، كما ترجمت رسالته (أيها الولد) إلى الألمانية، ترجمهاهامر برجستال (Hammer Purgstsll) ونشرت في فيينا سنة 1838م، وترجمها شيرز (Scheres) إلى الإنجليزية، ونشرت في بيروت 1933م، وترجمها محمد بن شنب إلى الفرنسية سنة 1901م، ونشرت في (المجلة الإفريقة) (Revue Africaine)، وترجمها المستشرق الألماني لا تور (Lator) إلى الإسبانية، ونشرت في بيروت سنة 1955([15]).

أما الدراسات التي كتبت عن الغزالي في أوربا والشرق فأكثر من أن تحصى، وقد ذكر منها المستشرق الإسباني  هرناندس (Hernandez) أربعين دراسة([16])تتناول مختلف نواحي حياة الغزالي وفكره، وأثره في الفكر الإسلامي والأوروبي.

وقد أبدى كثير من الدارسين في الغرب إعجابهم بالغزالي الفيلسوف والمتصوف حيث إنه لا يزال إلى يومنا هذا صاحب أفكار حية.

وقد وصفه ماكدونالد (Macdonald) في المقال الذي كتبه عنه في دائرة المعارف الإسلامية بأنه: «أكثر المفكرين الذين أنجبهم الإسلام أصالة، وأكبر علماء العقائد فيه»([17]).

وكان الغزالي ذا ثقافة واسعة عميقة، فقد أحاط بثقافات عصره على اختلافها واستطاع أن يتمثلها تمثلًا غريبًا، ويتبين ذلك بوضوح من مطالعة مصنفاته.

والغزالي كفقيه ينتمي إلى الشافعية، وكمتكلم إلى الأشعرية، وهو إلى جانب تمكنه من العلوم الشرعية، متمكن –أيضًا- من الفلسفة والمنطق، حتى إن بعض النقاد يعتبرون علمه بالفلسفة لا يقل عن علم الفلاسفة أنفسهم به، وليس من شك في أن عرضه لمذاهب الفلاسفة في (المقاصد) ونقده لهم في (التهافت)، يدلان على علم واسع بالفلسفة اليونانية، وإحاطة بدقائق مذاهبها.

على أنه يجب أن يوضع في الاعتبار-دائمًا- أن الغزالي ليس فيلسوفًا مع علمه الواسع بالفلسفة، فهو قد رفض الفلسفة طريقًا إلى اليقين([18])، وآثر عليها التصوف ومنهجه الذوقي.

والغزالي مع نقده للمتكلمين يظل في رأينا حتى بعد تصوفه متكلمًا أشعري العقيدة، ينظر إلى علم الكلام على أنه فرض كفاية([19])، إذ هو يقيم تصوفه على دعائم من الفقه وعلم الكلام معًا، ونقده للمتكلمين يتعلق أساسًا بمنهجهم، وليس بالعقائد الإسلامية التي يشتغلون بإثباتها والدفاع عنها، والتي هي أساس كل تصوف.

نقد الغزالي للمتكلمين والفلاسفة والباطنية:

لابد لنا قبل أن نشرع في بيان أهم آراء الغزالي في التصوف من أن نمهد لذلك بتحديد موقفه في إيجاز من أصحاب المذاهب المعاصرة له التي رأى بعد فحصها الانصراف عنها إلى التصوف، وهي مذاهب المتكلمين، والفلاسفة، والباطنية.

(1) أما بالنسبة للمتكلمين: فقد كان المتكلمون في عهد الغزالي يستمدون أدلتهم من كتب الفلاسفة لتأييد مذاهبهم الكلامية، أو لتفنيد مذاهب خصومهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو غيرهم. وكان علم الكلام أو العقائد الدينية قد صار ممتزجًا بالفلسفة عند المتأخرين، حتى اختلط الأمر فظن البعض أنهما علم واحد، على نحو ما يذكر ابن خلدون في مقدمته([20]).

وهو يذكر أن الذين اشتغلوا بالرد على الفلاسفة من المتكلمين لم يصرفوا عنايتهم للوقوف على منتهى علوم الفلاسفة، ولم يكن ما جاء في كتب المتكلمين إلا كلمات معقدة مبددة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلًا عمن يدعي دقائق العلوم، ذلك أن رَدُّ المَذْهَبِ قَبْلَ فِهْمِهِ، والاطلاع على كنهه رَمْيٌ في عماية([21]).

وهو يبين قصور منهج المتكلمين قائلًا: «ولكنهم -يعني المتكلمين- اعتمدوا في ذلك -في الرد- على مقدمات تَسَلَّمُوهَا من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئًا أصلًا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا»([22]).

يضاف إلى ما تقدم أن الغزالي يرى أن كثرة الجدل في الدين على طريقة المتكلمين، وإضاعة العمر في التفريعات الدقيقة لعلومهم، مما يعوق الإنسان الذي يريد التكمل الروحي والوصول إلى حقائق المعرفة([23]).

(2) وقد حمل الغزالي على الفلسفة حملة شديدة، فهو بعد أن فرغ من دراسته لعلم الكلام واستيعاب مذاهب المتكلمين، شرع يدرسها وعكف على الإلمام بمذاهبها، وبلغ فيما يبدو مبلغًا بعيدًا؛ لأنه ارتأى أنه لا يمكن أن يقف إنسان على فساد علم من العلوم إلا بالوقوف على منتهى ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم نفسه من الأغوار البعيدة، وفي هذه الحالة فقط يمكنه ادعاء فساد العلم([24]).

وبعدما تعمق الغزالي في دراسة الفلسفة ذكر أنها لم توفق إلى تحقيق ما كان يصبو إليه من كشف للحقيقة ومعرفة اليقين على وجه لا شبهة فيه، ورأى الغزالي أن في الفلسفة خداعًا وتلبيسًا، وتحقيقًا وتخبيلًا، وأغلب الفلاسفة موصوم بالإلحاد والكفر، وهم يتفاوتون فيما بينهم من حيث القرب أو البعد من الحق([25]).

ولكن هناك من العلوم التي اشتغل بها الفلاسفة ما لا يخالف الدين، فالرياضيات مثلًا:«ليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا»([26])، بل هي في رأيه:«أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهابعد فهمها ومعرفتها، ومسائل المنطق أيضًا لا شيء منها ينبغي أن ينكر، وكذلك الطبيعيات التي هي البحث في الأجسام المفردة أو المركبة كالمعادن، والنبات، والحيوان، ومنها أيضًا علم الطب، فلا شيء منها يخالف الدين إذا استثنينا قول الفلاسفة بالسببية، وإنكارهم أن الطبيعة كلها خاضعة لإرادة الله -لعل الغزالي يفسح هنا مكانًا للقول بخوارق العادات-. أما الإلهيات فيرى الغزالي أن فيها أكثر أغاليط الفلاسفة، وهم في رأيه لم يقدروا على الوفاء فيها بالشروط التي اشترطوها في المنطق.

وينتهي الغزالي إلى تكفير الفلاسفة في مسائل ثلاث([27])، أولها: القول بقدم العالم، فقد قال أرسطو بقدم المادة، وأن العالم قديم أزلي، وتابعه في ذلك بعض فلاسفة الإسلام الذين قالوا: إن العالم محدث من حيث إنه موجود بعلة، ولكنه قديم من حيث إنه فائض عن الله، فهو متأخر عن الله بالذات والرتبة، وليس متأخرًا عنه بالزمان.

وبعبارة أخرى رأى الغزالي أن جمهور الفلاسفة اتفق على أن العالم قديم لم يزل موجودًا مع الله متأخر عنه بالزمان، كوجود المعلول مع العلة، والنور مع الشمس، وأن تقدم البارئ على العالم تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان([28]).

وقد بسط الغزالي ردوده على الفلاسفة في هذا الشأن في (تهافت الفلاسفة)([29]).  

والمسألة الثانية التي كَفَّرَ الغزالي فيها الفلاسفة هي قولهم بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات([30]). فقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الله لا يعلم إلا نفسه، وأنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى ما كان وما يكون، وما هو كائن.

أما ابن سينا فقد قال: إن الله يعلم الأشياء كلها علمًا كليًّا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف باختلافه، والله يعلم الأشياء بعلم كلي، فيعلم الإنسان المطلق وخواصه، أما ما يتميز به شخص عن شخص فهو من شأن الحس لا من شأن العقل. وإنما نفى الفلاسفة عن الله العلم بالجزئيات لأنها تتغير، ولو كان يعلمها لتغير علمه؛ لأن العلم تابع للمعلوم، فإذا تغير المعلوم تغير العلم، وكان البارئ محلًّا للحوادث. وقد فند الغزالي آراء الفلاسفة في هذا الشأن بأدلة عقلية في (التهافت).

والمسألة الثلاثة التي كَفَّرَ فيها الغزالي الفلاسفة إنكارهم حشر الأبدان([31]). فقد قال الفلاسفة: إن النفس وحدها هي التي يستحيل عليها الفناء، وهي التي تبقى بعد الموت في سعادة روحانية، ولكنه يخالفهم في إنكارهم الجنة والنار الجسمانيتين، ويرى كذلك إمكان الجمع في الآخرة بين السعادتين الروحية والجسمانية، فيقول:

«وذلك –البعث- ممكن بردها -أي النفس- إلى أي بدن كان، من مادة البدن الأول أو من غيره أو مادة استؤنف خلقها، فإنه هو -أي الإنسان- بنفسه لا ببدنه»([32]).

 مما سبق يتبين لنا أن الغزالي لا يجحد فضل الفلسفة تمامًا، فهو قد ارتأى أنها تثقف الناس، ومن مباحثها ما لا يتعارض مع الدين، كالرياضيات التي يعترف الغزالي اعترافًا صريحًا بأنها علم صحيح، وكذلك الفلك المبني عليها، فهي جميعًا أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها، وكذلك المنطق. ولم ينكر الغزالي من الطبيعيات إلا بعض مسائل ارتأى أنها تخالف الدين. أما مذهب أرسطو كما نقله الفارابي وابن سينا فكثير الأخطاء([33])، وقد رأى واجبًا عليه أن يحاربه باسم المسلمين كافة على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، وقد قام بهذا متخذًا سلاح أرسطو نفسه وهو المنطق؛ لأنه رأى أن قوانين الفكر الأساسية التي يقررها المنطق لا سبيل إلى إنكارها.

(3) أما الباطنية أو التعليمية -وهم فرقة من غلاة الشيعة الإسماعيلية- فقد هاجمهم الغزالي –أيضًا- هجومًا عنيفًا، وكانت لهم في عصر الغزالي شهرة. وكان بعض أصدقاء الغزالي قد انتمى إليهم، وهم الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم المخصوصون بالاقتباس عن الإمام المعصوم وهو المعلم عندهم، ويرد عليهم الغزالي قائلًا: إن المعلم المعصوم عندنا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلمميت. يرد عليهم بأن معلمهم الذي يزعمونه غائب. وهو بالجملة يفند مذهبهم ويرد عليهم ردودًا أصولية قوية، مبينًا أن الأئمة قد يخطئون، خصوصًا وأن ادعاء العلم الباطني على طريقة غلاة الشيعة لا دليل عليه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلمنفسه: «أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر»([34]).

وقد رد الغزالي على الباطنية في مؤلفات خصصها لهذا الغرض، مثل كتاب (المستظهري)، و(القسطاط المستقيم)، و(حجة الحق).

وقد كان الباطنية في عصره يفسدون الشباب، ولهذا اهتم الغزالي بالرد عليهم  لِمَا كان يمكن أن يكون في مذاهبهم لو انتشرت من خطر التحلل الاجتماعي.

وبالجملة فإن الباطنية في رأي الغزالي شأنهم شأن الفلاسفة والمتكلمين لم يكونوا من أصناف الطالبين الذين استطاعوا الوصول إلى الحق.

ملامح من تصوف الغزالى:

لقد آثر الغزالي التصوف السني الذي يقوم على أساس عقيدة أهل السنة والجماعة، وأبعد عن ميدانه كل أثر للنزعات الغنوصية على اختلافها، والتي تأثر بها فلاسفة الإسلام، والإسماعيلية من الشيعة، وإخوان الصفا وغيرهم، وأبعد عن ميدانه كذلك إلهيات أرسطو وما عَلِقَ بها من نظرية الفيض والاتصال، بحيث يمكن القول فعلًا بأن تصوفه إسلامي الاتجاه.

والغزالي يعلن إعجابه ببعض صوفية القرنين الثالث والرابع من ذوي الاتجاه السني، فهو يأخذ عن الحارث المحاسبي، ويعجب به إعجابًا كبيرًا، على نحو ما يذكر ابن عباد الرندي في (شرح الحكم) قائلًا: «ألف... الإمام أبو عبد الله الحارث المحاسبي كتابًا سماه (النصائح) جمع فيه من معايب النفس وخدعها وغرورها وشرورها جملة شافية، ونبه فيه على سنن دَارِسَةٍ عَافِيَةٍ، مما كان عليه سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم-، مع التفتيش والتفقد والنظر فيما يُصْلِحُ به أعمالهم وأحوالهم وأنفسهم، والمحافظة على تطهير الأسرار والقلوب، والمبالغة في الحذر من محقرات الذنوب».

«وقد نقل الإمام الغزالي –قدس الله سره- منه فصلًا في كتابه -يقصد (الإحياء)-، واعتمد فيه ذكره بلفظه ونص خطابه، وبعد أن أثنى على مؤلفه بما هو أهله، أبان للجاهل به علمه وفضله، فقال في حقه: «والمحاسبي –رحمه الله تعالى- حبر الأمة في علم المعاملة، وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس، وآفات الأعمال، وأغوار العبادات»([35]).

ولعل هذا يفسر لنا غلبة الطابع النفسي الخلقي على تصوف الغزالي، فهو مَعْنِيٌ في تصوفه -كالمحاسبي وغيره من صوفية القرنين الثالث والرابع-، بالنفس الإنسانية وآفاتها، وكيفية الترقي بها أخلاقيًّا، وتصوفه في الجملة تربوي.

ويذكر الغزالي نفسه أنه حين اتجه إلى التصوف قرأ أول ما قرأ كتب صوفية القرنين الثالث والرابع كما وقف على أقوالهم، وظهر له أن التصوف تجربة أساسًا، فليس يكفي الإنسان أن يقرأ كتب الصوفية ليصير صوفيًّا. وهو يذكر من هؤلاء الذين قرأ كتبهم أو وقف على أقوالهم أبا طالب المكي صاحب (قوت القلوب)، والحارث المحاسبي، والجنيد، وغيرهم([36]).

وهو يرى أن حاصل طريقة هؤلاء في التصوف قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله. وهو يرى كذلك أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، وذلك لأن حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به([37]). ولا كذلك الشأن بالنسبة لتصوف أصحاب الشطح عنده، وما تخيلوه من اتحاد أو حلول أو وصول، فهو يرى نطقهم بالشطحيات خطأ لا يليق بالعارفين الكمل.

ويشير في (المنقذ من الضلال) إلى ذلك قائلًا: «ثم يترقى الحال –بالصوفي- من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. ولا يحاول معبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول. وكل ذلك خطأ، وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب (المقصد الأسنى)، بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:

وكان ما كان مما لست أذكره
 

*

فَظَنَّ خَيْرًا ولا تَسْأَلْ عن الخَبَرِ([38])

 

ويرى الغزالي في (الإحياء)([39])أن ضرر الشطح بالنسبة لعوام الناس عظيم، وهو يظهرنا على نوعين من الشطح:

الأول: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله، والوصال الذي يَسْتَغْنِي به بعض المفتونين عن الأعمال الظاهرة، فينتهون إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: «أنا الحق». وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي من قوله: «سبحاني! سبحاني!»، ويرى الغزالي أن: «هذا الفن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوى، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم!».

على أن الغزالي يلتمس العذر للبسطامي، ويؤول شطحياته كقوله: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني»على أنها على سبيل الحكاية عن الله –عز وجل-.

والنوع الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها طائل، ولذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلةإحاطته بمعاني الكلام، ولعدم ممارسته لعلم الشريعة، وعدم قدرته على التعبير، ولا فائدة من هذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب، ويدهش العقول، ويحير الأذهان.

الغزالي إذًا –حتى مع التماسه العذر للبسطامي أو الحلاج أحيانًا- صريح في الإنكار على تصوف أصحاب الشطح، إذ «ربما يسبق لسان الصوفي -من أصحاب الشطح- في هذه الدهشة فيقول: «أنا الحق»، فإن لم يتضح له ما وراء ذلك، اغتر به ووقف عليه وهلك». ويرى الغزالي أنه بهذه العين «نظر النصارى إلى المسيح، فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه، كمن يرى كوكبًا في مرآة أو في الماء فيظن الكوكب في المرآة أو في الماء، فيمد يده إليه ليأخذه»([40]).

ويفضل الغزالي التعبير عما يتوهم أنه اتحاد أو حلول بلفظ (القرب) المشار إليه في الحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به». وهذا –كما يقول الغزالي-: «موضع يجب قبض عنان القلم فيه، فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر، وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد، وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم: «أنا الحق»-يشير إلى الحلاج-... وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل، واستحالة الاتحاد والحلول، واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر، فهم الأقلون!»([41]).

ومع أن الغزالي يتجه إلى التصوف كما رأيت اتجاهًا خالصًا، إلا أن ثقافته الفلسفية قد أكسبته قدرة على السرح، والتحليل، والموازنة في معالجته لمسائل التصوف، كما أكسبته مهارة في نقد ما يخالف التصوف السني من مذاهب، وإثبات ما يريد إثباته من قضاياه، وقد لاحظ ماكدونالد ذلك فقال: «إنه أكسب التصوف مكانة راسخة عند أهل السنة المسلمين»([42]).

فبعد أن فحص الغزالي مذاهب المتكلمين، والفلاسفة، والباطنية انتهى إلى إيثار طريق التصوف، واعتبر الصوفية وحدهم أرباب الحق. ويصف الغزالي طريقة الصوفية بأنها تتم بعلم وعمل، وحاصل علمهم التخلق. وكان طلبه لعلم التصوف من كتبهم أيسر عليه بكثير من العمل، ثم ظهر له بعد ذلك أن أخص خواص الصوفية ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق، والحال، وتبدل الصفات. فالتصوف في رأيه إذًا تجربة ومعاناة حقيقية. ويضرب الغزالي لذلك مثلًا قائلًا: «فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون –الإنسان- صحيحًا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر... وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حد السكر... والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد الصحة.

«فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد، وعزوف النفس عن الدنيا»([43]).

فالصوفية إذًا على حد تعبير الغزالي نفسه: «أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال»([44]).

أقبل الغزالي بكنه همته على طريق الصوفية، وانتهت بذلك أزمته الروحية التي عاناها، وكان الغزالي بذلك صادقًا مع نفسه، فلم يخدعها، وأثبت بذلك قوة الإنسان التي لا يتطرق إليها ضعف في السيطرة على شهواته وأهوائه، فضرب بذلك مثلًا رائعًا لكل من يريد التكمل الخلقي والروحي.

والمتأمل فيما كتب الغزالي عن التصوف يرى أنه جعل منه علمًا بمعنى الكلمة، فهو يكتب فيه بإسهاب وعمق، ويحدد قواعده في دقة منهجية، ويضع آدابه العملية في صورة مفصلة، ولا نجد لهذا كله مثيلًا عند من تقدمه منالصوفية.

ويمكننا القول بأن الغزالي يتصور طريقًا إلى الله بدايته مجاهدة النفس، ثم تترقى النفس بالمجاهدة في مقامات هذا الطريق وأحواله لتصل في النهاية إلى الفناء، والتوحيد، والمعرفة، والسعادة. وفيما يلي بيان ذلك:

1- الطريق:

إذا كان الغزالي قد سجل تطور حياته الروحية في (المنقذ من الضلال)، فإنه قد سجل وصفه لطريق التصوف في (إحياء علوم الدين)، بحيث يمكن القول إن هذا الكتاب كله –على ضخامته- وَصْفٌ لطريق السالك إلى الله من حيث بداياته، ومراحله المختلفة، ونهاياته.

ويجعل الغزالي (إحياء علوم الدين) مُكَوَّنًا من أربعة أقسام رئيسية([45])هي: العبادات، والعادات، والمهلكات ، والمنجيات. ويجعل تحت كل قسم عشرة كتب أو فصول. ويشمل قسم (العبادات): الكلام عن العلم، وقواعد العقائد، والعبادات، وآداب تلاوة القرآن، والأذكار، والدعاء، وترتيب الأوراد. ويشمل قسم (العادات): الآداب المتعلقة بالأكل، والزواج، والكسب، والحلال والحرام، والصحبة، والعزلة، والسفر، والسماع، والوجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

أما قسم (المهلكات) فيعني به الغزالي كل ما يتعلق بالنفس، وشهواتها الحسية، وآفاتها المعنوية كالغضب، والحقد، والحسد، والبخل، والرياء، والغرور وما إلى ذلك.

ويأتي بعد ذلك القسم الرابع والأخير الذي يسميه بــ: (المنجيات)، ويقصد الغزالي بها ما يعرف عند الصوفية بالمقامات والأحوال. ويعرض فيه للتوبة، والصبر، والشكر، والخوفن والرجاء، والفقر، والزهد، والتوحيد، والتوكل، والمحبة، والشوق، والأنس، والرضا. ويتحدث فيه –أيضًا- عن معاني النية، والصدق، والإخلاص، والمراقبة، والمحاسبة، والتفكر، والموت.

ويرى الغزالي أن هذا الترتيب كالضروري، فعلم المعاملة ينقسم إلى: ظاهر، وباطن. والظاهر هو: العلم بأحوال الجوارح، والباطن هو: العلم بأعمال القلوب. وما يجري على الجوارح إما عادة أو عبادة، كما أن الوارد على القلوب من أخلاق النفس فيه ما هو محمود، وهو (المنجيات)، وما هو مذموم وهو (المهلكات)، فكان المجموع بذلك أربعة أقسام.

ويبين الغزالي –أيضًا- أهمية معرفة هذه الأقسام الأربعة لسالك الطريق الصوفي قائلًا: «والعلم بآفات الطريق وغوائله، وجميع ذلك قد أودعناه كتب (إحياء علوم الدين) (الأربعة)، فيعرف -السالك الطريق-: فمن ربع (العبادات) يعرف شروطها فيراعيها، وآفاتها  فيتقيها. ومن ربع (العادات) : أسرار المعايش، وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع، وما هو مستغن عنه فيعرض عنه. ومن ربع (المهلكات) : يعلم جميع العقبات المانعة من طريق الله، فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق، فيعلم المذموم، ويعلم طريق علاجه. وعرف من ربع (المنجيات) الصفات المحمودة التي لابد وأن توضع خَلَفًا للمذمومة بعد محوها... وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب، ويسقط حب الدنيا معه حتى تقوى الإرادة، وتصح به النية، ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها»([46]).

ويقول الغزالي –أيضًا- إن طريق الصوفية راجع إلى: «تطهير محض من جانبك، وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار (للمعرفة)»([47]).

وبهذا يتبين أن الغزالي يرى غاية الطريق الصوفي الترقي الخلقي بالمجاهدة للنفس، وإحلال الأخلاق المحمودة محل المذمومة، حتى يصل السالك إلى المعرفة بالله، فمدار الطريق عنده إذًا على الخُلُقِ.

ويصف الغزالي رياضة النفس أخلاقيًّا بأنها طب القلوب، وهو مقدم عنده على طب الأبدان؛ لأن أمراض الأبدان تؤدي فقط إلى فوات  هذه الحياة، أما أمراض القلوب فتفوت على الإنسان حياة الأبد، وهذا النوع من طب القلوب «واجب تعلمه على كل ذي لب، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت، تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة عللها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: +قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا_[الشمس:9]، وإهمالها هو المراد بقوله: +وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا_[الشمس:10]([48]([49]).

ويظهرنا الغزالي على الوسائل العمليةللرياضة الصوفية، فمنها ضرورة التزام السالك بالأخذ عن الشيخ، فيقول عن ذلك: «فذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه»([50])، و«ليتمسك بشيخه تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه»([51]).

ولابد للشيخ المربي من أن يراعي الفروق الفردية بين المريدين، فلا يشير عليهم بنمط واحد من الرياضة، وإلى ذلك يشير الغزالي بقوله: «فكذلك الشيخ المتبع الذي يطب نفوس المريدين، ويعالج قلوب المسترشدين، ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص، وفي طريق مخصوص، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. كما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة، أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله، وسنه، ومزاجه، وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته»([52]).   

ويشير الغزالي على المريد السالك بالتزام الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر، وهذا من أجل إصلاح قلبه؛ ليشاهد به ربه. وفائدة الخلوة عنده، تفريغ القلب عن الشواغل الدنيوية التي تشكل العقبات الرئيسية في الطريق، إذ ليس سلوك الطريق إلا بقطع العقبات، ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا([53]). ويشير الغزالي إلى أن اصطناع الخلوة مردود إلى اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. وأما الصمت فهو –أيضًا- ذو فائدة للسالك من الناحية الروحية؛ لأن الكلام يشغل القلب، وشَرَهُ القلوب إلى الكلام عظيم! فالصمت كما يقول الغزالي: «يلقح العقل، ويجلب الورع، ويعلم التقوى»، ولكن الغزالي لا يعني بالصمت الامتناع عن الكلام نهائيًّا، وإنما يعني عنده ألا يتكلم للمريد إلا بقدر الضرورة([54]).

أما عن الجوع ففائدته للسالك تنوير القلب، وهو جوع يتدرج فيه السالك، وهو يهذب شهوات البدن. وأما عن السهر فإنه: «يجلو القلب، ويصفيه، وينوره فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع، فيصير القلب كالكوب الدري والمرآة المجلوة، فيلوح فيه جمال الحق. والسهر نتيجة الجوع، فإن السهر مع الشبع غير ممكن، والنوم يقسي القلب ويميته، إلا إذا كان بقدر الضرورة»([55]).

وقد تأثر صوفية الطرق فيما بعد بقواعد السلوك التي وضعها الغزالي في هذا الصدد، خصوصًا الشاذلية([56]). وبهذا يكون أثر الغزالي فيمن جاء بعده غير قاصر على نظريات التصوف، وإنما هو يتجاوزها إلى آدابه العملية.

(2) المعرفة:

يتميز الغزالي عمن سبقه من الصوفية بأنه جعل التصوف طريقًا إلى المعرفة بالله واضح المعالم والحدود. وهو قد أفاض في مصنفاته المختلفة في التصوف، وأبرزها (إحياء علوم الدين) في الكلام عن المعرفة الصوفية من حيث أدائها، ومنهجها، وموضوعها، وغايتها، ومقارنًا بينها وبين معرفة غير الصوفية من النظار المعتمدين على مناهج العقل.

والغزالي في هذا كله يستخدم ثقافاته المنوعة، ومن هنا يمكن اعتبار نظريته في المعرفة نظرية متكاملة إذا قورنت بما خَلَّفَهُ السابقون عليه فيها من أقوال متفرقة([57]). كما اعتبرت هذه النظرية تطورًا ملحوظًا في التصوف الإسلامي.

ويرى الغزالي أن أداة المعرفة الصوفية هي القلب وليس الحواس، ولا العقل. والقلب عنده، ليس تلك اللحمانية المعروفة، المودعة من الجانب الأيسر من صدر الإنسان، وإنما هو اللطيفة الربانية الروحانية التي هي حقيقة الإنسان. وقد يكون لها بالقلب الجسماني تعلق، إلا أن عقول الناس تحيرت في إدراك وجه العلاقة بينهما([58]).

وهو يرى أن القلب كالمرآة، والعلم هو انطباع صور الحقائق في هذه المرآة، فإذا كانت مرآة القلب غير مجلوة، فإنها لاتستطيع أن تعكس حقائق العلوم، والذي يجعل مرآة القلب تصدأ في رأي الغزالي هو شهوات البدن. و«الإقبال على طاعة الله، والإعراض عن مقتضى الشهوات؛ هو الذي يَجْلُو القلب ويصفيه»([59]).

ويرى الغزالي أن المعرفة بالله فطرية([60])، وهي مركوزة في القلب، «فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق؛ لأنه أمر رباني شريف، وهو محل الأمانة التي حملها الله له، وهي المعرفة والتوحيد».

ويسوق مثالًا محسوسًا يبين فيه كيف يكون القلب أداة للمعرفة الصوفية، فيقول: «لو فرضنا حوضًا محفورًا في الأرض احتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض، ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أكثر وأغزر، فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات، حتى يمتلئ علمًا، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة، والعزلة، وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره، ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله»([61]).

ويعطينا الغزالي صورة أخرى للمعرفة الحاصلة في القلب، فيذكر أنها كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود، وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت، وقد يكون مختطفًا([62]).

وواضح أن منهج المعرفة عنده وعند غيره من الصوفية يغاير منهج المتكلمين والفلاسفة فيها، وقد أفاض الغزالي في المقارنة بين المنهجين. وهو يرى أن منهج المعرفة الصوفية هو الكشف.

والمنهج الذي اصطنعه الصوفية ويعرف عندهم بــ: (الكشف) منهج ذوقي خاص، وهو إدراك وجداني مباشر يختلف عن الإدراك الحسي المباشر والإدارك العقلي المباشر أو الحس. ويعرف الطوسي الكشف قائلًا: «الكشف بيان ما يستر على الفهم فيكشف عنه العبد كأنه رأي العين»([63]).

ويقابل (الكشف المباشر) ذلك عند الغزالي (الاستدلال العقلي) الذي ينتقل فيه الذهن من معنى إلى معنى، أو من مقدمات إلى نتائج عند المتكلمين والفلاسفة، فالمعرفة: «قد تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة، ولبعضهم بتعلم واكتساب»([64]). فالصوفية: «انكشف لهم الأمر وفاض على صدروهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، فمن كان لله كان الله له»([65])، و«كل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم، فهي بطريق الكشف والإلهام»([66]).

ويصف الغزالي الكشف أحيانًا بالنور، على نحو ما جاء في وصفه لبيان كيفية وصوله إلى اليقين بعد الشك: «ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام -يشير إلى الاستدلال العقلي-، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله والواسعة»([67]).

ويعتبر الكشف عند الغزالي أرقى مناهج المعرفة، وهو يقسم العارفين من حيث معرفتهم ومناهجهم فيها إلى ثلاثة درجات([68]).

فهناك إنسان عامي منهجه في المعرفة التقليد المحض، وهناك المتكلم الذي منهجه الاستدلال العقلي، ودرجته في رأي الغزالي قريبة من درجة العامي، وهناك بعد هذا وذاك العارف الصوفي الذي منهجه المشاهدة بنور اليقين.

وهو يمثل لمناهج هؤلاء قائلًا: إن العامي إذا أخبره من هو أهل للثقة بأن رجلًا في الدار، صدقه. ولم يخطر بباله خلاف ذلك، والمتكلم مثله، كمن سمع كلام رجل في الدار فاستدل بذلك على وجوده فيها، والصوفي مثله كمن دخل الدار فشاهد الرجل فيها، وهذه المشاهدة هي المعرفة الحقيقية.

وعلى ذلك فإيمان الصوفية ينطوي فيه إيمان العوام والمتكلمين، ثم يميز الصوفية بعد ذلك بمزية استحالة الخطأ؛ لأن مشاهدتهم توجب اليقين.

ويحرص الغزالي على أن يميز بين (كشف الصوفية) و(وحي الأنبياء) حتى لا يخلط الناس بينهما، فيقول في كتابه (إحياء علوم الدين) ما نصه: «اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية –وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنها ألقيت فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم.

«فالذي يكتسب لا بطريق الدليل وحيلة الاكتساب يسمى إلهامًا، والذي يحصل بالاستدلال يمسى اعتبارًا واستبصارًا. 

ثم الواقع في القلب بغير حيلة واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما لا يدري العبد كيف حصل له ومن أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة المَلَكِ».

«والأول يسمى إلهامًا ونفثًا في الروع، والثاني يسمى وحيًّا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله وهو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء... .

فإذا علمت هذا فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون العلوم التعليمية، فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلل وتحصيل ما صنفه المصنفون، والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل من ذلك كان الله هو المتولي لقلب العبد، المتكفل له بتنويره بأنوار العلم»([69]).

ويستفاد من كلام الغزالي هذا أن معرفة خواص الله من أولياء التصوف تتم بلا واسطة من حضرة الحق، ولكنها تختلف عن معرفة النبوة من حيث إنها إلهام أو نفث في الروع لا يدري الصوفي كيف حصل له ولا من أين جاء إليه، على حين أن معرفة الأنبياء وحي يحصل للنبي ويدري النبي سببه، وهو نزول الملك عليه. ومع ذلك فإن كلًّا من النبي والولي موقن بأن العلم في الحالين هو من الله تعالى.

ويرى الغزالي أن موضوع المعرفة الصوفية ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهو أسمى موضوع لأسمى معرفة، فيقول: «وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله، فيه كمال الإنسان، وفي كماله سعادته، وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال»([70]). على أن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله. فما يتجلىمن ذلك للقلب هو الجنة بعينها عند قوم، وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق([71]).

وغايات المعرفة عند الغزالي هي التخلق، والحب لله، والفناء فيه، والسعادة. ذلك أن المعرفة عنده وعند من تقدمه من الصوفية كالقشيري([72])، تهدف إلى غاية أخلاقية؛ لأنها متوقفة على طهارة القلب ونقائه، «والمعرفة علامة الهداية»([73])كما يقول الغزالي، وكلما زادت، زاد التخلق والصفاء.

ويجعل الغزالي حب الله ثمرة لمعرفته، إذ «لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه»([74]). و«لا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه»([75]). و«من أحب غير الله، لا من حيث نسبته إلى الله، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله»([76]).

وفيما يلي نتحدث بشيء من التفصيل عن الغايتين الأخريين وهما: الفناء، والسعادة. 

3- الفناء في التوحيد أو علم المكاشفة:

يظهرنا الغزالي([77])على أن العارف لا يرى إلا الله تعالى، ولا يعرف غيره، ويعلم أنه ليس في الوجود إلا هو وأفعاله، ومَنْ هذه حاله لا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل، ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء، وأرض، وحيوان، وشجر، بل ينظر إلى ذلك كله من حيث إنه صنع الواحد الحق. فكل العالم إذًا تصنيف الله تعالى، فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله، وعرفه من حيث إنه فعل الله، وأحبه من حيث إنه فعل الله، لم يكن ناظرًا إلا في الله، ولا عارفًا إلا بالله، ولا محبًّا إلا لله.

ومن هذا حاله «هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه، بل من حيث إنه عبد الله، فهذا هو الذي يقال فيه: إنه فني في التوحيد، وإنه فني عن نفسه، وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا فَفَنَيْنَا عنا، فَبَقِينَا بلا نحن»([78]).

بهذا الوضوح يصف الغزالي تجربة الفناء في التوحيد الذي هو ثمرة المعرفة، ويعيب على غيره ممن لم يحسن التعبير عنها قائلًا: «فهذه أمور -أي الأمور المتعلقة بالفناء- معلومة عند ذي البصائر، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها، وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها، وبيانها بعبارة مُفْهِمَةٍ مُوصِلَةٍ للغرض إلى الأفهام، أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى»([79]).

على أن الغزالي من ناحية أخرى يرى أن التعبير عن حقائق التوحيد التي تنكشففي حال الفناء بألفاظ اللغة يوقع صاحبه في إشكالات لا حصر لها، فيؤثر لذلك الإمساك عن الخوض فيها. ونجده يقسم علوم التصوف إلى قسمين، الأول: التصوف كعلم المعاملة، وهذا هو ما دونه في (الإحياء). والثاني: التصوف كعلم المكاشفة، وهذا لا رخصة في إيداعه الكتب([80]).

ويرى الغزالي أن الواصل إلى المكاشفة قد خاض لجة الحقائق([81])، وعبر ساحل الأصول والأعمال، واتحد بصفاء التوحيد، وتحقق بمحض الإخلاص، فلم يبق فيه منه شيء أصلًا، بل خمدت بشريته، وفني التفاته إلى صفات البشرية بالكلية. وليس المقصود فناء جسده، وإنما فناء قلبه، وليس المقصود بالقلب ذلك اللحم والدم، بل السر اللطيف. «وهذا (الفناء) مقام من مقامات علوم المكاشفة، منه نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد، وقال: «أن الحق»-يشير هنا إلى الحلاج-... وهو غلط محض يضاهي غلط من يحكم على المرآة بصورة الحمرة إذا ظهر فيها لون الحمرة من مقابلها»([82]).

والغزالي يحوم في الحقيقة فيما يسميه بعلم المكاشفة حول مشكلة الواحد والكثير، وهي مشكلة ميتافيزيقية –أيضًا- يحاول أن يقدم لها حلًا على أساس شعوري لا عقلي من قوله بأن الكثرة والوحدة أمران نستشعرهما بالنسبة للأشياء، فيمكن أن ندرك أن الشي الواحد كثير، كما يمكن أن ندرك الكثير على أنه واحد. فالوحدة ليست وجودية، وإنما شهودية، وإذًا هي شعور يتم عند الصوفي في حال الفناء.

ويعقد الغزالي في (الإحياء) فصلًا عن حقيقة التوحيد يعرض فيه نظريته في هذا الصدد([83]). وهو يقسم التوحيد إلى أربعة مراتب:

الأول: أن يقول الإنسان: لا إله إلا الله بلسانه وقلبه غافل عن معنى قوله، وهذا توحيد المنافقين.

والثانية: أن يُصَدِّقَ بمعنى اللفظ كما صَدَّقَ به عموم المسلمين، وهذا هو اعتقاد العوام.

والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.

والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحد، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية (الفناء في التوحيد).

ويرى الغزالي هذه المرتبة الرابعة أعلى المراتب؛ لأن الموحد هنا «لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد»([84]).

ويفترض الغزالي أن معترض عليه قد يقول: «كيف يتصور أن لا يشاهد (الصوفي) إلا واحدًا، وهو يشاهد السماء، والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحدًا؟»([85]).

ويجيب على هذا الاعتراض في عبارات واضحة للغاية: «اعلم أن هذه غاية  علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تُسَطَّرَ في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر. ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة. نعم، ذكر ما يكسر سَوْرَةَ([86])استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيرًا بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحدًا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار.

وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه، وجسده، وأطرافه، وعروقه، وعظامه، وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد، إذ تقول: إنه إنسان واحد. فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد. وكم من شخص يشاهد إنسانًا ولا يخطر بباله كثرة أمعائه، وعروقه، وأطرافه، وتفصيل روحه، وجسده، وأعضائه. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق... مستغرق بواحد ليس فيه تفريق، كأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقة.

فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار من الاعتبارات واحد، واعتبارات أخر سواه كثير... ومثال الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحدًا»([87]).

وينبه الغزالي المعترض إلى خطأ الإنكار فيقول: «فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها المؤمن لإفلاسه عن مثلها، فلو لم يؤمن كل واحد إلا بما يشاهده من نفسه المظلمة، وقلبه القاسي لضاق مجال الإيمان عليه، هذه أحوال تظهر بعد مجاوزة عقبات، ونيل مقامات كثيرة أدناها الإخلاص وإخراج حظوظ النفس»([88]).

يتبين مما سبق أن الغزالي حريص كل الحرص على الملاءمة بين الفناء والعقيدة الإسلامية في التوحيد، فهو لا ينطلق كأصحاب وحدة الوجود إلى القول بأنه مَا ثَمَّ غير، وإنما يجعل الوحدة التي تتم في حال الشهود غير منافية للكثرة، ويميز بين وجود الله ووجود العالم.

وقد كان الغزالي من هذه الناحية ذا أثر واضح على الشاذلية الذين لم يخرجوا عن حدود الفناء في التوحيد الذي أشار إليه الغزالي([89]). بل إن نيكولسون يرى أنه أوصد بنظريته في التوحيد الباب أمام وحدة الوجود فيقول: «أما الغزالي نفسه فقد تشبث دائمًا بنقطتين جوهريتين لم تُجْرَحْ من أجلهما عقيدته في الإسلام، الأولى: تقديسه للشرع. والثانية: وجهة نظره في الألوهية. فإنه أَوْصَدَ الباب في وجه كل مذهب وحدة الوجود بقوله مع أهل السنة إن الله تعالى ذات واحدة مخالفة للحوداث، وأنه بمقدار ما يتحقق في النفس الإنسانية من صفات الكمال الإلهية، يكون استعدادها لمعرفة الله، وأن العبد عبد، والرب رب، ولن يصير أحدهما الآخر البتة»([90]).

ويشير الأستاذ ستيس –أيضًا- إلى حقيقة نظرية (الفناء في الله)، عند الغزالي (Absorbtion in god) فهو يذكر أن الغزالي في هدوء فلسفي ينكر تفسير هذه التجربة على أنها تقتضي الوحدة مع الله([91])، ويراها بالتأكيد متفقة مع الأثنينية (dualism)، ومذهبه في الفناء ذا طابع سيكولوجي. ويرى ستيس أن «الوصف السيكولوجي (للفناء) لا يقتضي من تلقاء نفسه أي نظرية منطقية أو وجودية في الوحدة أو الكثرة؛ لأن كلا النظريتين تتسق معه... وهو -أي الغزالي- يذكر أن الفناء غيبة الوجود الفردي للذات فقط»([92]).

وعلى ذلك فالغزالي يعطي تفسيرًا (interpretation) لتجربة الفناء مُغَايِرًا لتفسير البسطامي والحلاج، مع أن التجربة واحدة.

4- التعبير عن علم المكاشفة رمزًا:

يتفق الغزالي مع غيره من الصوفية في أن التعبير عن حقائق التوحيد صعب للغاية، ولا تصلح له اللغة العادية. ومع أن أسلوب الغزالي بوجه عام واضح، إلا أن ذلك في نطاق علم المعاملة، أما علم المكاشفة فليس إلى تدوينه من سبيل، وإذا اضطر الصوفي إلى التعبير عنه لم يعبر إلا رمزًا. وفي ذلك يقول الغزالي: «والمقصود من هذا الكتاب -يقصد (إحياء علوم الدين)- علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة، التي لا رخصة في إيداعها الكتب، وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمح نظر الصديقين. وعلم المعاملة طريق إليه، ولكن لم يتكلم الأنبياء –صلوات الله عليهم- مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه، وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال علمًا منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال. والعلماء ورثة الأنبياء، فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والاقتداء»([93]).

ويرى الغزالي أن علم المكاشفة علم خفي لا يعلمه إلا أهل العلم بالله، ولذلك فإن أصحابه يستخدمون رموزًا خاصة، ولا ينبغي التحدث فيه خارج نطاق أهله([94])، ويقول الغزالي: «وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها، ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء من ذلك لِمَنْ لم ينكشف له»([95]).

ولعل الغزالي بهذا يريد أن يبعد نفسه وغيره من الصوفية عن مثل أخطاء البسطامي والحلاج اللَّذَيْنِ عَبَّرَا عن حقائق التوحيد بعبارات موهمة، إذ الصوفي قد يترقى في مشاهدته إلى درجات «يضيق عنها نطاق النطق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح»([96]). وعلى من لابسته تلك الحالة أن لا يزيد في نظر الغزالي على قوله:

وكان ما كان مما لست أذكره
 

*

فَظُنَّ خَيْرًا ولا تَسْأَلْ عن الخبر([97])

 

5- السعادة:

تعتبر السعادة غاية نهائية للطريق الصوفي عند الغزالي. وهي ثمرة المعرفة بالله، وقد خصص الغزالي رسالة لنظرية السعادة هي رسالة (كيمياء السعادة). كما عرض لهذه النظرية بالتفصيل –أيضًا- في مواضع متفرقة من (الإحياء).

ويتميز الغزالي عمن سبقه من الصوفية بأنه جعل السعادة نظرية متكاملة، ولم يكن مَنْ قَبْلَهُ قد تناولوها بالتفصيل، إنما تحدثوا عنها من خلال حالي الطمأنينة والرضا كما سلفت إليه الإشارة.

وهو يرى أن طريق السعادة هو العلم والعمل به، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه، فيكون مطلوبًا لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها، وذريعة إلى القرب من الله تعالى، ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل. ولا يتوصل إلى العمل  إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم»([98]).

ونظرية السعادة عند الغزالي قائمة على نوع من التحليل النفسي. وهو يرتب على كل نوع من أنواع المعرفة نوعًا من اللذة والسعادة([99]).

وسعادة كل شيء في رأيه هي لذته وراحته، ولذته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له هذا الشيء. فلذة العين مثلًا في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وهكذا الشأن في سائر الجوارح، كل جارحة منها لها لذة معينة.

ولذة القلب الخاصة معرفة الله، وهو مخلوق لها، واللذة ثمرة المعرفة؛ لأن الإنسان إذا عرف شيئًا لم يعرفه من قبل فرح به، كالشطرنج مثلًا إذا عرفه الإنسان لم يتركه ولميكنله عنه صبر، فكذلك الأمر بالنسبة لمعرفة الله إذا وقعت في القلب، فرح العارف بها ولم يصبر عن المشاهدة.

ويرى الغزالي أن أَجَلَّ اللذات وأعلاها معرفة الله، ولا يتصور أن يؤثر الإنسان عليها لذة أخرى إلا إذا حُرِمَ من هذه اللذة([100]). وذلك لأنه إذا كان المعروف أَجَلَّ، كانت المعرفة أكبر، وإذا كانت المعرفة أكبر، كانت اللذة أكبر، فيقول عن ذلك: «وكلما كانت المعرفة أكبر، كانت اللذة أكبر، ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو علم بالملك لكان أعظم فرحًا. وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته، فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة ألذ من لذة معرفته، وليس منظرًا أحسن من منظر حضرته»([101]).

ويضاف إلى ما تقدم أن اللذات المتعلقة بالجوارح الظاهرة تبطل بالموت، ولا كذلك اللذة أو السعادة الحاصلة من معرفة الله، فإنها لا تبطل أبدًا، بل إنها في الموت تكون أقوى لخروج الإنسان من الظلمات إلى النور([102]).

والإنسان لا ينعم فقط بمعرفة الله حال الموت، وإنما هو ينعم –أيضًا- بها في حال اليقظة حين يصبح قادرًا على أن يبصر ما يبصره في النوم، فيشاهد الحقائق العليا، وينكشف له عالم الملكوت، وذلك لا يتهيأ له إلا بالانصراف عن شواغل المادة، والحس، واللذات الفانية([103]).

فالكيمياء الحقيقية([104])في خزائن الله، ومحلها قلوب الأولياء العارفين، ولا تتحقق إلا بأن ترجع من الدنيا إلى الله، وسبيلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل من يطلبها من غير هذا الطريق، فقد ضل، وتوهم أنه غني وهو مفلس([105]).

وختاما لعله قد وضح الآن كيف جعل الغزالي من التصوف طريقًا واضح المعالم إلى المعرفة، والفناء في التوحيد، والسعادة. وهو كصوفي قد اكتملت له كل خصائص التصوف.

ويرى نيكولسون فى شىء من المبالغة أن الغزالي: «أعطى للإسلام معنى جديدًا عندما اعترف صراحة بموقف الصوفية... وقد أصبح الإسلام دينًا صوفيًّا إلى حد كبير منذ ذلك الحين»([106])، وهذه العبارة وإن كنا لا نوافق عليها من حيث إن التصوف ليس بجديد على الإسلام، وهو أساس أصيل من أساسه منذ أنزله الله وهو مرتبة الإحسان التى سأل جبريل عنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذه العبارة لا تخلو من كشف عن دور الغزالى فى إبراز وتوضيح هذا الجانب من الإسلام.

وكذلك يرى دي بور أن الغزالي بسط التصوف «ووضعه على أساس واسع، وصار التصوف عند جمهور المسلمين منذ أيام الغزالي دعامة يقوم عليها صرح العلم، وتاجًا على مفرقه»([107]).

على أن نيكولسون مع اعترافه بهذه الأهمية للغزالي في التصوف الإسلامي يصدر عليه حكمًا غير صحيح قائلًا: «ويمكن القول بأن نسبة الغزالي  إلى الإسلام أقوى من نسبته إلى التصوف الإسلامي، وبأنه ليس من صوفية المسلمين بالمعنى الدقيق! لأنه ليس من أصحاب وحدة الوجود»([108]).

ووجه الخطأ في كلام نيكولسون هنا هو أنه اعتبر القول بوحدة الوجود من خصائص التصوف الإسلامي، وهذا غير صحيح، فإن الصوفية حتى عصر الغزالي لم يعرفوا هذا المذهب، ومع ذلك يعتبرهم نيكولسون صوفية، ولم يعرف هذا المذهب في التصوف الإسلامي -كما يقول نيكولسون نفسه في موضع آخر([109])- إلا بمجيء ابن عربي المتوفى سنة 638هـ.

وهذا هو الذي دعانا إلى اعتبار حال الفناء، لا وحدة الوجود، مميزًا للتصوف الإسلامي وغيره؛ لأنه ظاهرة مشتركة بين الصوفية جميعًا، وبعضهم ينطلق منه إلى القول بالاتحاد أو الحلول أو وحدة الوجود، على حين يراه البعض الآخر، ومنهم الغزالي، متفقًا مع القول بالإثنينية بين الله والعالم.

وترجع أهمية الغزالي في التصوف الإسلامي إلى عدة أمور أهمها أنه أثار بقوة مشكلة الشك واليقين، فلم يجعل المعرفة الدينية تقليدًا، أو جدلًا نظريًّا كما هو الشأن عند المتكلمين، وإنما جعلها تجربة ذوقية أساسًا، وحدد معالم هذه التجربة تحديدًا لم يسبق إليه، فأعطى للإسلام في عصره وبعد عصره ذوقًا جديدًا، وعمقًا بعيدًا.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الغزالي صوفيًّا إيجابيًّا عُنِيَ بشئون عصره([110])، فقد وقف في وجه المذاهب الفكرية المنحرفة بقوة، ونقدها نقدًا علميًّا دقيقًا، وكان من الممكن لهذه المذاهب أن تُقَوِّضَ دعائم المجتمعات الإسلامية في عصره لو تركت وشأنها.

 وأمر آخر يثير الإعجاب بالغزالي، وهو أنه مفكر عاش آراءه، فلم يكن ثمة فجوة بين ما يعتقد وما يسلك، ويعتبر تصوفه صورة لحياته، وحياته صورة لتصوفه. وكان في كل مراحل تطوره الروحي صادقًا مع نفسه صدقًا لا يتطرق إليه الشك في نظرنا.

المرجع : مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 182-224)، بتقديم وتأخير وتصرف وإضافة .

 


([1])    انظر في ترجمته وفيات الأعيان: جـ1، ص 586-588، وطبقات الشافعية للسبكي: جـ4، ص 101-172، وإتحاف السادة المتقين للزبيدي: جـ1، ص 2-53. وكتاب سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين، جمع وتحقيق عبد الكريم العثمان، دار الفكر بدمشق.

([2])    طبقات الشافعية: جـ4، ص 102.

([3])    وفيات الأعيان: جـ1، ص 586.

([4])    (الجرف) ما تجرفه السيول، وأكلته الأرض، ومنه المثل: (فلان يبني على جرف هار، لا يدري ما  ليل من نهار). أقرب الموارد للشرتوني، مادة: (الجرف).

([5])    المنقذ من الضلال، بهامش الإنسان الكامل للجيلي: ص 32-33.

([6])    المنقذ من الضلال: ص7.

([7])    (اليفاع): التل المشرف، أو ما ارتفع من الأرض. أقرب الموراد للشرتوني مادة: (اليفاع).

([8])    المنقذ من الضلال: ص 4.

)[9](    Discours de la methode, Oouvres de Descartes, Ed-Joseph Gibert, p 26.

([10])   ألقى بعض الباحثين شكًّا على دوافع خروج الغزالي من بغداد، فقال بعضهم: دفعه إلى ذلك الخوف من الباطنية خصوصًا بعد اغتيالهم نظام الملك. ويرى ماكدونالد أنه كان لاضطراب الأحوال سياسيًا بعد وفاة نظام الملك. سيرة الغزالي: ص 17-22.

([11])   وفيات الأعيان: جـ1، ص 587.

([12])   انظر ما نقله عبد الكريم العثمان عن الزبيدي متعلقًا بمصنفات الغزالي في كتابه (سيرة الغزالي): ص 188 وما بعدها. وهي مرتبة حسب حروف الهجاء، وقد نشر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي كتابًا عن مصنفات الغزالي.

([13])   دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، الترجمة العربية: ص 247.

([14])   وفيات الأعيان: جـ1، ص 587.

)[15](   Hernandez (M.C.): Historia de la philosophia Espanola, Filosofia Hispano-Musulmana, Madeid, 1957, pp.

)[16](   Ibid, pp. 154-155.

)[17](   Are Al-Ghazzali Encyclopedia of Islam.

([18])   انظر المنقذ من الضلال، بهامش الإنسان الكامل: ص10 وما بعدها، وص 22.

([19])   إحياء علوم الدين: جـ1، ص 20، ص 36، ص 87.

([20])   مقدمة ابن خلدون: ص 327.

([21])   المنقذ من الضلال: ص10-11.

([22])   المنقذ من الضلال: ص9.

([23])   أحياء علوم الدين: جـ1، ص 36، ص 86.

([24])   المنقذ من الضلال: ص10.

([25])   المنقذ من الضلال: ص 11.

([26])   المنقذ من الضلال: ص13.

([27])   المنقذ من الضلال: ص17.

([28])   تهافت الفلاسفة، المطبعة الكاثوليكية في بيروت،1962م: ص 48.

([29])   تهافت الفلاسفة: ص49 وما بعدها.

([30])   انظر تفصيل هذه المسألة في التهافت: ص 164وما بعدها.

([31])   تهافت الفلاسفة: ص 235 وما بعدها.

([32])   تهافت الفلاسفة: ص 246.

([33])   المنقذ من الضلال: ص17.

([34])   المنقذ من الضلال: ص 24-25.

([35])   شرح الرندي على الحكم: جـ1، ص 39.

([36])   المنقذ من الضلال: ص 30.

([37])   المنقذ من الضلال: ص 35.

([38])   المنقذ من الضلال: ص 36.

([39])   إحياء علوم الدين: جـ1، ص 32.

([40])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص 350.

([41])   أحياء علوم الدين: جـ4، ص 263.

)[42](   Art. Al-Ghazali, Encyclopadia of Islam.

([43])   المنقذ من الضلال: ص31.

([44])   المنقذ من الضلال: ص 31.

([45])   انظر مقدمة إحياء علوم الدين: جـ3-4.

([46])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 354.

([47])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 17.

([48])   ومعنى (دساها): دسسها في معاصي. فأبدل من إحدى السينات ياء، نحو: تظنيت، وأصله: تظننت. مفردات غريب القرآن للأصفهاني، مادة: (دسى).

([49])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 42.

([50])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 65.

([51])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 65. وانظر أيضًا: ص55.

([52])   إحياء علوم الدين: جـ 2، ص 53.

([53])   إحياء علوم الدين: جـ 3، ص 66.

([54])    إحياء علوم الدين: جـ3، ص66.

([55])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص 65.

([56])   قارن ما ورد في كتابنا (ابن عطاء الله السكندري وتصوفه) عن الرياضات العملية للتصوف عند الشاذلية: ص167 وما بعدها.

([57])   يذكر الغزالي نفسه أن ما يذكره من حقائق التصوف في (إحياء علوم الدين) هو بمثابة تفصيل لما أجمله السابقون عليه، وحل لما عقدوه، وترتيب لما بددوه، ونظم لما فرقوه، ويزيد على ذلك بتحقيق أمور اعتاصت على أفهام السابقين عليه، ولم يتعرض لها أحد منهم في الكتب. (إحياء علوم الدين: جـ1، ص4). والغزالي ليس مبالغًا فيما يذكره عن نفسه، فإن أصالته بالنسبة للسابقين عليه ليست موضع إنكار.

([58])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص3.

([59])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص 12-13. وقارن كمياء السعادة: ص516.

([60])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص12.

([61])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص 17.

([62])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص17.

([63])   اللمع: ص 422.

([64])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص7.

([65])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص16.

([66])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص20.

([67])   المنقذ من الضلال: ص7.

([68])   إحياء علوم الدين: جـ2، ص 13-14.

([69])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص16.

([70])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص8.

([71])   إحياء علوم الدين: جـ3، ص 13.

([72])   الرسالة القشيرية: ص 141.

([73])   كمياء السعادة: ص.

([74])   إحياء علوم الدين: جـ4، ص 254.

([75])   إحياء علوم الدين: جـ4، ص 258.

([76])   إحياء علوم الدين: جـ4، ص 258.

([77])   أحياء علوم الدين: جـ4، ص 276.

([78])   أحياء علوم الدين: جـ4، ص 276، وقارن أيضًا: جـ4، ص 256.

([79])   أحياء علوم الدين: جـ4، ص 276.

([80])   إحياء علوم الدين: جـ1، ص 4، ص 19.

([81])   إحياء علوم الدين: جـ 2، ص 256.

([82])   إحياء علوم الدين: جـ 2، ص 256.

([83])   إحياء علوم الدين: جـ 4، ص 212.

([84])   إحياء علوم الدين: جـ 4، ص 212.

([85])   إحياء علوم الدين: جـ 4، ص 212.

([86])   (سورة) الشيء: شدته. أقرب الموارد للشرتوني، مادة: (سورة).

([87])   إحياء علوم الدين: جـ4، ص 213.

([88])   إحياء علوم الدين: جـ4، ص 305.

([89])   قارن الفصل الذي كتبناه عن شهود الأحدية عند ابن عطاء الله السكندري في كتابنا (ابن عطاء الله السكندري وتصوفه): ص 287 وما بعدها.

([90])   في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص84.

)[91](   Mysticism and Philosophy, p. 116.

)[92](   Mysticism and Philosophy, p. 228.

([93])   أحياء علوم الدين: جـ1، ص 4.

([94])   أحياء علوم الدين: جـ1، ص 19.

([95])   أحياء علوم الدين: جـ4، ص 279.

 ([96])  المنقذ من الضلال: ص 36.

 ([97])  المنقذ من الضلال: ص 36.

 ([98])  إحياء علوم الدين: جـ1، ص 12.

 ([99])  كمياء السعادة: ص 520-521.

 ([100])     إحياء علوم الدين: جـ4، ص 164.

 ([101])     كمياء السعادة: ص 520-521.

 ([102])     كمياء السعادة: ص 521.

 ([103])     كمياء السعادة: ص 516-518.

 ([104])     المقصود بــ: (الكمياء) عند القدماء: صنعة تحويل المعادن إلى ذهب أو فضة. والغزالي يطلق (الكمياء) هنا على تحويل الإنسان من الخُلُقِ الرديء إلى الخُلُقِ الطيب، وهذه الكمياء، لا الكمياء الظاهرية، هي الجديرة بالإنسان.

 ([105])     كمياء السعادة: ص 502.

 ([106])     في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص 84.

 ([107])     تاريخ الفلسفة في الإسلام، الترجمة العربية: ص 247.

 ([108])     في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص 84.

 ([109])     في التصوف الإسلامي وتاريخه: ص 131.

 ([110])     هناك ناحية من نواحي الغزالي لم يلق عليها بعد الضوء الكافي وهي نقده لمجتمعه في عصره، ففي (الإحياء) يتحدث بالتفصيل عن فئات المجتمع آنذاك وينقدها نقدًا بناء، وذلك في فصل عنوانه: (بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف). الإحياء: ص 334-356. وهو فصل ممتع. ومن هذه الفئات التي نقدها الغزالي أهل العلم من الفقهاء، والمتكلمين، والوعاظ، والزهاد، وعلماء اللغة، وأدعياء التصوف، والمغرورون من الصوفية كأهل الشطح منهم، والأغنياء، وعوام الخلق، وغيرهم، وهو في نقده لهذه الفئات يصور أوضاعها الاجتماعية وقيمها الخاطئة.


التقييم الحالي
بناء على 90 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث