نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى – الرمزية فى القرنين الثالث والرابع وظهور الرمزية

من أبرز ما يميز الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع –أيضًا- اصطناع أصحابه لأسلوب الرمز في التعبير عن حقائق التصوف.

ويظهرنا القشيري في (رسالته) على الدوافع التي دفعت أولئك الصوفية إلى اصطناع الرمزية في التعبير قائلًا:

«اعلم أن  من المعلوم أن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها، انفردوا بها عمن سواهم، وتواطئوا عليها لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها. وهذه الطائفة -يقصد الصوفية- مستعملون ألفاظًا فيما بينهم يتم بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والستر على من يُبَاينُهُمْ في طريقتهم؛ لتكون معاني الألفاظ مستبهمة على الأجانب، غَيْرَةً منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معانٍ أودعها الله تعالى قلوب القوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم»([1]).

ويتبين من كلام القشيري أنه أصبحت للصوفية في القرنين الثالث والرابع لغة اصطلاحية خاصة، اتفقوا عليها فيما بينهم، بحيث يفهمونها هم ولا يفهمها غيرهم، بل إنها مبهمة على من ليس بصوفي؛ لأن هذه اللغة تعبر عن أسرار وحقائق ذوقية وَهَبَهَا الله للصوفية، وهم يخشون أن تشيع هذه الحقائق وتلك الأسرار بين مَنْ ليسوا أهلًا لها. وَيُنَبِهُ القشيري هنا –أيضًا- إلى أن الصوفية كانوا يسترون معانيهم عن الأجانب عنهم، ولعله يقصد بذلك الفقهاء الذين بدأت خصومتهم للصوفية منذ القرنين الثالث والرابع تشتد، كما بدأ صراعهم مع الصوفية واضحًا من خلال محاكمات ذي النون المصري([2])، والنوري([3])، وأبي حمزة([4])، والحلاج([5])، وغيرهم([6]).

وبين لنا الطوسي في (اللمع) –أيضًا- معنى الرمز عند صوفية القرنين الثالث والرابع، قائلًا: «الرمز معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، لا يظفر به إلا أهله»([7]).

وهذا يعني أن عبارات الصوفية لهذا العهد لها في الغالب معنيان، أحدهما: يستفاد من ظاهر الألفاظ. والآخر: يستفاد بالتحليل والتعمق. وهو المعنى الخفي، ولذلك قال القناد([8]): "إذا نطقوا، أعجزك مرمى رموزهم. وإن سكنوا، هيهات منك اتصاله".

وقد يطلق على الرمز عند الصوفية (الإشارة) في مقابل (العبارة). فالإشارة عندهم: «ما يخفى على المتكلم كشفه بالعبارات للطافته»([9]). وهي «كناية وتلويح، وإيماء لا تصريح»([10]).

وقال أبو علي الروذباري: «علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفي»([11]). ويقصد الروذباري أن علوم الصوفية لا يمكن التعبير عنها بألفاظ اللغة العادية، وإذا اضطر الصوفي إلى التعبير عنها بهذه الألفاظ، خفي معناها على الغير.

ولما كانت علوم الصوفية متعلقة بالقلب، فقد نبهوا إلى نوعين من الكلام: كلام يخرج من القلب إلى القلب فيحدث أثره، وكلام يخرج من اللسان إلى الآذان ولا يتجاوزها، ولهم في هذا عبارات طريفة.

فمن ذلك ما رواه أبو نعيم قائلًا: «كان قاض يجلس قريبًا من مجلس محمد بن واسع([12])، فقال يومًا وهو يوبخ جلساءه: ما لي أرى القلوب لا تخشع، وما لي أرى العيون لا تدمع، ومالي أرى الجلود لا تقشعر! فقال محمد بن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قِبَلَكَ. إن الذكر إذا خرج من القلب، وقع على القلب»([13]).

وقيل لحمدون القصار: «ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق»([14]).

 ويرى الصوفية أن العلوم الذوقية التي تنكشف لهم تَرِدُ عليهم أول ما تَرِدُ مجملة، فلا تتبين لهم تفاصيل معانيها، فإذا وعوها، وتصرفت أذهانهم فيها بالاعتبار والتأمل تبين لهم ذلك، وظهر موافقتها للشريعة. فالنطق بالعبارات عن مثل هذه العلوم، فضلًا عن صعوبته، فإنه يتم –أحيانًا- على غير إرادة منهم، ودون أن يعرفوا وجهه على التحقيق، وهذا يجعله رمزيًّا شديد الخفاء. وإلى ذلك يشير القشيري بقوله: «وأصحاب الحقائق يجري بحكم التصرف عليهم شيء لا علم لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يكشف لهم عن وجهه، فربما يجري على لسانهم شيء لا يدرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه من شواهد العلم -يقصد الشريعة-([15]).

ولذلك اشترط الصوفية قبل التعبير عن حقائق التصوف عرضها أولًا على الكتاب والسنة. وإليه يشير صوفي مثل رويم بقوله: «أصح الحقائق ما قارن العلم»([16]).

وعندئذ يؤذن للصوفي في الكلام عنها؛ لأنه عندئذ يتكلم بالصواب. وإليه الإشارة، بقول الجنيد: «الصواب كل نطق عن إذن»([17]). وهذا الإذن عندهم مشار إليه في قوله تعالى: +لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا_[النَّبأ:38].

وفي رأينا أن ما يميز الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع من رمزية في التعبير عن حقائق التصوف؛ راجع أساسًا إلى أن صوفية هذا العصر حاولوا أن ينقلوا تجربة نفسية فائقة إلى غيرهم في لغة الأشياء المحسوسة، ولذلك كانت كل كلمة عندهم رمزًا استخدم لا لغرضه المألوف وإنما للتعبير عن حقيقة تفوق الحس([18]).

وألفاظ اللغة موضوعة أصلًا للمحسوسات، ومن هنا بَدَا كلامهم غريبًا على السامعين، ومن هنا جاء الإنكار عليهم من خصومهم، فيقول الكلاباذي: «اصطلحت هذه الطائفة على ألفاظ في علومها، تعارفوها بينهم ورمزوا بها، فأدركه صاحبه، وخفي على السامع الذي لم يحل مقامه. فإما أن يحسن ظنه بالقائل فيقبله ويرجع إلى نفسه فيحكم عليها بقصور فهمه عنه، أو يسوء ظنه به فيُهَوِّس قائله، وينسبه إلى الهذيان»([19]). 

وقال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: «ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظًا أَغْرَبْتُمْ بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد، هل هذا إلا طلب للتمويه، أو ستر لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لِغَيْرَتِنَا عليه لعزته علينا، كيلا يشربها غير طائفتنا»([20]).

ولا ينبغي النظر إلى اصطلاحات الصوفية أو رموزهم على أنها مجرد ألفاظ، بل هي تدل على المعاني التي وضعت لها في حالة حركية (dynamic)، وتصور اتجاه الانفعالات والأفكار التي تعتلج بها نفس المتصوف تصويرًا حيًّا، فهي بمثابة أدوات توقظ مشاعر سامعيها بمعنى الكلمة، بشرط أن يكونوا من أهل الذوق لها.

وهذه الخاصية وهي تعذر التعبير عن حقائق التصوف بألفاظ اللغة (ineffability)، موجودة في كل أنواع التصوف، وقد درس الأستاذ ستيس هذه المسألة بتعمق في كتابه (التصوف والفلسفة) (Mysticism and philosophy) وذلك في فصل خاص عنوانه: (التصوف واللغة)([21])، (Mysticism and language) وهو يعرض فيه النظريات المختلفة التي قيلت في تفسير ذلك.

ويرى ستيس أن تعذر التعبير عن حقائق التصوف بألفاظ اللغة راجع أساسًا إلى أن اللغة مصبوبة في قوالب العقل، والصوفي بالضرورة يعيش في العالم المكاني – الزماني حيث قوانين المنطق. ولما كانت تجربته تنتمي إلى عالم آخر هو عالم الواحد لا الكثير، فهو حين ينتهي من تجربته، ويريد أن ينقل مضمونها إلى الغير، من خلال عملية تذكر لها، تخرج الكلمات من فمه فيدهش حين يجد نفسه يتحدث بالمتناقضات، وهنا يتهم اللغة بالقصور، ويعلن أن تجربته مما لا يمكن التعبير عنه([22]).

ويؤيد ما ذكره ستيس قول الحلاج: «التوحيد خارج عن الكلمة حتى يعبر عنه»([23]). ويؤيده كذلك ما يذكره النفري وهو أحد صوفية القرن الرابع ممن غلبت عليهم الرمزية في التعبير([24])في كتابه (المواقف والمخاطبات): «وقال لي (الحق): الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني»([25]). و«التواجد بالقول يصرف إلى المواجيد بالمقولات، ...والمواجيد بالمقولات كفر على حكم التعريف»([26]). و«كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة»([27]).

وكان ذو النون المصري الذي هو رأس الصوفية كما يقول الجامي أول من استعمل رموز الصوفية فرارًا من اعتراض المعترضين. ولكن ذا النون من معتدلي الصوفية، ويتحدث في مقالاته عن المعرفة الإلهية أكثر من تحدثه عن الاتحاد والوصول.

يقول عبد الله الأنصاري بشأن ذوالنون: وكان قبله مشايخ، ولكنه سبقهم في إيراد الإشارات والعبارات، وتكلَّم عن هذا الطريق، وعندما ظهر الجنيد وضع هذا العلم في طبقة أخرى، وبسطه وأذاعه وألّف فيه الكتب، فلما ظهر الشِّبْليّ حمل هذا العلم إلى المنبر وأماط عنه اللثام.

يقول الجنيد: كنا نتكلم في هذا العلم في البيوت والسراديب خفية فجاء الشِّبْليّ وحمله إلى المنبر ونشره بين أيدي الناس.

قال ذو النون: ارتحلت ثلاث رحلات وعدت بثلاثة علوم، أتيت في الرحلة الأولى بعلم يقبله الخاص والعام، وأتيت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام، وأتيت في الثالثة بعلم لم يأخذ به الخاص ولا العام فبقيت شريدًا طريدًا وحيدًا. وكان الأول علم التوبة وهو علم يتقبله الخاص والعام، وكان العلم الثاني علم التوكل والمعاملة والمحبة يقبله الخاص لا العام. والثالث هو علم الحقيقة الذي لايدركه علم الخلق ولا عقلهم فهجره الناس وأنكروه عليه، حتى انقضت أيام حياته في عام 245هـ([28]).

المراجع :

- مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 163- 168).

- تاريخ التصوف في الإسلام، د.قاسم غني ( ت 1372هـ) ، ترجمه عن الفارسية: صادق نشأت، راجعه: د. أحمد ناجي القيسي، د. محمد مصطفى حلمي، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ط د، 1970م ، (ص 80-81).

 


([1])    الرسالة القشيرية: ص 31. وانظر –أيضًا- كلامًا عن نفس المعنى في (التعرف) للكلاباذي: ص 88-89.

([2])    سعى الفقهاء به إلى المتوكل، فاستحضره من مصر، ولكنه أدرك مكانته ورده مكرمًا. وفيات الأعيان: جـ1، ص 26. اللمع: ص 493.

([3])    أنكر عليه غلام الخليل واتهمه بالزندقة، واستدعاه الخليفة الموفق عدة مرات للتحقيق فيما نسب إليه. اللمع: ص 493- 439.

([4])    اتهمه الفقهاء بالحلول. اللمع: ص 495.

([5])    انظر: ص 149 من هذا الكتاب.

([6])    انظر في صراع الفقهاء مع صوفية القرنين الثالث والرابع، اللمع: ص 497 وما بعدها، والطبقات الكبرى للشعراني: جـ1، ص 13-14.

([7])    اللمع: ص 414.

([8])    القناد هو من صوفية القرنين الثالث والرابع، توفى سنة 224هـ، انظر:

Recueil p. 71.

([9])    اللمع: ص 414.

([10])   شرح الرندي على حكم: جـ1، ص 79.

([11])   اللمع: ص 414.

([12])   من أوائل الزهاد، وانظر ترجمته في الطبقات الكبرى: جـ 2، ص 21-22.

([13])   شرح الرندي على الحكم: جـ، ص 21-22.

([14])   شرح الرندي على الحكم: جـ2، ص 23.

([15])   أورده ابن عباد الرندي في شرح الحكم: جـ2، ص 49.

([16])   شرح الرندي على الحكم: جـ2، ص 50.

([17])   شرح الرندي على الحكم: جـ 2، ص 22.

([18])   قارن:

Bowra (C.M.): The heritage of symbolism, London 1953, pp 4-5.

([19])   التعرف: ص 88.

([20])   التعرف: ص 88-89.

)[21](   Mysticism and philosophy, pp. 227-306.

)[22](   Mysticism and philosophy, p. 304-305.

([23])   أخبار الحلاج: ص 41.

([24])   هو محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، ويقال: إنه توفي بمصر سنة 354هـ.

([25])   (المواقف) طبعة أربري، سلسلة جب التذكارية، 1935م: ص 60.

([26])   المواقف: ص60.

([27])   المواقف: ص 51.

([28])   نفحات الأنس: ص33، طبعة الهند.


التقييم الحالي
بناء على 48 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث