نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - موقف الفقهاء منه


نظرًا لما ذهب إليه الصوفية من القول بالظاهر والباطن والشريعة والحقيقة والسلوك النفسي الحافل بالمراجعة والأحوال والمقامات، وما صحب ذلك من مظاهر خارجية في اللباس والأعمال ثم ما انطوى عليه هذا كله من نظرة في الحياة الدينية والمثل الأعلى للمؤمن والنموذج الأصفى للسلوك في الحياة – فقد كان من الطبيعي أن يهاجمهم من لم يسلكوا هذه السبل ولم يأخذوا بهذا الاتجاه في فهم الدين والحياة المثلى.

فمن أوائل ما لدينا من هجوم على الصوفية ما ورد في كتاب «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع» لأبي الحسين الملطي (المتوفى سنة ۳۷۷هـ) فقد أورد تحت من سماهم الروحانية هجومًا عنيفًا على أنواع من اتجاهات التصوف.

وعلى الرغم من أن الملطي لم يذكر هنا اسم الصوفية ولم يحدد أصحاب هذه الاتجاهات، فإن من الممكن مع ذلك أن نستنتج من بيانه لها أنها اتجاهات عند بعض الصوفية الغلاة، ممن سيدمغهم السراج - وهو أكبر مدافع عن التصوف والصوفية- بأنهم من الصوفية الذين غلطوا في فهم التصوف، ولا ينعتهم بوصف الصوفية الحقيقيين، بل يقول عنهم إنهم من «المترسمين بالتصوف» («اللمع» ص ٤۰۹).

وقد توفى السراج بعد الملطي بعام واحد (الملطي توفى سنة ۳۷۷هـ، والسراج سنة ۳۷۸هـ) فهما متعاصران، ولا بد أن تكون إشارة الملطي إلى الروحانية هي عين إشارة السراج إلى هؤلاء «المترسمين بالتصوف» والذين وقعوا في أغلاط فاحشة في فهمهم للتصوف.

وأوسع هجوم من جانب أهل السنة على التصوف والصوفية هو ما قام به أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (المتوفى سنة٥۹۷هـ) في كتابه المشهور باسم «تلبيس ابليس» (البابان العاشر والحادي عشر، ص ۱٥٥-۳۷۳).

وموقف ابن الجوزي – وهو من كبار المتشددين في السلفية والسنية – مفهوم، على أساس أن التصوف علم مستقل عن الفقه، وسلوك يتجاوز نطاق الظاهر والرسوم الظاهرة. ومن يتصور الإسلام على النحو الذي يفعله ابن الجوزي من الطبيعي أن يرى في التصوف خروجًا على السنة الدقيقة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يلاحظ على كثير من المآخذ التى ذكرها أنه قد أشار إليها بعض الصوفية ومن دافعوا عن التصوف على أنها خروج عن طريق الصوفية وانحراف عن التصوف، أو على حد تعبير السراج «أغلاط» وقع فيها بعض الصوفية.

ثم يأتي ابن تيمية (المتوفى سنة ۷۲۸هـ= ۱۳۲۸م) فيبدي آراء في الصوفية بعضها معتدل، وبعضها الآخر متطرف، ويبين الخلاف في الحكم عليهم فيقول فى كتابه (مختصر الفتاوي المصرية): «وقد تنازع الناس في طريقهم: فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة. وطائفة غلت فجعلت طريقهم أفضل الطرق» ويفصل في هذا الخلاف فيقول: «والصواب أنهم يجتهدون في طاعة الله، فمنهم المذنب والتقي؛ وقد صارت الصوفية ثلاث طبقات: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم. فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم. وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الخوانق والوقوف فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق. وأما صوفية الرسوم: فهم المقتصرون على التشبه بهم في اللباس والآداب الوضعية؛ فهم بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم».

ولكنه في مقابل ذلك يقر بكرامات الأولياء، فيقول: «وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة. وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين وغيرهم. وإنما أنكرها أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن تابعهم. لكن كثيرًا ممن يدعيها أو تدعى له يكون كذابًا أو ملبوسًا عليه. وأيضًا فإنها لا تدل على عصمة صاحبها، ولا على وجوب اتباعه في كل ما يقوله. بل قد تصدر بعض الخوارق، من الكشف وغيره، عن الكفار والسحرة بمواخاتهم للشياطين... ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء، لم يثبت له ولاية ولا إسلام حتى ينظر وقوفه عند الأمر والنهي».

أما المواجيد من السكر والواردات فيرى ابن تيمية أنها «إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقًا عاجزًا عن دفعها –كان محمودًا على ما فعله من الخير، معذورًا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره. وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانه وقساوة قلبه. ومن لم يزل عقله، مع كونه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم وأكمل، فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين – وحال نبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه أسرى به ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى، وأصبح ثابت العقل لم يتغير. فحاله –بلا شك- أكمل من حال موسى الذي خرّ صعقًا لما تجلى ربه لجبل وجعله دكا. وحال موسى حال جليلة فاضلة عَلِيَّة، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل وأعلى».

كذلك يبرر ابن تيمية المقامات والأحوال، بنفس الطريقة أي إذا فهمت بما هي في أصل الدين، دون تجاوز ولا مبالغة. فهو يقول: «أعمال القلوب، التي تسمى المقامات والأحوال، وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين: مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك- كل ذلك واجب على جميع الخلق المأمورين بأصل الدين، باتفاق أئمة الدين».

ولكن ينكر ما ينسبه الصوفية إلى الخضر والقطب الغوث من أوصاف وأفعال خارقة.

وإلى هاهنا وابن تيمية خفيف الوطأة على الصوفية، لأن التصوف الذي يقصده هنا ليس ذلك التصوف الذي سيبدؤه الحلاج ويبلغ أوجّه عند ابن عربي (المتوفي ٦۳۸هـ/ ۱۲٤۰م) والصدر القونوي (المتوفي سنة ۷۲۹هـ/ ۱۳۲۹م) والعفيف التلمساني (المتوفى سنة ٦۹۰هـ/ ۱۲۹۱م) وهو التصوف المتهم بوحدة الوجود والحلول. فهذا النوع يهاجمه ابن تيمية بغاية العنف، وينعت أصحابه بالحلولية والاتحادية.

والخلاصة إذن أن ابن تيمية لا يهاجم التصوف بما هو تصوف، وإنما يهاجم  ما جرى من انحرافات، في نظره، عن طريق التصوف الصحيح. وموقفه في هذا لا يبعد كثيرًا عن موقف السراج والسلمي وغيرهما من أنصار التصوف.

فإذا انتقلنا إلى الأندلس وجدنا إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (المتوفى سنة ۷۹۰هـ) في كتاب «الاعتصام» يأخذ على الصوفية بعض الأمور:

۱) منها الاستناد إلى الرؤيا  في استخراج الأحكام الشرعية.

۲) واجتماع الصوفية للذكر بصوت مرتفع ثم الغناء والرقص والمبالغة في التواجد، والأخذ في الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور.

والشاطبي لا ينكر أحوال الصوفية عامة، بل يرى أن من الواجب أن توزن أحوال الصوفية بميزان الشرع، فإن وافقته كانت صحيحة، وإلا كانت بدعة. ويورد أن أحمد بن حنبل لم ينكر على الحارث المحاسبي سلوكه هو وأصحابه، «الحارث المحاسبي من كبار الصوفية المقتدى بهم».

المرجع : أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 63 - 82) .


التقييم الحالي
بناء على 42 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث